دار نقاش هذه الأيام حول أزمة الحكم وبدائل استراتيجية المعارضة في السودان. حيث قرأت في «الصحافة» الغراء عدة مقالات متميزة حول هذا الموضوع. اذكر منها على سبيل المثال مقال د. حيدر إبراهيم علي «الصحافة 13 سبتمبر» الذي ناقش فيه ورقة أستاذ محمد بشير أحمد، ومقالة د. سعاد إبراهيم عيسى «الصحافة 15 سبتمبر» حول تداول السلطة والطفولة السياسية. وبالأمس تابعت بمتعة مؤتمر حزب العمال البريطاني العريق وهو يختار شأنه في ذلك شأن حزبي المحافظين والأحرار شابا ولد في ديسمبر 1969 «اد ميليباند» لزعامة الحزب. وحزنت أيما حزن لأن السودان رغم أنه من أوائل الدول الإفريقية التي نالت استقلالها، إلا أنه عجز تماما في تأسيس نظام ديمقراطي مستدام. عدم استدامة النظام الديمقراطي في السودان: وأبدأ بفرضية أن النظام الديمقراطي الليبرالي هو النظام السياسي الأمثل الذي يوائم التنوع القبلي والأثني واللغوي والجهوي في السودان. حيث أنه يوفر مراقبة تشريعية للسلطة التنفيذية وشراكة حقيقية للأحزاب وفق ثقلها في المجتمع، ومن ثم يوفر الحلول المتفق عليها مؤسسيا لكل المشاكل الناجمة عن هذا التنوع وما صحبه من اختلافات مكانية شاسعة في مستوى النمو والتطور الاقتصادي والاجتماعي. فبالرغم من أن السودان اسس نظاما ديمقراطيا بعد الاستقلال مباشرة، إلا أن هذا النظام لم يستمر أكثر من عامين، بعدها سلم الحزب الحاكم السلطة لحكومة عبود العسكرية «نوفمبر 1958م». وبعد ستة أعوام من النضال المستمر انطلقت ثورة 21 أكتوبر 1964م التي أفرزت حكما ديمقراطيا استمر خمسة أعوام ونصف العام تقريبا، جاء بعده انقلاب نميري العسكري «مايو 1969م» الذي تحول إلى حكم شمولي قوي سار على نهج ثورة يوليو المصرية، حيث أسس الاتحاد الاشتراكي واستند على الحزب الشيوعي في المرحلة الأولى والأخوان المسلمين في المرحلة الأخيرة بعد أن صفى قيادات الحزب الشيوعي بعد انتفاضة يوليو 1972م، وفي أبريل 1985 إنهارت حكومة نميري العسكرية نتيجة لانتفاضة شعبية عارمة أدت لحكومة السيد/الصادق المهدي التي استمرت اربع سنوات فقط قبل أن يقوضها العسكر مرة ثالثة، حيث انطلقت ما سمي بثورة الإنقاذ «1989م» بدعم محكم من الجبهة الاسلامية. وهكذا يتضح أن كل النظم الديمقراطية التي جاءت نتيجة لنضال الشعب السوداني، عجزت الأحزاب السياسية عن حسن إدارتها وحمايتها وتأمين استدامتها، مما وفر المناخ المناسب للانقلابات العسكرية فحولها لنظم عسكرية ديكتاتورية. والأدهى والأمر تمت هذه الانقلابات العسكرية بدعم الاحزاب التي يفترض أن تحافظ على الديمقراطية وتعض عليها بالنواجذ. كما أن كل الأحزاب الكبيرة شاركت بدرجات متفاوتة في هذه النظم العسكرية، التي استعملت معهم سياسة الجزرة والعصا. ويتضح مما تقدم أن الأحزاب مسؤولة بالدرجة الأولى عن الحد من نمو واستدامة الديمقراطية في السودان، بل وتقويضها بمساندة العسكر فكريا ولوجستيا، وذلك لعدة أسباب من أهمها الآتي: ٭ حرص الأحزاب الشديد على كراسي الحكم والحصول عليها بكل السبل حتى وإن أدت إلى تقويض النظام الديمقراطي بالتحالف مع الجيش. ٭ سعي الأحزاب لاستقطاب «تسييس» بعض ضباط القوات المسلحة، مما أدى إلى تدخلها من حين لآخر في السياسة، والقيام بالانقلابات. ٭ حرص زعماء الأحزاب على الاستمرار في دفة الحزب إلى ما شاء الله. ٭ ضعف أو عدم توفر النهج الديمقراطي في قيادة هذه الأحزاب. وانعدام حرية وشفافية الحوار، وعدم الالتزام بالممارسة الديمقراطية والمؤسسية، وعدم تداول المسؤوليات داخل هذه الأحزاب، مما أدى إلى مزيد من الخلافات والشللية والصراع الداخلي المخل والمنافسة غير الشريفة. وبعض هذه الأحزاب ارتكزت على الولاء التام لزعيم الحزب. حيث أن إمام وزعيم الطائفة هو رئيس الحزب، كما هو الحال في حزبي الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي، مما أدى إلى إلغاء وشل تفكير معظم عضوية الحزب ومن ثم عدم مشاركتها الفعلية في صنع قراراته. وظهرت في الأيام الأخيرة مشكلة أخرى قد تفاقم من الصراعات الداخلية، ألا وهي توريث الأبناء والبنات. ومن يجرؤ على معارضة قرارات الامام أو الزعيم «الباب يفوت جمل». إن دمج زعامة الطائفة والحزب يؤدي موضوعياً وبالضرورة لغياب الديمقراطية في الحزب، لأن الانتماء للطائفة اختيار حر لتوجهاتها الدينية، مما يعني بالضرورة الخضوع لزعيم الطائفة «القيادة الدينية» وإلا لزم الانسلاخ من الطائفة، بينما لا يتطلب الانتماء للحزب الخضوع التام لرئيس الحزب «القيادة السياسية» ويجوز الاختلاف معه وتقديم رأى آخر وقد يكون هو الأصوب. ٭ بالرغم من أن الحزب الشيوعي عريق إلا أنه صغير وتأثيره في تقويم النظام الديمقراطي لا يذكر، حيث أنه شارك في ديكتاتورية مايو وقد تبنت قيادة الحزب انقلاب هاشم العطا، وكان خطأً كبيراً أدى لتصفية قيادة الحزب. ولن تقوم لهذا الحزب قائمة في مجتمع إسلامي خاصة بعد تراجع النظم الشيوعية في العالم. هذا بالرغم من الدور الكبير الذي قام به الحزب عبر اتحادات الطلاب ونقابات العمال في إسقاط حكومة عبود. حيث أن صراعات الحزب الداخلية في غياب الديمقراطية أدت إلى الانقسامات التي شغلت الحزب عن متابعة الأحداث، مما أدى إلى نجاح اتحاد طلاب جامعة الخرطوم تحت قيادة الأخوان المسلمين في سحب البساط من الحزب، مما شوش على قيادة الحزب لثورة اكتوبر. ولكي ينمو هذا الحزب وينتشر لا بد من تغيير اسمه المثير للجدل، والداعي لاتهام اعضائه بالالحاد. كما يجب على الحزب التخلي عن نظرية المادية الجدلية التي في اعتقادي لم تقرأها ولم تؤمن بها معظم قاعدة الحزب وبعض قياداته. أما مبدأ المركزية الديمقراطية فقد أدى لتكريس المركزية واضعاف الحزب. وبالطبع يمكن تعديل هذا المبدأ التنظيمي أو التخلي عنه واتباع النهج الديمقراطي في أداء أعماله ومهامه. ويستحسن أن يركز الحزب الجديد على نظامه الاقتصادي تحت مظلة النظام الديمقراطي مع تعديله ليتوافق مع معتقدات وأعراف المجتمع السوداني المسلم. ٭ حزب الأخوان المسلمين لم يسهم في تقويم الديمقراطية، حيث أنه شارك في دكتاتورية مايو وأسس ديكتاتورية حكومة الإنقاذ قبل تطبيق اتفاقية السلام الشامل. ويحسب لهذا الحزب أنه تطور عبر مراحل سياسية مختلفة إلى جبهة الميثاق الإسلامي والجبهة الإسلامية ثم المؤتمر الوطني الذي إنشق منه المؤتمر الشعبي. ولكنه رغم هذا وذاك ومن خلال اتفاقية السلام الشامل ساهم مع الحركة الشعبية في بدء عملية التحول الديمقراطي. ٭ أما الأحزاب الأيديولوجية (Ideology) الأخرى فهي شرائح صغيرة وليس لها أثر يذكر. ٭ كل هذه الأحزاب ليست لها استراتيجية أو حتى برامج كاملة، ولا تدري ماذا تريد أن تفعل إذا ما آل إليها الحكم. وانعكس كل ذلك في سياسات التخبط والارتجال التي تظهر من حين لآخر من تصريحات قياداتها. Mukhtarmustafa @hotmail.com