المفاهيم الخاطئة اطاحت بالهلال من الأبطال    الوحدة الطبية تؤكد سلامة اللاعب غاسوما فوفانا    بيراميدز المصري إلي نهائ دوري ابطال افريقيا لأول مره في تاريخه    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    نورهن نجيب    شاهد بالفيديو.. حسناء الشاشة السودانية نورهان نجيب تتفاعل في الرقص إحتفالاً بعقد قرانها    شاهد بالفيديو.. حسناء الشاشة السودانية نورهان نجيب تتفاعل في الرقص إحتفالاً بعقد قرانها    شاهد بالصورة والفيديو.. قائد الجيش السوداني "البرهان" يواصل كسر "البروتوكول" ولتقط أجمل "سيلفي" مع المواطنين وساخرون: (حميدتي تعال اتصور كدة كان تقدر)    شاهد بالفيديو.. سيدة الأعمال السودانية هبة كايرو تدخل في وصلة رقص مثيرة مع الفنانة إيمان أم روابة داخل "الكافيه" الذي تملكه بالقاهرة    هجوم عطبرة .. استشهاد عشرة مواطنين وإصابة 21 آخرين بجروح متفاوتة    تدمير مركز مهم في السودان    تبادل لإطلاق النار على خط التماس بين الهند وباكستان    الناطق باسم الجيش في السودان يطلق تصريحات    السودان..تنويه عاجل لفرقة عسكرية    نسب توزيع الوزارات يفجّر خلافات عاصفة وسط تحالف المليشيا    كيكل يهاجم إهمال الدولة لمشروع الجزيرة ويهدد ب"قلع الحق غصباً"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    أنباء جديدة عن حالة مبابي وميندي قبل الكلاسيكو    أرسنال يتعثر.. ونقطة تفصل ليفربول عن اللقب    بسبب التعريفات الجمركية 12 ولاية أميركية تقاضي ترامب    النصر يتوَّج بلقب الدوري الممتاز للسيدات لموسم 2024-2025    الأردن يعلن حظر «الإخوان المسلمين» واعتبارها «جمعية غير شرعية»    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    فينيسيوس مهدد بالإيقاف لمدة عامين    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    حينما يحدثنا هيثم مصطفى كرار عن "أخلاق" يفتقدها منذ صباه وحتى الآن !!    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    ترامب: من حقي ترحيل المهاجرين دون محاكمة    د.عبد اللطيف البوني يكتب: عندما تتوحش الحشائش    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    ارتفاع قياسي في سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    مسخرة محاكمة (حميدتي): قاضٍ يبكي.. ودمى تُحاكم.. وشعب يضحك!    الوحيد في السودان وال15 عالميا .. الحرب تدمر بنك الجينات النباتية    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    تطور جديد في أزمة «بلبن».. والشركة تشكر السيسي على «اهتمامه الأبوي»    توقيع مذكرة تفاهم بين شركات نفط روسية وشركات سودانية ببورتسودان    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    حكومة الجزيرة تعلن دعمها لعودة القطاع الصناعي لدائرة الانتاج    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    أطباء البيت الأبيض يقولون كلمتهم بشأن صحة ترامب    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    غربال الثورة الناعم    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    لا يزال المصلون في مساجد وزوايا وساحات الصلاة في القضارف يلهجون بالدعاء الصادق لله سبحانه وتعالي أن يكسر شوكة المتمردين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجديد والمغايرة عند محمد محمد علي «3-3»
في الذكرى الأربعين
نشر في الصحافة يوم 20 - 10 - 2010

ويرد الاستاذ على رأي يقول بعدم وجود أدب سوداني محلي يختلف عن المادة العربية التقليدية التي تنتج في أغلب البلاد العربية والاسلامية. ويعتقد الباحث ان قبول مثل هذا الرأي يستوجب تجاهل كل الحقائق التي اثبتتها الدراسات الاجتماعية والنفسية والأدبية: «وإلا فكيف نستطيع ان نفهم ان شعوباً مختلفة في طبيعة بلادها، وتجاربها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وان كانت تتواشج بعض التواشج، وتربطها عوامل تاريخية، يكون تكوينها النفسي واحداً، وتبعاً لذلك يكون أدبها متحداً في الموضوع والفكرة والعاطفة والخيال، ولا يكون لاختلاف الظروف مظهر الا في السمات الشكلية!» «ص52». ويؤكد الباحث بهذا النفي خصوصية أدب كل مجتمع مع احتمال وجود العام والمشترك، إذ يقول في موضوع آخر: «إنه بالرغم من اتفاق الآداب العربية في بناء القصيدة، وفي طريقة التناول، وطريقة التصوير في الغالب، تختلف اختلافات جوهرية، في الباعث والموضوع ونوع الشعور ومادة التصوير، الى غير ذلك مما يتصل بالتكوين النفسي للمنشئ، والتكوين النفسي والاجتماعي لقومه» «نفس المصدر، ص56».
يمكن القول إن هذه القضية استراتيجية في فكر الاستاذ محمد محمد علي، لذلك كان حاداً في هجومه على النويهي الذي قلل من أهمية القومية في الأدب السوداني.
ويرى الأستاذ أن النويهي يفتقد المنهج والدراية بالأدب السوداني، وبعد نقاش طويل يختم الاستاذ حواره مع النويهي بقوله: «ونحن ان كنا نحزن لشيء، ونأسى على شيء، فهو هنا الجهد الشاق والضنى والرهق الذي يعانيه الدكتور في مقالاته الطويلة، وهي ليست في شيء. ليس لها موضوع ثابت، وليس لها منهج سليم، انما هي مجرد عناء ورهق. وكنا نود أن لو صرف الدكتور هذا الجهد الشاق في ما يفيد ويمتع، كأن يقرأ الأدب السوداني ما دام متعلقاً به قراءة شاملة دقيقة، تمكنه من تفهم معانيه وأغراضه، ثم يأخذ في دراسته على منهج سليم وطريقة مستقيمة، فيأخذ الشعراء مثلاً شاعراً شاعراً يتقصى آثارهم وظروف حياتهم «...» كل ذلك بعد أن يفهم البيئة السودانية فهماً جيداً فيعاشر سواد الناس ويقف على تقاليدهم وعاداتهم وأخلاقهم ونوع معيشتهم ومعتقداتهم وأذواقهم ويعرف ما يعتزون به من الماضي والحاضر» «ص180».
ونلاحظ تركيز الأستاذ على ان المنهج السليم الدقيق سيوصل بلا شك الى الاعتراف بقومية الأدب السوداني، لأنه سيضع في الاعتبار الظروف الخاصة والمتميزة للمجتمع. ويقول: «إن مهمة الناقد ليس الكشف عن الحقيقة وحدها، وما يريد أن يتعلمه منه القراء ليست الحقيقة النهائية وحدها، فطريقة البحث قد تكون أهم من النتيجة التي يوصلنا اليها البحث. والناقد الحصيف هو الذي يملك طريقة علمية يستطيع ان يستعملها في الأدب، ويستطيع ان يستعملها في السياسة والاجتماع، وفي فهم الناس، ونقد الاخبار والشائعات» «ص182». ويفيد نقاش الاستاذ السابق من زاوية أخرى في ضرورة ادخال الطرق العلمية في الأدب مثله ومثل المعارف الأخرى، وعدم الاقتصار على الحدس او الالهام او الذوق في تحليل الأدب.
ولم يكن حديث الأستاذ محمد محمد علي عن المنهج السليم مجرد دعوة، ولكنه موقف وممارسة ونجد أحسن تطبيق له في دراسته عن الشاعر التيجاني يوسف بشير. كما يظهر تفرد الاستاذ في هذه الدراسة، اذ رغم الاعجاب والهالة التي تحيط بالتيجاني لم يتوان في ان ينقد الشاعر في شجاعة وموضوعية غير متأثر بالآراء السابقة السائدة، متسلحاً فقط بمنهج علمي. ولا يدافع الباحث عن الغموض في شعر التيجاني ولا يخشى من ان يتهم بعدم القدرة على فهم ذلك الشعر. فهو لا يرى في غموض شعر التيجاني دليلاً على عمق وتشعب الافكار ولا على حسن الصنعة وتوليد اللغة وخلق الصور، وان «للغموض أسباباً لا تمت الى العبقرية بصلة». ويعتقد ان التيجاني قد صدق في قوله:
هو فني إذا اكتهلت ومازال في ريق الحداثة فني
ويعلق الاستاذ على ذلك قائلاً: «لكنني اعتقد ان فنه سيكون غير فنه اذا اكتهل. ستتغير نظرته للاشياء والآراء وستتغير نظرة الناس اليه، فتحمله على مراجعة فنه، لأنه سيطرح عن نفسه غرور الحداثة واستعلاءها، ويتحلى بتواضع الكهل وقدرته على الابانة والافصاح عما يدور برأسه من خواطر، وما يخالج نفسه من شعور» «كتاب محاولات في النقد، ص71».
ويعرض الباحث الكثير من النماذج لغموض شعر التيجاني ويتوقف عند ايراد المعميات كما يقول لأن القارئ يستطيع ان يعثر على الكثير، ولكن المهم هو التأكيد على عدم وجود صلة بين العبقرية والغموض كما «انه ليس علينا ان نتخيل ان وراء هذا الابهام معاني واسراراً لم نرزق القدرة على فهمها وتذوقها» «المصدر السابق، ص78».
وأخيراً يرجع الباحث غموض شعر التيجاني الى سببين رئيسيين: أولهما ان أداته في الاداء لم تنضج فهي مازالت في ريق الحداثة الفنية. والثاني يمت بصلة الى السبب الأول، هو ان التيجاني كثيراً ما يهجم على موضوعات لم تعش في نفسه، ولم يكن لها صدى في حياته» «المصدر السابق، ص84».
ولا يسمح المجال بالإسهاب في تعداد افكار الاستاذ، فذاك أمر أكبر من تحقيقه في صحيفة يومية، لهذا السبب نذكر في عجالة بعض مواقفه المتفردة راجين الاسهاب فيها لاحقا، وان يجد القارئ الكريم ايضا فرصة لمتابعتها في مظانها من أجل فهم أفضل لهذا المبدع العظيم. فهو يقول عن نفسه: إنني من اشد الناس مقتاً للتقليد والمقلدين» «ص189» لذلك افرد مثالين للنظر في قواعد اللغة تحت عنوان: «هذا النحو لا حاجة لنا به» و«هذه البلاغة لا حاجة لنا بها». وهو يرى أن كتب النحو المطبوعة والمخطوطة تسد حاجة مدينة كبيرة من الوقود شهوراً «ص97» ومع ذلك لم تخدم تطور اللغة والفن في شيء لأنه لم يعد ينظر اليها كوسيلة الى غاية. كما ان البلاغة قد وضعت في قوالب ومصطلحات تضبط بالرسوم والحدود «ص103» ولم تعد تحمل الا قيمتها التاريخية. وكل هذا ليس فناً لأن الفن في حقيقته مغامرة تحطم القوالب وتهزأ بالمألوف. ولو فقدت الفنون عنصر المغامرة واستكانت لارادة عباد القواعد لجمدت في صورتها الأولى، ولاصبح تاريخ الآداب ضرباً من التكرار الممل، ومثلاً لجمود الإحساس الإنساني وتحجره «ص107» ويذكر في موقع آخر «... والجمال أرحب افقاً واكثر حرية من هذا الأفق المحدود والمضطر، الضيق الذي تحاول البلاغة ان تحصره فيه. الجمال تمرد ورثوه والقواعد استكانة وهمود، والجمال تحليق والقواعد اسفاف «ص108» ويبرز اتساق الباحث فكرياً فتظهر النسبية مرة أخرى عند الحديث عن البلاغة، فهو يرى ان لكل عصر بلاغته «ص109» بل يذهب أبعد من ذلك ويقول: «ان لكل شاعر فحل وكاتب أصيل بلاغته الخاصة المستمدة من طبعه وحروفه وهذا معنى قولهم الاسلوب هو الرجل والاسلوب في حقيقته مجموعة من الخواص النفسية تنعكس على الجمل والتراكيب» «ص110».
ومن مواقفه الشجاعة التي ينتصر فيها للفن والشعر مهما كانت العواقب، هذه المداخلة، ففي تعليق علي كتاب محمد النويهي عن «ابي نواس» يقول: «أراد الدكتور أن يفهمنا ان دعوى ابي نواس شرف الخمر وكرامتها تبدو غريبة عند معظم المسلمين، لأن الاسلام حرم الخمر ووصفها بأنها رجس من عمل الشيطان. وأنا لا أرى ذلك، فالخمر بالرغم من تحريم الاسلام لها ظلت في نظر المسلمين أرقى من سائر الأشربة، ويكفى دليلا على ذلك قول حسان بن ثابت يوم فتح مكة:
اذا ما الأشربات ذكرن يوما
فهن لخالص الراح الفداء
والقرآن الكريم نفسه أشاد بخمر الجنَّة اشادة لم تظفر بها انهار العسل المصفي واللبن، فالمسلمون يعرفون انها متميزة عن سائر الاشربات، وان كانت محرمة لأسباب توجب تحريمها في الدنيا». «ص9»
الأدب والدين
كانت معارك الأستاذ لا تتوقف، ويحارب في العديد من الجبهات لأنه لا يتجنب التحديات. وهو جاهز لأي معترك، ليس بسبب العدوانية ولكنه باحث عن الحقيقة. ولهذا تطرق الأستاذ الى هذا الموضوع الشائك والحساس في حوار مع الأستاذ محمود محمد طه. وليس هذا هو أول نقاش مع الأستاذ محمود، إذ سبق أن وجه له مقالة بعنوان «تكرموا بانزال الفلسفة من السماء الى الارض» وجاء الرد: «أو ما علمت ان الارض قد التحقت بأسباب السماء» «كتاب: رسائل ومقالات. الخرطوم 1973، ص4-9». ولم يواصل الاستاذان نقاش هذا الموضوع لأنه يبدو أن الانطلاقة كانت من خطين متوازيين، وهذا ما عبر عنه الاستاذ محمود محمد طه: «... عنوان بارع يدل من الوهلة، على ما ينتظر القارئ من نظرة عملية وواقعية... ولست أريد أن أطيل وقوفي هنا ولكني لا أحب ان ازايل مقامي هذا قبل ان اؤكد لك ان الارض في تفكيري قد التحقت باسباب السماء.. فلست أرى ارضاً ولا سماء، وانما وحدة اتسقت فيها العوالم من الدراري الى الذراري في غير تفاوت نوع» «ص4».
ويوضح الاستاذ محمد محمد علي في موضوعه عن «الأدب والدين» أنه لا يريد أن يعقد مقارنة بين الأدب والدين للوصول الى أيهما اكثر فائدة؟ لأن مثل هذا العمل لا يخدم أي غرض «فللدين رسالته وللأدب رسالته، والمجتمع الانساني محتاج الى كلتا الرسالتين، وليست احداهما بمغنية عن الأخرى فتيلاً» «محاولات في النقد، ص115».
ومن الجانب الآخر يلخص رأي الاستاذ محمود محمد طه الذي يقول بأن الأدب وسيلة ناقصة ومعيبة للبحث عن الحقيقة، والحقيقة هي معرفة ذات الله. لذلك فالأدب لا يستحق ان نشتغل به وننفق حياتنا في تحصيله وتنميته، والاجدر ان نشتغل بالدين».
ويرى الكاتب أن هذا الرأي غريب وشاذ ولكنه وجد منذ القدم، اذ حقر بعض الفلاسفة الأدب. ولكن الاستاذ وضع محكاً لتقدير النشاط الانساني لا يخضع لرغبات المجتمع واهواء الناس المتباينة، فالهدف لكل نشاط انساني هو معرفة ذات الله. ويقول الشاعر: «وموطن الخطأ في هذا الرأي، أنه يفرض على الأدب غاية ليست غايته، ويحصره في نطاق لا يستوعب حقيقته، ثم يرسله مع الدين في مضمار واحد يستبقان الى تلك الغاية. وعلى هذا فسيكون الأدب من غير شك وسيلة مقصرة معيبة، لانه لا يغني هنا غناء الدين.» «المصدر السابق، ص116». ويلجأ الكاتب الى وسيلة منطقية في تقييم رأي الاستاذ محمود، فكما يقول انه اذا اردت معرفة صحة رأي من الآراء فافرض تعميمه. لذلك يطلب منا ان نتصور ان الناس جميعاً استجابوا الى دعوته فأعرضوا عن العلم والآداب والفنون، وعكفوا على انفسهم يتأملون تأملات صوفية ليصلوا الى معرفة ذات الله! ولذلك يرى الباحث انه ليس هناك ما يبرر حصر أهداف الأدب في غرض واحد، يلم به الأدب في بعض الاحيان كما نرى في أدب المتصوفة، ثم يعرج عن التعريف الذي أورده الاستاذ محمود للأدب «فاما الأدب فهو التعبير عن التجارب الشخصية في اسلوب رشيق» ويرد الباحث بانه تعريف مقبول ولكنه لا يؤيد فكرة الاستاذ بل ينقضها نقضاً، لأنه من الجائز ان يكون الالحاد وتمجيد الاوثان من هذه التجارب الشخصية، ومع ذلك فهي تجارب مقبولة في الأدب الذي عبرت عنه بصورة تلبي شروط الأدب الجيد لأنها تبصرنا بحقائق اجتماعية ونفسية وتطير بنا الى قمم شاهقة من الجمال! وهذا يعني أن طبيعة الأدب مختلفة عن طبيعة الدين حتى في نظر الأستاذ محمود «حسب تعريفه «ص116».
ويستعمل الاستاذ محمد محمد علي منهجه في التفكير ببراعة وذكاء، ويحترم نسبية الحقيقة تماماً، اذ يقول: «والاستاذ يعلم ان الدراسة القيمة المنتجة، هي ان ندرس الشيء ونحكم عليه في حدود طبيعته، اما ان نفرض عليه طبيعة شيء آخر، ثم نأخذ في المفاضلة بينهما فأمر لا خير فيه. وللأستاذ أن يشتغل بالدين وان ينصرف عن الأدب. ولغيره ان يعجب بالأدب ويعكف عليه، فالمسألة مسألة ميل واستعداد قبل ان تكون مسألة رأي وفلسفة. فليس كل من أراد الأدب استجاب له، وسلس له قياده، وليس كل من زاول دراسة الدين وتفهمه، وصل الى هذه الغايات التي يريد الاستاذ الفاضل ان يمنحها حياته ويدعو اليها الناس» «ص116-117» وبسبب هذا التخصص او القدرات فالباحث يرى ان تاريخ الأدب يثبت ان المتصوفة والشعراء الدينيين عاشوا عالة على الشعراء. ويطلب منا ان نرجع الى ما قاله كبار المتصوفة في العشق والهيام والوجد والفناء والاتحاد... الخ. فلن نعثر على أي جديد أضافوه الى ما قاله ابو نواس واضرابه ومجنون ليلى وأمثاله. وحتى في شعر الزهد والندم ومخافة الله ووصف غرور الدنيا نجد ان شعراء المجون كانوا أخصب الهاماً من شعراء المتصوفة «ص117». ويرى الباحث أخيراً ان مثل هذه الدعوة تخلو من السماحة او التسامح الديني في التعامل مع الأدب، لأن النبي الكريم كان يهتز لشعر نصفه غزل ويثيب عليه لذلك فتلك دعوة للانصراف عن النشاط البشري المثمر الى التأملات الصوفية المريضة. «ص120- 121».
ويخلص الكاتب الى القول بأن الأدب والدين حاجة من حاجات المجتمع، ولكل منهما طبيعته وأغراضه. ويبدو أن هذه الاتجاهات التي تدمج كل النشاط الفني في نشاط واحد قد ظهرت في الفكر الإسلامي منذ فترة طويلة، يقول أدونيس عن الشعر وينسحب على الأدب عامة: «.. الأمر الثالث هو نشوء نظرتين في فهم الشعر وكتابته: نظرة تستند الى الاسلام كرؤية وكممارسة، ونظرة تستند الى الشعر ذاته، من حيث انه تجربة متميزة او فعالية انسانية تتصل بأخص خصائصه الانسانية. واستندت النظرة الأولى الى التقليد، اما الثانية فاستندت الى الابداع» «7».
ويعتبر نقاش الاستاذين محمود محمد طه ومحمد محمد علي، من أرقي الحوارات السودانية. ولكن تم غمره، افهم أن يقوم بذلك السلفيون ولكن ماذا دهى الإخوة الجمهوريين وهم المجادلون المحاورون؟هناك إشكالية أوصلت الجمهوريين الى الحساسية تجاه النقد. كما دأب بعض الجمهوريين على تحديد قيمة «المثقف» بمقدار قبوله أو رفضه لافكار الاستاذ محمود. أرجو ان تكون الذكرى الاربعين فرصة لتجديد ذلك الحوار، وفي الأمر تكريم للرجلين العظيمين.
المراجع:
1 . محمد المكي ابراهيم: الفكر السوداني أصوله وتطوره، ص 69.
2 . كارل مانهايم الايديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة عبد الجليل الطاهر 1968م، ص390 وما بعدها.
3- محمد محمد علي: الشعر السوداني في المعارك السياسية 1821-1924م القاهرة، مكتبة الكليات الازهرية 1969، ص7.
4/ نفس المصدر السابق، ص3.
5/ محمد محمد علي: محاولات في النقد، الخرطوم، دار البلد للطباعة والنشر، 1998، ص 32.
6/ الشعر السوداني ... مصدر سابق،ص 67.
7/ أدونيس: الثابت والمتجول، ج3، صدمة الحداثة، بيروت، دار العودة، 1979، ص 236.
٭ سبق نشر أجزاء من هذا الموضوع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.