ولتكن ذكراه في أعماقنا حباً وشوقاً وحنيناً ، تعالوا نوقف عجلة الزمان لحظة ثم نجرها الى الوراء ستة وأربعين عاماً . كان اليوم حينها ثلاثاء أو أربعاء أو خميس من أكتوبر 1964 . العمر اثنا أو ثلاثة عشر ربيعاً وقتها ، والمسرح مدرسة المدينة عرب الوسطى ( حياها الله وسقى أهلها وأساتذتها و طلابها في كل حين من غيوم الفرح ) . جاءنا أستاذنا الكبير خالد محمد الحسن ( أطال الله عمره مع العافية ) و نحن داخل الفصل وهو يمسح العرق الذي تجمع كحبات اللؤلؤ في ( صلعته ) البهية ويأمرنا أن نخرج ونشارك في المظاهرة التي خرجت وفيها كل فئات الشعب ، خرجت تندد بالنظام العسكري القائم آنذاك . بالطبع لم نكن نعي ما يدور في الساحة السياسية آنذاك ، فنحن كنا ( ما كلين وشاربين وقارين والحمد لله ) لذا لم نستوعب المطلوب منا بالضبط ولكن بقليل من مجهود الكبار من الطلاب والأساتذة وبعد أن قالوا لنا إن جميع الطلاب في جميع أنحاء السودان قد خرجوا أصبحنا في اليوم التالي ثواراً من ثوار أكتوبر والغضب يملأ صدورنا تجاه عدو لا نعرفه ، ثم لم نسترح حتى جاء الخبر بانتصار الثورة ، وانقلب الغضب الى فرح لم يزل في القلب منه بقية وحنين . وقبل أن أغادر محطة المدينة عرب والحنين إليها ما زال باقٍ ، زارني في الفصل وقتها أحد الطلاب الذين تم نقلهم إلى المدرسة من جهة ما وقال لي : صحي اسمك يوسف محمد شريف ؟ قلت له نعم ، قال لي ما زحاً : أنا جيتك مخصوص لأنو اسمي محجوب محمد شريف ! وهو الشاعر الوطني المعروف (أطال الله عمره مع العافية ) ، وأصبحت بيننا إلفة وجعل يمازحني كلما لقيني ويقول لي مازحاً ( يازول أنا ربطت الغنم وعلقت للبهائم وانت ما عملت حاجة للبيت ، يقول ذلك تهكماً و باعتباري أخاً له ويجب أن نتقاسم واجبات المنزل ) حياك الله أخي محجوب ولعلك تذكر ذلك جيداً . من اللطائف الأخرى أن دعانا الأستاذ المشرف على الجمعية الأدبية المدرسية أنا وصديقي البروفسير بشرى الفاضل أستاذ الآداب بجامعة الخرطوم سابقاً والذي أعتقد حالياً انه أستاذ بالجامعات الروسية وكان وقتها رئيسا للجمعية الأدبية المدرسية وشخصي سكرتيراً لها ، دعانا وطلب منا أن نرشح له رئيساً للجمعية الأدبية لأننا أوشكنا على التخرج في المدرسة فرشحنا له الطالب النجيب حينها والأستاذ الأديب حالياَ محمد طه القدال ( حياك الله أخي القدال ) ، وقد كان . من الحقائق التي أعتقد أن الشعب السوداني لم يوفها حقها من الدراسة ( خاصة شعب الجنوب ) أن الشرارة التي أشعلت الشارع السوداني في اكتوبر كانت ندوة جامعة الخرطوم حول مسألة الجنوب ! .المسألة التي ظلت عصية على السودانيين ( عسكراً ومدنيين ) حتى تطورت للأسف الشديد الى إنفصال . لم يعد انفصال الجنوب عن جسم الوطن سراً ولا همساً ولا خيالات ولا رؤى ، بل أصبح حقيقة ماثلة من خلال تصريحات المسئولين الكبار في الحركة ومن خلال المظاهرات التي تجوب أرض الجنوب والتي تعكسها الفضائيات ومن خلال الضغوط الأمريكية والغرب ،و أمريكا هذه هي كابوس آخر الزمان والتي أصبحت كريح عاد وثمود ، ما تذر من بلد ( شقي حال ) أتت عليه إلا جعلته كالرميم ! ودونكم فلسطين والعراق وأفغانستان . فما أشبه اليوم بالبارحة فالمصيدة هي هي والتصريحات هي هي والتخويف هو هو إلا أن الإختلاف الوحيد أن الكارثة لم تقع بعد ( والحمد لله ) و ما زال الأمريكان في حالة النصح والوعد والوعيد . في تقديري أن الكارثة لن تقع ، إن شاء الله ، إن نحن تعاملنا مع القضية بالذكاء المطلوب وبالحنكة والعلم والدراية فما زالت ( الكرة ) في ملعب الحكومة إن شاءت أحرزت هدفاً ونجت ونجونا وإن شاءت أخطأت المرمى ووقعت ووقعنا لا سمح الله . الموضوع ليس تخويفاً ولا تخاذلاً ولكن تكتيكاً ومكايدة . والرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة لدى يهودي في ثلاثين صاعاً من الشعير أو التمر (25 كيلو حسب مصادر ) ، وقد خيره الله أن يحول له جبال مكة ذهباً ولكنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلمنا حسن التعامل مع المسلمين ومع غير المسلمين . الوحدة بلا جدال هي الخيار الأول والأفضل ولكنه ليس الأوحد فالإنفصال يمكن أن يكون الخيار الأفضل بعد دراسة التطورات على الساحة وتحليل الأوضاع جميعها تحليلاً ليس صحيحاً فقط ولكنه مع ذلك ذكياً وبناءً فالحرب ( ملحوقة ) وإذا كانت كذلك فلم لا نجرب التصالح مع أمريكا على الأقل لمدة عشرين عاماً فقط بعد ما عاديناها عشرون عاماً ولقينا ما لقينا من الحصار والعقوبات وما الوضع الحرج والغريب الذي نحن فيه الآن إلا من مكر أمريكا فدعونا نصالحها عشرين سنة ونقبل بنصيحتها ورؤاها ومساعدتها في حل مشكلة الجنوب ثم ننتظر لنرى ما يكون بعد لعله خير ، ولنا فسحة في ديننا لنتقي شر العدو مؤقتاً : قال الله تعالى ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ) آية 28 - آل عمران . من الأفكار العجيبة أن أحد العلماء المرموقين وهو الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ( عالم سوري ) يرى أن الإسلام في آخر الزمان سينتصر بأمريكا !! أما بالنسبة لإخوتنا في الجنوب قال سبحان من قائل هادياً لنا : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير . )- آية 13 من سورة الحجرات . وقال عز من قائل ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) - آيتين 8، 9 من سورة الممتحنة . وتقسطوا اليهم أي تعدلوا والعدل مع الآخرين ( ولو كانوا على غير الإسلام ) في حكم الواجب عند المسلمين . الإخوة في جنوبالوادي هم الآن في حالة ثورة ونضال و يريدون أن يتمتعوا بحكم أنفسهم بأنفسهم وفي ذاكرتهم الدول التي نالت استقلالها بعد نضال مرير ، فلا سبيل عندهم أبدا للتراجع وهم في هذا يحلمون بإنشاء دولة أفريقية حديثة تضاهي جنوب أفريقيا أو أكثر حداثة ، دولة بها المنشآت الحديثة من كل لون وشكل وبها الطرق والمصانع والمستشفيات على أحدث طراز ، وبها الملاعب الرياضية الضخمة التي يمكن أن تستضيف المونديال وترجو أن يكون ذلك عام 50 ، ربما . تريد أن يعيش شعبها على أعلى درجات الرفاهية يجد فيها المواطن الغذاء والكساء والدواء من غير عناء ولا تعب ، دولة تتمتع بالديمقراطية الحقيقية والشفافة وتتمتع بدستور دائم يحكم مسارها ويضمن استقرارها . هذا الحلم لم يأتِ اعتباطاً ولكن جاء بعد أن اقتنعوا تماماً أن الشمال مهما فعل ومهما تنازل سوف لن يحقق لهم الحلم الكبير ، فأمريكا عندهم أكبر وأقدر على تحقيق الحلم ، وهم يرون أن الحوافز التي تعد الحكومة بتقديمها لهم متواضعة جداً بالنسبة للحلم الكبير ، وليت إخوتنا في الجنوب كانوا يعلمون بواطن الأمور كما يعلمون ظواهرها فصبروا على إخوتهم في الشمال ووضعوا أيديهم على أيديهم وجعلوا حلمهم الكبير ، والذي هو حلم الشمال يتحقق بالوحدة لا بالبعاد والإنفصال . أخلص الى أن واجب الحكومة في هذه المرحلة الحرجة أن يتذكروا لماذا مات الضبع ، وأن يتعاملوا مع أمريكا ( من واقع تتداعى عليكم الأمم ( يعني المتحدة ) كما تتداعي القصعة على أكلتها ) و بالمهادنة و المكر والدهاء وأن يفوتوا عليها الفرصة وذلك بقبول الحلول التي تقترحها وأن تقبل بنتيجة الإستفتاء وهي الإنفصال وأن تتنازل بقدر المستطاع في قضايا ما بعد الإستفتاء أو بالأحرى ما بعد الإنفصال وننصح الحكومة بالأخذ بما يقوله الخبراء والمختصون في الندوات الهامة مثل الندوة التي أقامها بنك فيصل الإسلامي بقاعة الصداقة بعنوان ( مآلات الإستفتاء وتداعياتها على السودان ) ففيها مقترحات ممتازة بحق وحقيقة فيما يخص الحدود والأمن والسكان والتعامل والتبادل التجاري والإقتصادي مع الدولة الوليدة واتخاذ تلك المحاور محاور للحوار بعد تطويرها مع الحركة في الاجتماع المزمع بأديس بحضور أمريكا مع ملاحظة أن المسئولين الجنوبيين هم أيضاً لهم مقترحات ذكية فيما يخص الجنسية وحقوق التملك والتنقل وغيره والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذ بها ، فقط المطلوب منهم التنازل ما استطاعوا .. وأكرر الحرب ( ملحوقة ولها وقتها ) ، والعاقبة للمتقين . [email protected]