«العدالة لا تتحدث لغة الهنود الحمر العدالة تهبط حيث يسكن الفقراء العدالة لا تنتعل الأحذية التي ننتعلها نحن ولا تمشي حافية القدمين على دروب هذه الأرض» «أمبرتو أكابال - وردة الأكفان الصفراء» إذا كان الشرط المكتمل لقراءة «بريخت» يتمثل في متعة القارئ، وهو يعطيه ترياقاً مضاداً لزيف الكتابة، فإن النجاح حليفه والمتعة من أخوات النجاح، وباكتمال هذه اللوحة يمكننا فرز أدواته بمجهر النقد دون انبهار أو عقدة، وتصبح بالتالي أدوات الفرز النقدي في حالة توغل دائم لابراز النجاح وليس الفشل الذي نراه أحياناً يطل للقارئ من عنوان الكتاب وأحياناً اسمه، فبعض الأسماء منفرة بظهورها قبل اكتمال أدواتها، وبالتالي يرفضها القارئ «يا جماعة ما تنشروا هرولة للشهرة فتندموا». ويشير د. عمارة ناصر في كتابه المهم «اللغة والتأويل» «إنبناء اللغة، هو الضمان الأساسي لوجود الحقيقة، ومع أنها تنوب عن العالم في تعبيريته من خلال ترميزه، فإن الرمز، هو الاختراق المتعدد الأبعاد لوضعية الفهم، لذا أصبح ضرورياً فهم اللغة لفهم العالم». وفي نصه «دائرة الطباشير الأوغسبورغية تتجلى الكتابة الحقيقية وروحها، والروح الكتابة، فلسفتها وخطابها «في زمن حرب الثلاثين، كان هناك بروتستانتي سويسري اسمه تسينغلي يملك مدبغة كبيرة مع متجر للجلود في المدينة الملكية الحرة أوغسبورغ على نهر الليش، كان متزوجاً بامرأة أوغسبورغية وله طفل منها، وعندما زحف الكاثوليك على المدينة نصحه أصدقاؤه وألحوا عليه بالهروب». ويشير الهامش إلى حرب الثلاثين بأنها بدأت في عام 1618م وانتهت في عام 1648م، وأوغسبورغ هي مدينة الأديب. بروتستانتي سويسري، صاحب مدبغة، ومتزوج من امرأة أوغسبورغية، حلت في أرضهم الحرب، وهي حرب دينية يغيب فيها التسامح والتصاهر، والطفل الذي يجمع بينهما، بروتستانت وكاثوليك، تموت المحنة والعطف على باب التعصب.. إنه انفصال عُرى الإخوة والدم. «عندما اقتحمت القوات القيصرية المدينة، كان هو ما يزال فيها، فلما جرى السلب والنهب مساءً، اختبأ في حفرة في الحوش، حيث تحفظ الأصباغ، وكان على زوجته أن ترحل مع طفلها، لكنها استغرقت وقتاً طويلاً، فجأة رأت فصيلاً من الجنود يقتحمون الحوش، فتركت من ذعرها كل شيء في موضعه وهرعت هاربة عبر الباب الخلفي». حفرة في الحوش، والحوش كلمة دارجة سودانية لا تزال حية، وحتى الأثرياء ينامون في «الحوش» هذه المساحة الكبيرة التي في ظل هجمة العمارة المطلية بالألمونيوم، أصبحت تتقلص، تقلص الطيبة و«الحنية» السودانية. ورحل عن عالمنا مأسوفاً عليهم الحوش والحبوبة والأحاجي. «امتلأ البهو بالجنود السكارى الذين كانوا يحطمون كل ما يصادفونه.. كانوا يعلمون أنهم موجودون في بيت بروتستانتي، وبما يشبه المعجزة بقيت الخادمة أنَّا أثناء التفتيش والنهب غير مكتشفة». تجد الخادمة نفسها أمام طفل في مهده يحتاج رعاية بعد خروجها من ورطة الجنود السكارى، وتفكر بعدها في تبني الطفل، وفي رسم بديع يرسم بريخت لوحة التبني وعقد الزواج «عادت أنَّا سعيدة من عرسها الغريب الذي لم يكن فيه لا قرع أجراس ولا موسيقى، لا صبايا ولا ضيوف. واقتصرت وليمة زواجها على تناول قطعة خبز مع شريحة لحم في حجرة الطعام، ثم وقفت مع أخيها أمام الصندوقة حيث يرقد الطفل، الذي أصبح له الآن اسم». وتظهر الأم الحقيقية، وتكون المحكمة الفصل «عاد القاضي واستلم الحديث وهو يتنهد، قال انه لم يتبين من هي الأم الحقيقية، الأسف على الطفل، يسمع المرء كثيراً عن آباء يتملصون ولا يريدون أن يكونوا آباء هؤلاء الانذال». «استمعت المحكمة بالقدر الذي تستحقانه، وصلت المحكمة إلى القناعة بأن كلاهما تكذبان، على أنه يجب التفكير في الطفل، فهو يحتاج ولا بد إلى أم. يجب إذن دون كثرة ثرثرة اثبات من هي الأم الحقيقية». «وبصوت ممتعض نادى خادم المحكمة وأمره أن يجلب طبشوراً، فذهب خادم المحكمة وجلب قطعة طباشير، فوجهه القاضي قائلاً: أرسم بالطبشور هناك على الأرض دائرة تتسع لوقوف ثلاثة أشخاص، فانحنى الخادم ورسم بالطبشور الدائرة المطلوبة، ثم أمره القاضي: الآن أحضر الطفل». «تابع القاضي موجهاً كلامه إلى السيدة تسينغلي وإلى أنَّا: قفا أنتما أيضاً ضمن الدائرة ولتمسك كل واحدة منكما باحدى يدي الطفل وعندما أقول «ابتدئ» عندئذٍ حاولا أن تسحبا الطفل إلى خارج الدائرة، والتي تملك من بينكما محبة أقوى، سوف تسحب بقوة أكبر وتجذبه إلى ناحيتها». «بسحبة قوية واحدة انتزعت السيدة تسينغلي الطفل خارج الدائرة وتطلعت أنَّا إليه متكدرة وغير مصَّدقة، فمن خوفها أن يتأذى من سحبه بذراعيه إلى اتجاهين متعاكسين في نفس الوقت أفلتته مباشرة». «وقف دولينغز العجوز وقال بصوت عالٍ: بذلك نعلم من هي الأم الحقيقية، خذوا الطفل من هذه الشخنة ستمزقه بكل برود، وأومأ لأنَّا وخرج مسرعاً من القاعة إلى فطوره». «في الأسابيع التالية تناقل فلاحو الضواحي الذين لم ينخدعوا بما جرى، بأن القاضي، عندما حكم للمرأة الميرنغية بالطفل، قد غمزها بعينيه». في نصه «قصص عن السيد كوينر» تذكر شخصية «السيد كاف»، وهي شخصية تتكرر تحت نفس العنوان في قصص قصيرة جداً، ولكن نقرأ في «السيد كاف والطبيعة» «سُئل السيد كاف عن علاقته بالطبيعة فقال: اتمنى أحياناً وأنا خارج من المنزل أن أرى بعض الأشجار خصوصاً لأنها تصل بتغير مظهره المتناسب مع أوقات اليوم والفصول إلى درجة فائقة الواقعية». «تمثل الأشجار على الأقل بالنسبة لي أنا الذي لست نجاراً شيئاً قائماً بذاته يبعث على الارتياح، شيئاً غير متعلق بي، بل أنا لآمل أن تمثل حتى بالنسبة للنجار شيئاً لذاتها مما لا يمكن تقييمه»، كما قال السيد كاف: «كان من الضروري بالنسبة لنا أن نستخدم الطبيعة بشكل مقتصد، فالحياة في الطبيعة دون عمل توقع المرء بسهولة في حالة مرضية فيصيبه ما يشبه الحمى». وقصص السيد «كاف» على قصرها إلا أنها ذات دلالات خاصة، وفيها تتجلى «إجاعة اللغة وتكثيف المعنى» وتصدر فيها من الصور الانسانية ما يعادل قراءة كتاب في باب من أبواب المعرفة، المعرفة الانسانية في أبعادها شتى، قد يقول قائل: إن هذه الكتابة تخرج من القصة إلى المقال أو التقريرية، وهذا سؤال مشروع، ولكن أقول إنها ليست كذلك فهي تتوفر فيها كل شروط القصة. ولكن ماذا لو أننا أخذنا ما كتبه محمود درويش في رثاء ممدوح عدوان «كما لو نودى بشاعر أن أنهض» ووضعناه على مشرط جراحة القصة القصيرة، وتجردنا من التسميات المحفوظة وقرأناه بعيداً عن النثر وقصيدته «في عام واحد ولدنا مع فارق طفيف في الساعات وفي الجهات. ولدنا لنتدرب على اللعب البرئ بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تُدقه النساء الجميلات، كحبة جوز بكعوب أحذيتهن العالية». هذه القطعة تمثل حياة إنسان كاملة من المهد إلى اللحد.. ألا ترون فيها السيد «كاف» وأقصوصة إني أراها. وفي نصه «تنظيم» قال السيد كاف مرة «الإنسان المفكر لا يستعمل ضوءاً أكثر مما يلزم ولا قطعة خبز أكثر ما يلزم، ولا فكرة أكثر ما يلزم». وفي نصه «السيد كاف في مسكن غريب» «فيما كان السيد كاف يدخل مسكناً غريباً، وقبل أن يستسلم للراحة، نظر إلى مخارج البيت ولا شيء آخر لدى سؤاله أجاب محرجاً: هذه عادة غليظة قديمة، فأنا مع العدالة، لذا من الجيِّد أن يكون لمنزلي أكثر من مخرج واحد». ولكن ثمة مقارنة مدهشة قد تبلور لنا أزمنة بريخت وسخريته، أزمنته التي يرسمها بريشة كاتب عظيم يعرف كيف يخاطب النفس الإنسانية والسخرية في لعبة المفارقة التي يجيدها، ولعل المقارنة الأبرز تلك التي رسمها «كارل راغنارجيرو» «المتشائم الصارخ في البرية» عن صمويل بيكيت «إن مزج مخيلة جبارة مع منطق في حال من العبث، سوف يعطي واحدة من نتيجتين: إما المفارقة أو الارلندي. فإذا كانت النتيجة هي الثانية، فإنك ستضع المفارقة في مقايضة». وفي نصه «عندما يحب السيد كاف إنساناً» «سئل السيد كاف ماذا تفعل إذا أحببت إنساناً؟ فقال: أضع عنه رسماً وأسعى لأن يكون شبيهاً به من؟ الرسم قال السيد كاف لا، الإنسان». «نجاح» «رأى السيد كاف ممثلة تمر به فقال: إنها جميلة، قال مرافقه: «لقد أحرزت حديثاً نجاحاً لأنها جميلة، فامتعض السيد كاف وقال: هي جميلة لأنها أحرزت نجاحاً». «المديح» «عندما سمع السيد كاف أن بعض تلامذته السابقين مدحوه، قال: بعد أن يكون التلاميذ قد نسوا تماماً أخطاء المعلم يكون هو بالذات مازال يذكرها». اكتفي بهذه الحلقات وقد أعود يوماً لبريخت ورزنامته.