التعداد السكانى الخامس لم تنشر تفاصيله بعد، لكن التعداد السكانى الرابع ابان ان التنوع والتداخل هو السمة العامة للتركيبة السكانية فى جنوب كردفان، فالسكان البالغ عددهم ستين وخمسمائة وثلاثة الآف ومليون نسمة، يتوزعون فى اربع مجموعات قبلية اساسية، وهى المجموعة النوبية وتشكل37%، ومجموعة القبائل العربية33%، ومجموعة القبائل النيجيرية 18%، ومجموعة قبائل دارفور10%، وتتوزع ال 2% الباقية بين المجموعات الاثنية الاخرى «بيانات التعداد السكاني الرابع 1993م». لكن رغم هذا التقسيم إلا أن الحدود الفاصلة بين هذه المجموعات الاثنية ضعيفة للتواصل والتداخل العرقى والثقافى الذى حدث، خاصة بين المجموعة العربية والمجموعة النوبية. ومن الملاحظات الجديرة بالانتباه أن هذه المجموعات القبلية لا تمثل كتلا بشرية متجانسة، فالمجموعة النوبية تضم فروعاً مختلفة عن بعضها البعض عرقياً وثقافياً واجتماعياً اختلافاً كبيراً، اذ تبلغ فى مجملها اكثر من 50 فرعاً، بل فيها فروع لا تعترف أصلا بانتمائها للنوبة مثل بعض فروع «تقلى»، وهنالك فروع ذات تحالفات وثقافات عربية أقوى من ثقافتها النوبية خاصة فى مناطق تلودى والليرى والدلنج. هذه المداخلة هى محاولة لتأمل الثقافتين السائدتين فى المنطقة واللتين تشكلان الخلفية التى تنطلق منها كل مجموعة من هاتين المجموعتين القبليتين الكبيرتين، وهما المجموعة النوبية والمجموعة العربية البدوية المعروفة بالبقارة. وما نريد ان نلفت النظر اليه ابتداءً، اننا عندما نتحدث عن ثقافة النوبة او ثقافة البقارة، فإنما نتحدث عن الأصل فى هذه الثقافات، بغض النظر عن التحولات التى حدثت بفعل الحراك الاجتماعى والتداخل العرقى، فكل فرع من هذه الفروع يقترب أو يبتعد من هذا الاصل بدرجات متفاوتة حسب مدى التداخل الاجتماعى والتواصل الثقافى والتناقل الفكرى الذى حدث بحكم وجود المجموعتين فى رقعة جغرافية واحدة، ولا مجال هنا لاعطاء امثلة للتفاعل الثقافى الاجتماعى بين العرب والنوبة فى جنوب كردفان، ويمكن الرجوع الى ما كتبه د. حامد البشير حول تنوُّب العرب وتعرُّب النوبة، ورسالة الشهيد د. جابر لنيل درجة الماجستير في اللغة العربية حول لغة الحوازمة. ويمكن تلخيص ثقافة النوبة باختصار شديد في أنها ثقافة سيطرة، لأنها فى الاصل ثقافة مكان ومكان محدد، فالنوباوى نظرته مركزة على الأشياء وحب تملكها والسيطرة عليها، فهو يميل دائما الى ان يتعامل مع محدودات ومحسوبات فى كل جانب من جوانب حياته، ففى مجال السكن مثلا فهو شديد الارتباط بالمكان الذى كان سفح الجبل سابقاً، وامتد الآن بعد تأثير الحياة الحضرية من جهة والحياة البدوية من جهة اخرى، الى المدن والسهول المحيطة بالجبال. والنوباوى كثير الحديث عن الأرض وتظهر فيها غريزته الطبيعية فى حب التملك والسيطرة، كما يظهر ميله للتجويد والتحسين وحسن التنظيم، فالنواحى الجمالية فى مساكن النوبة واضحة رغم محدودية الامكانيات، فالمنازل مبنية من الطين والحجر والقش، لكنها ذات تنظيم بديع رائع. أما بالنسبة للاراضى الزراعية فهو يميل الى التعامل مع المساحات المحدودة المحيطة بمسكنه، رغم وجود عوامل تحد من النزعة التوسعية كضعف الامكانيات المادية وخصوبة التربة التى تجعله يكتفى بالمساحات الصغيرة. ومثلت ملكية الارض جانبا اساسيا فى الصراع المسلح فى جبال النوبة، بل فى مسودات اتفاقية جبال النوبة للسلام كانت هنالك محاولات مستميتة لتحويل ملكية الأرض من ملكية على الشيوع كما فى قوانين اراضى جمهورية السودان، الى ملك حر لما يعرف بالسكان الاصليين، حسب الإدعاء الوارد فى المسودات الاولى التى قدمها فصيل جبال النوبة التى لاقت اعتراضا واسعا انتهى برفضها، إذن التقيد الشديد بالارض هو السمة السائدة فى ثقافة النوبة، وما حياة الترحال التى طرأت على بعض قبائل النوبة الرعوية الا تطوراً جديدا واثراً من آثار الثقافة العربية البدوية المكتسبة. ومن محاسن هذه الثقافة التجويد وحسن التنظيم والاهتمام بالتفاصيل. ومن عيوبها قصر النظر وعدم الاهتمام بالمآلات البعيدة للأمور. وتنعكس ثقافة السيطرة والتقيد كذلك على النواحى التعبدية للنوبة، فهم يميلون إلى التعامل مع المحسوسات، فتمسكهم بعبادة الاصنام لزمن اطول مظهر من المظاهر، بل لا يزال عدد كبير منهم وحتى الآن يتعامل مع الاسبار والكجور لتجسيد إله ملموس، هروبا من التعامل مع الغيبيات وما وراءها. وهم بذلك اكثر استعدادا للتقييد والتخلي عن الحرية. وقد وجد المستعمر فى النوبة استعداداً اكبر للاسترقاق والاستعباد وأعمال السخرة، عكس البدو«البقارة»، فهم على النقيض تماما، فثقافتهم ثقافة حرية وانطلاق، وهم اهل إنفة وتوحش، وغير ميالين للتعامل مع المحدودات والمحسوسات، ويعشقون الحرية والانطلاق فى الفضاءات الرحبة، وهم اقل ارتباطا بالارض رغم ما يظهر فى اشعارهم القديمة والحديثة من حنين الى الديار، لكن عادتهم وطبيعة حياتهم أنهم لا يستقرون فى مكان حتى يفكروا فى الرحيل الى مكان جديد، ومن اقوالهم «الرحيل عز العرب» وهم مستعدون لكسر كل القيود التى تحد من حركتهم، ومن اغانيهم «نحن درك شدينا قاسى للمابينا» وهى من اغانى الاعراس عندهم وتعنى «نحن اهل مخاطرة ومغامرة ركبنا زواملنا استعدادا للحركة لا يهمنا من يرفض»، لاحظ علو نبرة التحدى فى مقطع الاغنية، وحتى الآن يعتبر ترسيم حدود محددة للبدو من اصعب الاعمال، ومحاولة نقض تحكيم لاهاى حول قضية أبيي يعبر عن هذه الغريزة، والمشاكل بين المسيرية والرزيقات فى جوهرها رفض لترسيم الحدود، ولا شك ان نمط الحياة الاقتصادية السائدة عندهم من رعى وبحث دائم عن المراعى هو عامل اساسى فى قلة ارتباطهم بالارض والمكان. وهذه الطبيعة من عشق للحرية وانطلاق الى ما وراء المحدودات حتى ولو كانت هذه الغيبيات نوعا من الخرافات، هو ما يفسر ان البدو البقارة فى السودان كانوا ولا زالوا اقوى المؤمنين بالمهدى والمناصرين له، لأنه كان يحدثهم عن الغيب بالحديث عن الحضرة النبوية، وعن وصايا الرسول «ص» ويرخص لهم اليسير من العبادات، ومن عباراتهم «تقرأ تكسبون فقط تنوم» اى يكفيهم من قراءة الراتب الآيات الافتتاحية من سورة الانعام حتى قوله تعالى«وهو الله الذى في السموات والارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون». وقد استغل ابناء المهدى من بعده هذه الغريزة فى البدو البقارة ليحكموا السيطرة عليهم، فكانوا يحدثونهم عن الحضرة، وعن وصايا الإمام، وعن متر فى الجنة، وغيرها من حيل السيطرة والاحتلال. وهذه الغرائز فى طبع البدو البقارة قديمة، اشار اليها العلامة ابن خلدون، وأوردها فى كتابه الشهير «المقدمة» فى باب «العمران البدوى» «ص151» حيث قال«ان البدو ولخلق التوحش الذى فيهم اصعب الامم انقيادا بعضهم لبعض، للغلظة والانفة وبعد الهمة والمنافسة فى الرئاسة، فقلما تجتمع اهواؤهم، فاذا كان الدين بالنبوة او الولاية كان الوازع لهم من انفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة عنهم فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والانفة الوازع عن التحاسد والتنافس، فاذا كان فيهم النبى او الولي الذى يحثهم على القيام بأمر الله، يذهب عنهم مذمومات الاخلاق ويأخذهم بمحموداتها، ويؤلف كلمتهم لاظهار الحق وتم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك اسرع الناس قبولاً للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الاخلاق». وهذه عين ما فعله المهدى حين هاجر اليهم وخاطبهم بهذه الغريزة الفطرية، فشجب خشونتهم ووحشيتهم واحسن قيادهم، ولا يزالون كذلك ما خوطبت فيهم هذه الغريزة. هذه الملاحظات التى ابديناها حول ثقافة كل من النوبة والبقارة، لا تزال تطل بظلالها على حياتنا المعاصرة، فتمسك النوبة بالمكان وقدرتهم على التنظيم وكتمان السر، هو ناتج لهذه الثقافة، عكس البدو البقارة فميلهم الغريزى نحو الحرية والانطلاق فى الفضاءات الرحبة يصعب من مهمة تنظيمهم والسيطرة عليهم. ولقد ثبت ان البدو البقارة فى السودان ساهموا بفعالية فى تدمير كثير من الممالك والسلطنات التى كانت قائمة فى السودان، مثل التنجر والداجو والمسبعات والفور وغيرها، بل دينقا «المجلد» عاصمة المسيرية الحمر هى اصلا اسم بنت سطان الداجو «داجو ام كردوس» كما جاء فى بعض الروايات، وهذه الطباع اوردها ابن خلدون ايضا فى «المقدمة» «ص 149»، يقول ابن خلدون «العرب امة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلق وجبلة، وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له، فغاية الاحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذى به العمران ومنافٍ له، فالحجر مثلا انما حاجتهم اليه لنصبه اثافى للقدر، فينقلونه من المبانى ويخربونها عليه ويعدونه لذلك، والخشب ايضا انما حاجتهم اليه ليعمروا به خيامهم وليتخذوا الاوتاد منه لبيوتهم، فيخربون السقف عليه، لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذى هو اصل العمران، هذا حالهم فى العموم، وايضا فطبيعتهم انتهاب ما فى ايدى الناس وأن رزقهم فى ظلال رماحهم». هذه هى خصائص البدو التى لا تزال ماثلة رغم التحول الذى طرأ بفعل سيادة الدولة والقانون، بل الجيش الذى كونه الخليفة عبد الله الذى غلب فى تكوينه عنصر البقارة، فظهرت عليه بعض هذه الخصائص، واصبح مضرب المثل فى قلة الانضباط والتنظيم. وكلما قلَّ الوازع الدينى نقص الانضباط. يقول بعض شيوخ الحوازمة الذين خرجوا على الخليفة عبد الله وتمردوا عليه «نحن فاكرين الوضوع مهدية لقيناهو ده حيماد ملك عطية»، وحيماد هو جد التعايشة وآخرين، بينما عطية هو جد الحوازمة والمسيرية والرزيقات، وهذا يؤكد مقولة ابن خلدون السابقة بأن البدو لا يمكن انقيادهم الا بوازع الدين او الولاية، بل لا يزال عدم الانضباط يظهر حتى فى ثقافتهم الجهادية المعاصرة «نداوسهم سبحة انقطعت» او«عجال لاقن بقر» ولقد وجد قادة الدفاع الشعبى فى المتحركات التى شكل البقارة فيها رقما اساسياً مثل المغيرات صبحا او الطير الابابيل او بشائر الخيرات وغيرها، وجد القادة عنتاً شديداً وصعوبة بالغة فى اقناع المجاهدين بأهمية الرباط كتكتيك حربى، يقول العميد ركن الجنيد الاحمر احد ضباط الجيش الذى تعامل مع المسيرية باعتبارهم دفاعا شعبيا، إنه كان يجهز متحرك القطار من المجلد الى واو دون معرفة عدد المجاهدين المشاركين بالضبط، حيث لا يجتمع الفرسان والمجاهدون الا قبل لحظات قليلة من تحرك القطار، هروبا من الانتظار والرباط الذى يقيدهم، ولكنه فى كل مرة يحصل على اى ربط يحدده فى الاستنفار. هذه التأملات هى جانب نحسه ونحن نعايش المجموعات السكانية الرئيسية فى جبال النوبة، ولكننا نؤكد مرة أخرى أن التداخل العرقى والثقافى بين العرب والنوبة فى جبال النوبة كبير ومتزايد، رغم العراقيل والمعوقات التى وضعت للفصل بين هاتين المجموعتين القبليتين فى المنطقة، والمحاولة المستميتة لجعل قضية جبال النوبة محور استقطاب قبلى يوقف هذا التمازج الطبيعى الساير تجاه الوحدة والتعايش السلمي. [email protected]