٭ قابلتها بعد غيبة طويلة سألتها عن حالها ويا ليتني ما فعلت.. أتسألين عن حالي وكأنك بعيدة عن واقع هذه الايام العجيبة.. دعيني من السؤال فنور حياتي يخبو وسمعتي تذوب.. بالرغم من انها تضيء على استحياء وضؤوها بات خافتا.. ومع ذلك أعزي نفسي بانني احترق راضية من اجل الآخرين. ٭ وما أخالني الا هائمة في الاسواق والشوارع عما قريب «مجنونة» مثل الآخرين الذين تمتلئ بهم شوارع وطرقات المدن.. انني حطام بعت اعصابي وعقلي وقلبي برغيف خبز ناشف جاف مر لا يكاد ينزل من حلقي. ٭ قلت لها: ما عرفتك بهذه الحالة من قبل ما الذي بدل تلك الشخصية المرحة الشخصية الشحنة من التفاؤل والاصرار على النجاح؟ اين حديثك عن الامل والنور والمعرفة والعلم وقهرهم للظلام.. اين المعلمة النموذج؟ ٭ قالت: ألا تعلمي انني مقاتلة فقدت سلاحها.. مهنتي ان اقاتل الجهل بالمعرفة بالحرف والكلمة.. وجدت نفسي بلا فصول وبلا طباشيرة وبلا سبورة حتى.. انا معلمة في مرحلة الاساس.. نهاري نهار المجانين وليلي ليل القتلى فمتى أفكر متى أقرأ ومتى اهدأ ومتى امرح وانا ارجع نهاية اليوم مهدودة الحيل مصدوعة الرأس جافة الحلق.. وهذا ليس بسبب العمل وقلة مدخلات العملية التربوية ولا بسبب شقاوة الاطفال ومتاعبهم ولكن بعذاب المرارة التي احسها تجاه ما اسمع والحظ طوال اليوم الدراسي.. أتعرف كيف يبدأ مشوار العذاب هذا؟ ٭ يبدأ طابور الصباح.. لا نستطيع ان نسائل معظم التلميذات عن مستوى نظافة ملابسهن الا وجاءتك الاجابة مرة بطعم الحنظل.. «يا ست فلانة أبوي قال ما عنده قروش والصابون بقى غالي وأمي قالت لي امشي بهدومك كدي وما تغيبي»، اما حالة الاحذية فلا تملك شجاعة السؤال عنها ففي «شبشب» السفنجة متسع للأغلبية والقلة النادرة جداً تنتعل أحذية متواضعة، وهناك من يأتين حافيات -أي والله- حافيات، تلميذة صغيرة تأتي الى المدرسة حافية في زمهرير الشتاء وحر الصيف وتقول لي والمرارة والانكسار يدثران كلماتها «سفنجتي» انقطعت وأمي وأبوي قالوا لي امشي حفيانة لمن «نشوف». ٭ وليت المشهد المأساوي ينتهي الى هنا.. لكنه يزداد.. هؤلاء عندما تحين «ساعة الفطور» وتتجسد معاناة الحرمان والجوع في عيون الطفلات أبشع وأقبح ما يكون وما يمكن ان يعاني منه المرء هو معايشة نظرة الحرمان والانكسار الناتجة عن هذه الحالة اللا مفهومة في عيون الطفلات، انها لحظات تدفع الى الجنون.. والباقي تعلمينه مدخلات العملية التربوية نفسها مبنى المدرسة.. الكتاب الكراس المقاعد والمرتبات. ٭ ذات يوم وقفت احدى زميلاتنا تتأمل التلميذات الصغيرات، وبعد ان التفتت قالت: نحن مناضلات نحاول ان ننقذ جيلا ضائعا ما بين «اللقمة الحافة والعلم المتعثر»، جيل تتعذر عليه «القراصة» وتجفل منه «الكراسة». ٭ واستمرت محدثتي المعلمة قائلة: لكننا نقف عاجزات امام هذه الحالة التي لا نعرف لها اسما واذا تجاوزنا مسلسل تأخير صرف المرتبات وهي حالة تهدد مستقبل أمة وتعنى ضياع جيل فكيف نتوقع مستقبل بناته وأبنائه وأعمدته هم اولئك المنكسرة دواخلهم بفعل البؤس والحرمان من أبسط متطلبات الحياة. ٭ نظرت الى محدثتي وعجزت تماما عن التعليق، فماذا أقول تجاه معاناة من نوع آخر سردتها امامي معلمة.. معاناة بحجم الفجيعة لجيل يعيش الفقر والحرمان والبؤس المفروضات على الأسرة.. الجيل المدفوع الى دور العلم بلا امكانات.. وأهل الحكم يتحدثون عن الشعب الصابر الذي احتملهم.. هذا مع تحياتي وشكري..