٭ مر كسرى انو شروان يوماً وهو يتنزه في الخلاء على مزارع عجوز يغرس فسيله عنب.. قال له كسرى: هل تعيش حتى تأكل من هذه الشجرة؟ أجاب العجوز: زرع آباونا وماتوا قبل أن يأكلوا مما زرعوا، فنزرع نحن وليأكل أبناؤنا مما نزرع.. واليوم نحن كذلك.. زرع التيجاني يوسف بشير بستاناً مازلنا نتفيأ ظلاله، نقطف من يانع ثماره.. زرع لنا أحمد محمد صالح اصناف الاشجار المثمرة التي مازالت حلاوة ثمارها عالقة بالسنتنا «فينوس» و«نحن جند الوطن» زرع محمد محمد علي وأخوه جماع أشجار شربت من ماء الازرق العاتي والابيض الهادي.. زرع لنا عبد الله الطيب أشجارا يتردد صدى حفيف اوراقها داخل طبول آذاننا.. زرع لن محمد المهدي المجذوب.. خمائل نخيل وورد وعنب.. حرقنا أخشابها ليلاً.. ليذكر الدراويش على نارها.. فيضربون النوبة.. ضرباً، فترن وتئن.. زرع لنا صلاح احمد ابراهيم حقلاً من الكرم.. اترعنا كؤوسنا من خمره وتداعينا لنكون حزمة واحدة سوداء لفحتها بالحرارات الشموس. فنحن أبناء افريقيا، فلحتنا بالحرارات.. صحراؤها الكبرى وخط الاستواء.. زرع لنا محمد المكي ابراهيم شجرة وارفة الظل اسماها «أمتي».. وما زرع لنا مصطفى سند حديقة. لكنه حفر لنا اخاديد انساب منها الماء النمير من «البحر القديم» لتروي حقول من زرعوا ولا سيما حديقة الورد الاخيرة. لن استطيع سبر غور شاعرنا محمد عبد الحي.. لكنني احاول ما استطعت ان اتناول قصائد حديقة الورد الأخيرة بشيء من وجهات النظر الادبية والتعليق محاولاً إيضاح ما أراه جديرا بالاشارة وتسليط الضوء عليه. احتوى ديوان «حديقة الورد الاخيرة» للشاعر محمد عبد الحي، على «04» قصيدة من الشعر الحديث.. وشعر التفعيلة.. الشعر الذي خلق بحوره بدر شاكر السياب واخته نازك الملائكة، لقد استوى.. هذا الضرب من الشعر اليوم على سوقه، كسر محمد عبد الحي اعمدة الشعر القديم «كع» كما كسرها قبله صلاح أحمد ابراهيم وأمعن محمد عبد الحي في الحداثة عندما غازلها محمد المهدي المجذوب وبشر بها ودعا الشعراء الشباب ان يلجوا ابوابها دون خوف او وجل، فالشعراء العرب المحدثون فوزي العنثيل، أحمد عبد المعطي حجازي، خليل حاوي، بلند الحيدري، شوقي بغدادي خاضوا بحار التجديد والحداثة «حتى الركب».. يقول محمد المهدي المجذوب للشعراء السودانيين الشباب.. - لماذا لا تدخلون أقدامكم في بحار الحداثة والتجديد. ينهض محمد عبد الحي، يشمر عن ساعد الجد فتسيل حنجرته بخرائد رائعات من شعر التفعيلة، ويقدم لنا عالم عباس «ماريا وأمبوي» وفضيل جماع «الغناء زمن الخوف». صور محمد عبد الحي ديوان حديقة الورد الاخيرة بقصيدة «الفجر أو نار موسى».. وختمه بقصيدة « النخلة الوحيدة». والمتأمل في عنوان هاتين القصيدتين يلمح الرومانسية الرائعة المغلفة بالأثواب الناعمة الرقيقة الملساء.. ذات الالوان الخلابة المدهشة: وديك الفجر مشغول.. يقتات بالأنجم السكرى فتفضحه صهباؤها اشرقت في ريشه الذهبي للفجر طلعة بهية وجمال رائع حسن، يدركه الشعراء والفنانون.. فألوانه زاهية ناعمة لا تؤذي العين. أما الصهباء.. فألوانها عديدة «لا تنزل الأحزان ساحتها اذا مسها حجر، مسته سراء».. فالوان الصهباء الزاهية تسطع على ريش ذلك الديك فيختال الديك مزهواً بألوان ريشه وبذيله المتعدد الألوان.. كما يختال الطاؤوس. يعلق محمد عبد الحي لوحات درامائية على جدران رومانسيته الجديدة: الملك حذاء نلبسه لنمشي به في الزمان علينا أن نمشي حفاة في مملكة الفقر أقام محمد عبد الحي للفقراء مملكة.. وطلب منا أن نمشي حفاة في شوارعها وأزقتها لقد اختشى ان يقول عراة حفاة. بالرغم من أن قصيدة «قمار» قصيرة جداً «5» أبيات، إلا انها اختصرت المقالات والمحاضرات التي يؤديها علماء الدين عندما يتحدثون عن مضار الخمر والميسر.. فجاءت هذه القصيدة توضح للقارئ حصاد من يعاقر الخمر ويلعب الميسر ويدخن المخدرات: كنا أنا والموت جالسان في حافة الزمان وبيننا المائدة الخضراء والنرد والخمرة والدخان من مثلنا هذا الزمان.. «المساء» المسكرات، المخددرات، ولعب القمار.. تقتلك او تجعلك على حافة الزمان.. «النهاية». قبل أن نتوغل في قصائد الديوان ونجوس خلالها.. ألمحنا إلى أن محمد عبد الحي، شاعر رومانسي، إلا أن الواقعية «الخشنة» قد أسرته فطلق الرومانسية، إلا أن أثوابها المزركشة مازالت تتعلق به. ثم عشق الواقعية.. الواقعية التي تسير مع الفقراء والعمال والكادحين في الطرق والازقة، اقرأوا « قصيدة حب في زمن فقير صفحة 41»: 1/ كان ندى الليل في شعرها وفي قميصي من قميصها طيوب 2/ الأرض تستعير من عمائم الربيع ما يستر من فقرها لا شيء غير العري والوحشة والرعب الذي تركه جمالها المنهوب أما قصيدة «صورة الشاعر» فهى القصيدة التي اقرأ بين أبياتها فلسفة محمد عبد الحي الشاعرية التي آل على نفسه في ذلك الزمن أن يتبعها: سهرت تبني نصف تمثال من الرخام تطهر النظام من درن الفوضى.. تصفي لغة الكلام تلملم العظام من طرق الغابة والصحراء من طرق نائية وطرق مجهولة الأسماء يجعلها في ظلمة الشعر لهيب القلب والاحلام لعلها في لحظة فريدة تلثم، تحيا هيكلاً جديداً ينمو عليه جسد القصيدة «ص 61». ومحمد عبد الحي يريد للشعر ان يكون طاهراً نظيفاً من الفوضى، صافي اللغة، كلامه صحيح موزون، يريد الشعراء أن يلملموا العظام البالية من طرق «مدرسة الغابة والصحراء» ومن طرق نائية أو من كل الطرق المجهولة الأسماء حتى يكون الشعر لهيباً للقلوب البارد، ويكون مشاعل مضيئة في ظلام الحياة وعتمة الشعر وان يحققوا احلامهم الوردية ويبنوا اللحم الحي والدم الحار القوار حلو هيكل الشعر. عاش محمد عبد الحي كل زمنه واقعياً ملتصقاً بالشعب ما انفك قط عن شعبه، غنى له المواويل الطويلة التي تزحم أفقه وطرقه بالانماط الفلكلورية منذ السلطنة الزرقاء حتى نتاج الحضارة الماثلة، انزل اللغة العربية للشعب السوداني من برجها العاجي حتى التصقت بلسان الإنسان العامي وهى محافظة على رونقها وبريقها الفصيح الجميل، حتى يكون قريباً من اللغة الأزلية ففي قصيدة «الفهد»: والأرنب تستحم على الصخرة في الشمس وهى تحرك أذنيها مثل شراعين مسوقين صغيرين لم تحلق هذه الصقور باكراً؟ الغابة في سفح الجبل، وبين فخذيه انثى اقدم من كل الإناث. ص 43. خرج محمد عبد الحي من مدينة سنار يوماً، تجول في الريف، أبصر أرنباً برياً يتمرغ على صخرة ملساء صباحاً تحت نهار الشمس، اذناه تلعبان في الهواء العريض كشراعين صغيرين مسوقين، رفع محمد عبد الحي رأسه أبصر النسور والصقور تلحق في الأفق البعيد صباحاً. سأل نفسه سؤالاً استنكارياً -لم تحلق هذه الصقور باكراً؟ انها تبحث عن الثعابين، الطيور، الفئران، الديدان أو الارانب لتقنصها طعاماً صاغاً لفطورها. إنها لوحة ريفية بديعة.. إن ريفنا السوداني يزخر بمثل هذه اللوحات الواقعية التي تفجر في دواخل الشعراء ينابيع الشعر..« والأرض ميثاء وداكنة باللغة بالازلية». امتلأت روح محمد عبد الحي بالفن والجمال السوداني النقي المصفى حتى شرقت. انه شاعر يتعذب ويتألم، فيحاول جاهداً التعبير عما يجول بخاطره وروحه: «أوأه! هل لي بقدرة شاعر اصف بها كل ذلك العذاب او قدرة نبي اتحمله بها» ص 04. وهذه لوحة اخرى جاء بها محمد عبد الحي من التاريخ القريب، تاريخ العنج والفونج، تذكرني بأفعال «عجوبة الخربت سوبا». «طيلة الليل كان «سيد القوم» مشغولاً بالغسل والصلاة وقد وقف جنوده في أبهى منظر بحرابهم الطوال ودروعهم المتألقات في ممرات القصر ذي الخمسة الطوابق الوزراء محزنون في ضعف والنساء حبيسات في مقاصيرهن وعند السحر دخل «سيد القوم» بجنوده على الملك، الخليع، الملك الجبار وتبادلا نظرة مليئة بالمعرفة والذكريات ثم شخب الدم، وتدحرج الرأس كالكرة على البساط وأذن أذان الفجر» ص 34 عشق محمد عبد الحي الواقعية والتزم بها، لكن لم يعش عشقه معها طويلاً.. تأثر بالمدارس الغربية وآدابها، نهل منها ما سمح له الدهر.. قرأ كل ما انتجه عمالقة الأدب الغربي في القصة والرواية، هضم أدب «ايرنست همنغواي، سمرست موم، شيتا نبيك، إتش. جي. ويلز، في المسرح إبسن، بريخت، شكسبير قالث، ويرث، في الشعر كبلبنج، ت. إس اليوت. الخ.. أما اليوت فقد كان له القدح المعلى في تأثيره الشعري على محمد عبد الحي.. اعتقد انني لا احتاج الى تبرير هذه الدعوة. عزف محمد عبد الحي على أعواد الحداثة في ديوانه «حديقة الورد الاخيرة» فجاءت بعض من قصائد الديوان تختال في ألحان جميلة مموسقة.. ففي قصيدة سماء الخيال ص «54»: في الصحراء المسافر الوحيد هو مركز الكون المرأة وحدها لا توجد الصورة وحدها لا توجد المرأة والصورة شيء واحد أبدع ما أبصر ابصر ما ابدع أعرى الأسرار واكسو الاسرار ينتصر الفنان على العالم في اللحظة التي يخسر فيها العالم الجسد لغة أولى الوردة الإلهية تنفتح في رحم العذراء قيثارة الله تغني في اللغة العربية كان محمد عبد الحي مهموماً بالواقعية أولاً، ثم انغمس في الحداثة أخيراً حتى النخاع.. لكن كان هنالك شيء واحد يهمه أكثر من ذنيك الهمين. هو هم اللغة.. وما هى.. وما هى اللغة التي يكتب بها.. فاللغة عنده أنواع: صوت تجوهر في حوافي الغيب صمت عامر كالشمس مصباح توهج في دم اللغة القديمة: مبهماً كالحلم قراءة في الشعر التيجاني يوسف بشير«ص 91».