تعتبر حرب اكتوبر 1973م، من الحروب المهمة التي شهدها القرن العشرين ، لما احدثته من تبدلٍ حقيقيٍ في مفهوم الصراع المسلح الدولي والمحلي، وما احدثته من تغيرات في مفاهيم الاستراتيجية والتكتيك والتسليح، وقد تميز العقل العسكري العربي في هذه الحرب بالنضج الاستراتيجي مما مكنه من التخطيط السليم والتحضير والاعداد الممتاز والتقييد بكل المهنية والحرية العسكرية العالمية، مما ساعدهم في تطبيق كل فنون ومبادئ الحرب الحديثة، وتميز القادة والجنود في المعركة بالخبرة والمهارة في استخدام الاسلحة المعقدة ذات التقنية العالية. و بناء على ذلك تداعى الخبراء والمنظرون العسكريون والسياسيون اصحاب الفكر العسكري من الشرق والغرب لدراستها واستخلاص الدروس المستفادة منها وما احدثته من تغييرات في المفاهيم الاستراتيجية العسكرية. بالرغم من مرور سبعة وثلاثين عاما على هذه الحرب، فما زالت هدفا للاقلام الفكرية العسكرية والسياسية، ما زالت الايام تكشف كل يوم عن خفايا واسرار هذه الحرب، مما جعلها مادة عسكرية وسياسية تجدد كل يوم ومع مرور الزمن. اتصفت المعارك التي دارت على الجبهة المصرية والسورية بضراوتها وسعة تبدل المواقف واستمرارها ليلا ونهارا من دون توقف، وقد استخدمت فيها كل الاسلحة التقليدية والمتطورة، ومن اهم سمات هذه الحرب اقتحام اكبر مانع مائي في ذلك الوقت والى الآن وفي قناة السويس، وغرق المنطقة المحصنة في الجولان السوري ، وكذلك انتقال زمام المبادأة الى الجانب المصري والسوري لأول مرة منذ حرب 1948م. بالرغم من مرور «سبعة وثلاثين عاما» على هذه الحرب ما زال الانسان العربي والاسلامي يذكرها بكل الفخر والاعتزاز لأنها عبرت به من حالة اليأس والهزيمة الى حالة النصر ونشوة الاسلام والعروبة.. وأما في الجانب الآخر فإن شبح الهزيمة ما زال يخيم على العقل الاسرائيلي، وان ذكريات تلك الايام من الحرب بالافق في ايامها الاولى لا تزال تحفر عميقا في الوعي الاسرائيلي - وان اسرائيل كانت على شفا الانهيار لولا الدعم السياسي والعسكري الامريكي، هكذا قالتها صحيفة «هارمش» الاسرائيلية بمناسبة الذكرى «السابعة والثلاثين» لهذه االحرب.. هكذا كذبت اسرائيل نفسها حين صدقت ان جيشها الاسطوري لن يهزم، ولكن جيشها هزم ولحقت به خسائر بشرية و مادية كبيرة ، هزت كيانها بعنف واصابتها بصدمة ما زالت تعاني من آثارها حتى اليوم .. في العام 1967م، خسر العرب جولة الحرب الثالثة مع اسرائيل ، ولحقت بالقوات المسلحة المصرية والاردنية وقسم مهم من القوات السورية خسائر جسيمة في الافراد والمعدات، وأدى ذلك لاختلال الميزان العسكري الاستراتيجي العربي الاسرائيلي، ويرجع هذا الفشل العسكري لاخطاء استراتيجية سياسية وعسكرية، تمثلت في سوء التقدير السياسي وتضاربه مع عدم تبني استراتيجية واضحة للتحرك السياسي والعسكري مع خلط للاوراق السياسية والعسكرية مع عدم توفر المهنية والحرفية العسكرية لدى القادة في قمة الجهاز العسكري ، مما انعكس اثره على عمليات التخطيط الاستراتيجي والاعداد والتحضير للمعركة ومن ثم ادارة المعركة. ونتيجة لهذه الاخطاء الاستراتيجية العسكرية والسياسية ، تمكنت اسرائيل من تحقيق نصر لم يكلفها الكثير، وخلال (ستة ايام) من بدء المعارك تمكنت اسرائيل تحقيق اهدافها الاستراتيجية والحاق خسائر فادحة بالجيوش العربية مقابل خسائر ضئيلة في صفوف جيشها، وغنمت اسرائيل اسلحة ومعدات حربية كثيرة طورتها فيما بعد وادخلتها في تسليح قواتها.. نتيجة لهذا الانتصار الاسرائيلي.. فقد وصلت القوات الاسرائيلية الى مناطق طبيعية يسهل الدفاع عنها واحتلت مساحات واسعة في الارض العربية زادت في تحسين دفاعاتها شرق قناة السويس وصحراء سيناء ووادي الاردن ومرتفعات الجولان السورية، وقد مكنت هذه المساحات الواسعة اسرائيل من المناورة على خطوطها الداخلية بكفاءة اكبر كما صار في وسع الطيران الاسرائيلي مع غياب الدفاع الجوي العربي، من العمل بحرية اكبر في العمق العربي وبضرب ومهاجمة الاهداف في كل الاتجاهات.. واستفادت اسرائيل من حقول النفط المصرية في سيناء وقد زودتها بما تحتاجه من نفط..! واتاح هذا الوضع الجديد لاسرائيل من اقامة دفاع استراتيجي عميق بإنشاء خط (بارليف) المحصن على امتداد قناة السويس، خط (ألوف) المحصن على جبهة الجولان، وخط (بارليف) المحصن ضمن لها حرية الملاحقة في مضائق (تيران) و (البحر الاحمر). وقد انفقت اسرائيل حوالي (300 مليون دولار) لإنشاء سلسلة من الحصون والطرق والمنشآت الخليفة، اطلق عليها اسم (خط بارليف) بهدف الدفاع عن الشاطىء الشرقي لقناة السويس. ولقد امتدت هذه الدفاعات اكثر من (160كم)، على طول الشاطئ الشرقي للقناة من (بدر فؤاد) شمالا الى (رأس مسلة) على خليج السويس ، وبعمق (30 - 35) كم، شرقا.. واحتوى هذا الخط على نظام من الملاجيء المحصنة والمواقع القوية وحقول الالغام المضادة للافراد والدبابات- وتكونت المنطقة المحصنة من عدة خطوط مزودة بمناطق ادارية وتجمعا من قوات مدرعة ومواقع مدفعية وصواريخ (هوك) مضادة للطائرات ومدفعية مضادة للطائرات ، وخطوط انابيب مياه، وشبكة طرق طولها 750 كم. تمركزت مناطق تجمع المدرعات على مسافة من (5 - 30كم) شرق القناة. كما تم تجهيز عدد (240) موقع للمدفعية بعيدة ومتوسطة المدى - كان من بينها (30) موقعا محتلا فعلا.. وكان لهذه النقط المعينة القدرة على تحمل انفجار قنبلة زنة (الف رطل).. وطور الاسرائيليون فيما بعد نظاماً صمم لتحويل قناة السويس الى خندق مشتعل من خلال وضع خزانات تحت الارض، ووضع انابيب لضخ البترول الذي يتم نثره على سطح القناة ، عند ذلك يتم اشعال هذا البترول ليكون حاجزا من اللهب عند النقطة المعينة ورغم ذلك فقد نفذ المصريون فيما بعد عمليات ضفادع بشرية ضد هذا النظام وسدوا هذه الانابيب وعطلوها عن العمل.! كانت اسرائيل تعول كثيرا على هذا المانع الهندسي الاستراتيجي وتعتبره احد المنجزات والمعجزات الدفاعية العسكرية في القرن العشرين، وكانت تظن ان هذا المانع الهندسي الضخم والقوات التي تتواجد عليه والقوات الاخرى في الانساق الاخرى في صحراء سيناء، يصعب معها للقوات المصرية الاقتراب منه، ناهيك عن عبوره. ولكن بالعقلية العربية والمصرية، وبالامكانيات العلمية والعلم العسكري بالتفهيم والارادة والمهارة والشجاعة والتخطيط السليم امكن فيما بعد من اجتياز هذا المانع الصناعي الهندسي، ليتحقق معه الانجاز والاعجاز العربي المصري. كما هو معروف ان الارض العربية الفلسطينية تم اغتصابها بواسطة اليهود والصهيونية العالمية وبدعم مباشر من الدول الغربية خاصة انجلترا وفرنسا وامريكا وفق وعد (بلفور).. وقامت الدولة اليهودية مخالفة لحقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ ، وتبنت العقيدة الهجومية والخاطفة لابتلاع الاراضي العربية، اسرائيل في تخطيطها القومي الاستراتيجي بتبني العقيدة الهجومية والحرب الخاطفة مع اخذ زمام المبادرة، وقومية الهجوم والضربات الجوية خارج موقعها الجغرافي المغتصب، فاسرائيل تهدف دائما ووفق استراتيجية عسكرية، ان تنقل الحرب خارج حدودها وان تكون الاراضي العربية هي مواقع الدفاع الاستراتيجي لها، يرجع ذلك لأن عمقها الاستراتيجي لا يتحمل اي ضربات عسكرية داخل هذا العمق الضيق.. اذن نقاط ضعف الامن الاستراتيجي تكمن في محدودية الجغرافيا الاسرائيلية المغتصبة.. ولذلك كان الانكسار والضيق الاسرائيلي عندما نالت صواريخ المقاومة اللبنانية في الحرب الاخيرة العمق الاستراتيجي الاسرائيلي، فكان الهلع والرعب وكان الانكسار والهزيمة، وكذلك الحال عندما استخدمت المقاومة الفلسطينية في غزة صواريخها داخل العمق الاسرائيلي. وحتى يمكن تفادي هذا القصف الاستراتيجي في الامن الاسرائيلي تلجأ اسرائيل لاستخدام السلاح الجوي المكثف بأحدث الطائرات وذات التقنية العالية. كذلك القوة المدرعة خفيفة الحركة مع الاسناد الناري الكافي من المدفعيات والصواريخ وغيرهما لنقل المعارك خارج حدودها، وفق اساليب تكتيكية معينة يعتمد على امتلاك زمام المبادأة والسرعة والحشد مع خفة الحركة وقوة النيران الكثيفة مع الجرأة والاختراق المباشر والمفاجيء، وذلك بارتباك خطط القوات المقابلة وشل قدرتها على القتال واضعاف معنوياتها، واحراز نصر مبكر وفي اقل زمن ممكن وهذا ما حدث في (يونيو 1967) ضد الجيوش العربية. وهنالك امر آخر جدير بالذكر، هو ان اسرائيل تداعى لها كل يهود العالم في مرحلة الاغتصاب وبناء الدولة في ايامها الاولى، تداعى لها معظم يهود العالم بكل خبراتهم ومهاراتهم وعلومهم واموالهم، تمت صناعة وقيام الدولة بعناصر وكوادر مستوردة جاهزة للاستخدام، وهي بالتالي تخالف طبيعة نشأة الامم وتأسيسها، ولم تمر بالمراحل التطورية والمندرجة لبناء الامم ، فإسرائيل كيان اخذ من اوربا وامريكا وغرس على الارض العربية كامل التطور. ومن ضمن هذه الكوادر والعناصر التي ساهمت في قيام هذه الدولة، كان العنصر العسكري، فقد تنادى القادة والضباط والعناصر الاخرى من اوربا وامريكا والعالم ، والذين اصلا كانوا من ضمن قوة الحلفاء في الحرب الاولى والثانية، اتى هؤلاء بكل خبراتهم القتالية، ومهاراتهم العسكرية وهم حديثو الخروج من الحرب العالمية الثانية ليكونوا النواة التأسيسية للجيش الاسرائيلي، اذن فالقوات الاسرائيلية المسلحة تكونت في الاصل من القادة والضباط والافراد اليهود الذين كانوا من ضمن قوات الحلفاء وخاصة الجيوش الفرنسية والامريكية والانجليزية، وتشير الوثائق انه عندما لحقت الهزيمة بالجيش الاسرائيلي في حرب (1973)، وخاصة في الايام الاولى، تدافع وتنادى الضباط اليهود وغيرهم وخاصة الطيارون منهم، لنجدة الكيان الصهيوني. * خبير وباحث في الشؤون العسكرية والسياسية