٭ بدا كل شيء في قضية مقتل الدبلوماسي الأمريكي جون قرانفيل وسائقه السوداني عبد الرحمن عباس غريباً ومثيراً وغامضاً منذ لحظة اطلاق الرصاص عليه واغتياله مروراً باختفاء القتلة ثم دوافع الجريمة والقبض عليهم ومراحل التقاضي واصدار الحكم في مواجهة المتهمين وحتى حادثة فرارهم من سجن أم درمان العتيق منتصف العام الماضي.. ففي فجر مطلع يناير 2008م، أي تحديداً في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات استيقظ سكان الخط الفاصل بين الطائف والرياض شرقي الخرطوم على أصوات أعيرة نارية تبين لاحقاً أن الرصاص استهدف الموظف بوكالة المعونة الامريكية جون قرانفيل وسائقه عبد الرحمن عباس.. ٭ وأودى الرصاص بحياة الأول وأرداه قتيلا في لحظات بينما تأثر الثاني بجراحه ثم ما لبث ان فارق الحياة هو الآخر.. وجاءت الحادثة في أعقاب ما تردد وقتها عن أن الضحايا كانوا يسهرون في احتفالات أعياد رأس السنة الميلادية في احد الاندية التابعة لسفارة دولة غربية ومن يومها انفتحت السيرة ولم ينفض السامر حتى الآن بدخول الحادثة عامها الثالث.. ٭ عناصر الإثارة تبدأ ولا تنتهي.. وتظهر بشكل واضح في التخطيط والتنظيم والترتيب وتنفيذ الحادثة عبر سيناريو أمني دقيق.. ومن هنا تشابهت اساليب الاغتيال مع اسلوب تنظيم القاعدة في استهداف وتنفيذ عملياتها ضد خصومها وأعدائها الامريكان وهذا بلاشك كان كافياً لتتداخل العوامل الدينية مع التقاطعات السياسية وامتداداتها الخارجية ولهذا لم يكن غريباً ان تسجل فرق المخابرات الأمريكية «السي آي اي» والشرطة الفيدرالية الأمريكية «الاف.بي.اي» حضورا في الساحة السياسية السودانية كطرف جديد في لجان التحقيق والتحري والتعرف عن كثب على ملف القضية الشائك بل ومحاولة البحث عن طرف خيط يوصل الى الجناة الذين بدوا كأنما تبخروا في الهواء!!! وبالطبع فان اختفاء الجناة خلف كثيرا من علامات الاستفهام والتعجب وانشغل الشارع السوداني باختفاء القتلة اكثر من اهتمامه بحادثة القتل فمنهم من قال انهم اختبأوا في دارفور والبعض أشاع انهم خرجوا الى شرق السودان واخرون قالوا ان القتلة تسللوا الى خارج البلاد بمساعدة ومساندة جهات أخرى استطاعت تأمينهم حتى عبروا حدود السودان الى احدى دول الجوار. لكن.. الوقائع خالفت الشائع.. فعامل البنزين في احدى محطات الوقود بالفتيحاب شك في سيارة لاندكروزر كانت تقل المشتبه بهم بعد ان تعرف على أشكالهم وأوصافهم وسرعان ما ابلغ السلطات التي خف افرادها الى الموقع وتمت مطاردة وملاحقة الجناة حتى تم القبض عليهم لتبدأ مرة أخرى فصول الاثارة حول الدوافع والأسباب التي قادت هؤلاء الى ارتكاب الجريمة. فقيل ان السبب يرجع الى دوافع اخلاقية وقيل ايضا انها دوافع دينية وقيل انها دوافع ذات منطلقات سياسية.. هذا من جهة.. من جهة اخرى فان المفاجأة كانت كبيرة حينما استعرضت المحكمة وجوه المجموعة المنفذة لحادث الاغتيال حيث ظهر على مسرح الحدث نجل الداعية الاسلامي الشيخ ابو زيد محمد حمزة «عبد الرؤوف» كما ان الآخرين كان لهم ارتباط وثيق بخلية تفجيرات «السلمة» التي تم كشفها في العام 2007م حيث ألقي القبض عليهم لكن تم اطلاق سراح بعضهم فيما بعد ليتجمعوا مرة ثانية ويشتركوا في تفنيذ عملية مقتل الدبلوماسي الامريكي وسائقه خاصة بعد ظهور العقل المدبر للمجموعة فيما بعد وهو المدعو محمد جعفر الذي اتضح انه رتب عملية هروب القتلة من سجن أم درمان بعملية تمويه كانت اكثر اثارة. ٭ لكن.. من الضروري عند استعراض هذه القضية الا نتناسى أبعادها واطارها القانوني حيث تم توجيه الاتهامات لكل من محمد مكاوي وعبد الباسط حاج الحسن ومهند عثمان يوسف وعبد الرؤوف أبو زيد ومراد عبد الرحمن تحت المواد 21 - 24 - 26 - 130 - و182 الاشتراك الجنائي والقتل العمد والاتلاف الجنائي مع المادة 123 تزوير جنسية والمادة 44/6 من قانون الاسلحة والذخيرة وحكم على المتهمين من الاول وحتى الرابع بالاعدام شنقا حتى الموت بينما صدر الحكم على المتهم الخامس بالسجن. ولمزيد من التفاصيل يقول لي المحامي وجدي صالح عبده ممثل هيئة الدفاع ان ولي الدم الخاص للسائق عبد الرحمن والده عباس تنازل عن حقه في القصاص بينما طالبت والدة قرانفيل المحكمة بأنها ترى ان العقوبة الانسب في مواجهة المتهمين هي السجن المؤبد بدلا من تطبيق عقوبة الاعدام لهذا كان على المحكمة ان تصدر حكما تعزيريا لسقوط القصاص تلقائياً نتيجة لتنازل اولياء الدم لكنها اصدرت حكماً بالاعدام قصاصا وجاء في حيثيات المحكمة طبقا للمحامي وجدي صالح عبده انها لا تعتبر حديث والدة قرانفيل بالسجن المؤبد تنازلاً عن القصاص.. وربما يكون هذا هو ما دفع هيئة الدفاع عن المتهمين للطعن في القرار بالنقض امام المحكمة العليا ، باعتبار ان طلب والدة قرانفيل يعد تنازلاً عن القصاص.. وبناء على ذلك وضعت هيئة الدفاع على منضدة رئيس القضاة طلبا لمراجعة الحكم لم يصدر فيه أي قرار حتى الآن حسب صالح عبده.. ٭ حسناً.. دعوني أقول ان هذا ما كان من امر الحيثيات والوقائع القانونية.. لكن دعوني انتقل بمؤشر الاحداث الى اكثر حلقات القصة اثارة وغموضا وتشويقا.. لنقرأ معا سطورا في حكاية هروب قتلة قرانفيل من سجن أم درمان عبر نفق حفروه لحظة دخولهم السجن وحتى ليلة فرارهم في حادثة نادرة تشبه الى حد كبير عملية هروب تم تنفيذها في العام 2006م حيث استطاعت مجموعة تتألف من 23 عنصراً من منسوبي تنظيم القاعدة في اليمن تدبير عملية هروب من خلال حفر نفق في السجن الرئيسي للشرطة السياسية في صنعاء وكان قائد المجموعة وعقلها المدبر الذي لعب دور البطولة في الهروب هو جمال البدوي الذي نفذ عملية الهجوم على المدمرة يو اس اس كول في العام 2000م.. والمدهش في الأمر ان عملية هروب السجناء اليمينيين تمت في فجر يوم الجمعة وهو ذات التوقيت الذي اختارته مجموعة السودان.. وبينما قام السجناء اليمنيون بحفر النفق بالقرب من ارضية مسجد السجن والخروج عبر حمامات النساء فان قتلة قرانفيل خرجوا بصورة مفاجئة عبر مجاري الصرف الصحي. ٭ والطريف ان سجناء قاعدة اليمن هربوا في المرة الأولى بعد تنفيذ هجومهم على المدمرة كول ثم تم القبض عليهم وايداعهم السجن ليتفاجأ المجتمع اليمني بهروبهم من السجن مثلما تفاجأنا نحن بهروب قتلة قرانفيل بذات المراحل حيث هربوا بعد تنفيذ الحادثة ثم ألقي القبض عليهم وتمت محاكمتهم بالاعدام وأودعوا السجن ثم هربوا مرة أخرى!!! ورغم توزيع نشرة جنائية بأشكال وأوصاف وأسماء الهاربين الخمسة إلا أن أربعة منهم استطاعوا الإفلات والاختفاء بينما القت السلطات القبض على واحد منهم يقبع الآن بسجن كوبر هو عبد الرؤوف ابو زيد.. ٭ اليوم.. تمر الذكرى الثالثة على حادثة مقتل الدبلوماسي الأمريكي وسائقه السوداني والملف لازال مفتوحاً لم يغلق بعد كما أخبرني المحامي وجدي صالح عبده حينما اعتبر ان القضية لم تنته وان الملف لازال قيد النظر.. والغريب في الأمر أنه حتى بعد مرور هذا الوقت الطويل ومحاكمة المتهمين لازال وجدي صالح عبده مصراً على عدالة قضية موكليه وبراءتهم مما نسب اليهم من تهمة حيث يرى أنه شاب اجراءات هذه الدعوى الكثير مما يتطلب نقض الحكم الذي اعتمد في أساسه على اعترافات مرجوع عنها ولا تنسجم مع الوقائع المعروضة أمام محكمة الموضوع، مما يتطلب عدم الاخذ بتلك الاعترافات المرجوع عنها ما لم تعضد ببينات وهذا ما يقطع محدثي بأن الاتهام قد فشل فيه. ويقول ان الشك يفسر لمصلحة المتهم والأصل في الشك هو براءة المتهم. ويلفت نظري الى كثير من المسائل الفنية التي يرى أنها اكدت ومن خلال الخبراء استحالة ارتكاب هذه الجريمة بالسيناريو والوقائع التي قدمها ممثلو الاتهام امام المحكمة!! ٭ ربما لا.. عموماً.. فان القضية لاتزال في طور «التسخين».. حتى بعد مرور ثلاث سنوات ولا أحد يعرف نهاياتها.. فقط دعونا نتساءل: أما من نهاية لهذه القصة؟!! قد نعود..