٭ مثلما قال الأخ الفريق جوزيف لاقو مؤسس وقائد حركة التمرد المسلح الأولى في جنوب السودان، والتى اشتهرت باسم «الأنيانيا» وهي حشرة سامة في مذكراته وفي أقواله شفاهة للأذاعة أنه حين هجر الجيش السوداني بتحريض من بعض السياسيين الجنوبيين الذين طلبوا منه أن يقود جناح المقاومة الجنوبية المسلح. فذهب بناءً على دعوتهم ولم يجد شيئاً مؤسساً ولكنه بدأ بأن جمع حوله بعض الشباب لم يكن بيدهم أي أسلحة سوى الحراب والعصي والفؤوس والنشاب وكانت مقاومتهم «للسلطة» تنحصر في زراعة المسامير على الطرق التى تسلكها أطواف القوات الحكومية من الجيش أو البوليس حتى تُتلف المسامير إطارات العربات كما كانوا يقطعون الأشجار الضخمة ويعترضون بها الطرق حتى يعِّرقلوا أطواف الحكومة، وكانوا يحفرون الحفرة في عرض الطريق ثم يغطونها بالأعشاب ويهيلون عليها التراب فتأتي الأطواف الحكومية فتسقط فيها، كما إنهم بدأُ يتدربون تدريباً عسكرياً مستعينن بالعصي يمثِّل بها البنادق حتى يحافظ على تماسك وإنضباط ونظام مقاتليه، وأنهم استمروا على ذلك النسق إلى حين إنكسار ثوارالكنغو وهزيمتهم وتدفقهم نحو السودان بأسلحتهم فاستطاعوا الحصول على الأسلحة من ثوارالكنغو بالشراء وأنهم بحصولهم على السلاح وتقدمهم في التدريب واكتساب المهارات القتالية رأى أن الوقت قد حان للقيام ببعض العمليات الهجومية الصغيرة على بعض نقاط البوليس مع بعض الكمائن لأطواف الجيش حتى يحصل منهم لمزيد من السلاح لتسليح الاعداد المتزايدة التى تلتحق بحركته. ولم يمض وقت طويل حتى قويت الحركة واستطاعت أن يكون لها تواصل وعلاقات مع بعض دول الجوار ودول أخرى ذات مصلحة في إيذاء السودان حيث وفرت لهم ما يحتاجونه من أسلحة وذخائر وأمدتهم باحتياجاتهم من المؤن والأطعمة والخيام والألبسة العسكرية والأحذية ويسرت لهم أمر التدريب بواسطة مدربين مرتزقة «بيض» يعلمونهم التكتيكات القتالية ويدربونهم على الأسلحة الأكثر تعقيداً كالمضادات الجوية وخلافها.. كما وفرت لهم احتياجاتهم من الأدوية الطبية ووسائل لإخلاء جرحاهم إلى مستشفيات ميدانية في جوف الغابة، وإلى مستشفيات أوفر خدمة وأكثر تطوراً في بعض دول الجوار. وأذكر على سبيل المثال لا الحصر من تلك الدول التى أمدتهم بالمؤن اسرائيل ومن أولئك المرتزقة «البيض» الذين كانوا يدربونهم على فنون قتال العصابات أيضاً على سبيل المثال لا الحصر المرتزق «الألمان» رودلف اشتاينر الذي قُبض عليه وأُحضر للخرطوم وحُوكم بالسجن وأُودع سجن كوبر، ولكن سرعان ما أُطلق سراحه «لا أدري كيف ولماذا» حيث عاد إلى بلاده المانيا أو ربما إلى إحدى الدول الافريقية ليمارس نشاطه في تدريب مقاتلي حروب العصابات. ٭ بالرغم من ضمور المعارضة الجنوبية السياسية بالخارج التى كان يتزعمها السادة وليم دينق وجوزيف أُودوهو وأقري جادين وآخرين وخفوت صوتها وسط قبائل الجنوب، وهي التى كانت تؤمل أن «انيانيا» هي ذراعها العسكري، إلا أن «انيانيا» سرعان ما إنتشرت، إنتشار النار في الهشيم وسط مختلف القبائل الجنوبية وتقاطر نحوها الشباب يريدون الإنضمام لها والتدرب على أسلحتها النارية وسارع إليها أبناء السلاطين والأعيان كل يريد أن يكون له قصب السبق في الإلتحاق بها. وبفضل الدعم الخارجي المقدر والمساعدة المادية بالتنظيم الذي شمل كتابة مانفستو الحركة ولوائحها وبناء هياكلها واستحداث قياداته للمناطق على طولي مساحة الجنوب، لم يمض وقت طويل وإلا وقد أصبحت حركة «انيانيا» كما قال الزعيم الليبي عمر المختار «الثوار يملكون البلاد بالليل وحكومة المحتل تملكها بالنهار». لقد أصبحت بالفعل الانيانيا تتحكم في كل الريف الجنوبي بينما إنحسر نفوذ الحكومة المركزية فقط في عواصم المديريات والمراكز، المحروسة بحاميات الجيش والشرطة، كانت كل عاصمة مديرية وعاصمة مركز تضع خطة تأمين للدفاع عنها ضد محاولات الانيانيا بأن يُحصر كل السلاح الذي عند الجيش والشرطة وقوات السجون وحرس الصيد وعدد الأفراد ثم تقسّم المدينة إلى قطاعات يوكل كل قطاع منها إلى جهة معينة لتحرسه وكانت تُعدُّ لذلك الخنادق والسواتر الترابية اللازمة. وقد نجحت تلك الخطط في الحول دون ان تتمكن «الانيانيا» طوال مدة بقائها في الاستيلاء على أي مدينة أو مركز في دائرة نفوذ الحكومة. ٭ كانت حركة «الانيانيا» تختار الأهداف التى تضربها بعناية يعاونها في ذلك مستشاروها وخبراوها الأجانب. وكان أن اختارت أول ما اختارت قطاع التعليم وقررت ضرب المدارس الأولية للبنين والبنات التى كانت في بعض المدن الصغيرة خارج رئاسات المراكز والتى كان في غالبيتها يديرها نظّارمن شمال يعاونهم معلمين من وجنوب، وبعد قتل لبعض النظّار العملين بشمال وإحراق مدارسهم قررت وزارة التربية والتعليم قفل ما تبقى من مدارس وإخلاء المعلمين الشماليين بإعادتهم للشمال. الهدف الثاني بعد المدارس كان نقاط ومراكز البوليس لقلة عدد الرجال بها ولافتقارهم للتدريب اللازم ولضعف تسليحهم الذي كان ببنادق قديمة وبعضها تالف، وبعد أن قُتل عدد من رجال البوليس وأحرقت نقاطهم قررت وزارة الداخلية بدورها سحب النقاط النائية عن رئاسات المراكز وتزويد ما تبقى منها بقوة من الجيش تكون مصاحبة للبوليس في النقاط للمساعدة في صد أي هجوم تقوم به الانيانيا، وبهذا تكون الانيانيا أيضاً قد قلّصت من المساحة التى كانت تحت نفوذ الحكومة. ٭ هذا ولم تتوقف أبداً عمليات القنص الفردية التى يقوم بها قناصة مدربون من الانيانيا يلبسون ملابس مدنية ويتواجدون في الأسواق ومناطق التجمعات لاصطياد أي فرد من الجيش أو البوليس أو زي موظف حكومي شمالي يكون منفرداً أو في مكان يمكِّن من اصطياده فيه، كما كانت للأنيانيا شبكة محكمة لجمع المعلومات والمخابرات من داخل المدن والأسواق ومواقع السكن لتزودها بالمعلومات. وبعد توقيع اتفاقية السلام بين حركة أنيانيا والحكومة في أديس أبابا بأثيوبيا والتى تقرر فيها دمج مقاتلي الأنيانيا في قوات الجيش والبوليس تقدمت أنيانيا بكشف به بعض أسماء «الترزية» بجوبا قالت أنهم ضباط بها وأنهم كانوا يعملون في جهاز استخباراتها بمدينة جوبا لجمع المعلومات. ٭ وكانت للأنيانيا وحكومتها المدينة التى تدير بها منطقة نفوذها في الريف. كان لها موظفو ضرائب وجمارك لتحصيل الإيرادات التى غالباً ما كانت قطعان من الأبقار يتم بيعها في أوغندا أو كينيا أو محاصيل زراعية كالذرة والسمسم والذرة الشامية والعسل وكذلك سن الفيل. ولقد عثرت السلطات على قائمة ايصالات دفع بموجبها رعاة شماليون رسوماً مالية نظير دخولهم بماشيتهم دائرة نفوذ أنيانيا. ٭ بالطبع طول فترة نشاط الأنيانيا التى امتدت من عام 1957 إلى عام 1972م، حيث توقف النشاط بتوقيع اتفاقية سلام أديس أبابا، بقى الجنوب في حالة ظلام كامل لاغلاق كل المدارس كما خلا من أي تنمية أو خدمات تقدم للأهالي. فلم يكن ممكناً فتح أي شفخانة بيطرية أو مستوصف صحي أو أن تُحفر بئر أو يُشق طريق أو يُنشأ سوق، لقد كان الجنوب أرضاً يباباً محروقة. ٭ شكوت وما الشكوى لمثلي عادة ولكن تفيض الكأس عند إمتلائها. تابع