لم يمر عليَّ يوم منذ أواخر العام (2004م) إلا وقد زادت قناعتي مع مطلع كل صباح جديد بنبوءة المفكر الإستراتيجي محمد أبو القاسم حاج حمد رحمه الله، التي أطلقها بوثوقية السياسي العارف بالخبايا والمحلل المتعمق الذي يسبر أغوار القضايا تاريخياً وإجتماعياً، ففي يومٍ ما من شهرٍ ما من عام (2004م) وقبل وفاة هذا المفكر الضليع بقليل، سمعته يقول في مناسبة ذات صلة بقراءة الأوضاع والأحوال السودانية وتحليلها، ربما ولا أجزم أن مقولته تلك جاءت في ثنايا أو أعقاب محاضرة له بعنوان (السودان التليد والسودان الجديد)، ففي معرض قراءته لتلك الأحوال والأوضاع وكيفية تغييرها قال ما معناه ان التغيير القادم في أي مكان موبوء بالمشاكل السياسية والمظالم الإجتماعية والغبائن الاقتصادية والسودان من هذه الأمكنة بطبيعة الحال سيفجّره ويقوده (العطالى والزهاجى والمتسكعون والفقراء والشماسة وأصحاب الغبائن والمظالم وأهل الحقوق المضاعة)، ولن يكون للجيش عبر الانقلابات أو النقابات أو الأحزاب أى دور يذكر في أي تغيير قادم، اللهم إلا أن يجدوا أن رياحهم قد هبّت فيهبوا لإغتنامها على رأي من قال (إذا هبّت رياحك فاغتنمها، فعقبى كل خافقةٍ سكون، ولا تغفل عن الإحسان فيها، فما تدري السكون متى يكون).. كنا قد سمعنا ومانزال نسمع عن إستحالة الانتفاض والاحتجاج والتظاهر ومن ثمّ التغيير عبر آلية الخروج إلى الشارع، لدرجة جعلت خروج أية تظاهرة في إستحالة عملية (لحس الكوع) ليصبح بذلك الكوع أشهر أعضاء الإنسان وأبرز المصطلحات السياسية بإعتبار إستحالة لحسه كعضو من أعضاء جسم الإنسان متفوقاً بجدارة حتى على حلمة الأذن التي يُقال بإستحالة رؤيتها مع أن رؤيتها ممكنة صحيح أنها مستحيلة في حالة، ولكنها متاحة في حالة أخرى وهي حالة النظر إلى وجهك في المرآة أما لحس الكوع فغير ممكن في كل الأحوال، ولهذا يبدو أن (لحس الكوع) كان هو الرسالة الأقوى تحذيراً من مغبة الخروج إلى الشارع بل وقبل ذلك الأشد تعبيراً عن إستحالة مجرد الخروج إلى الشارع.. الآن دعونا من عبر التاريخ ودروسه وعظاته ووقائعه وأحداثه، القريب منها والبعيد، والتي تؤكد جميعها إمكانية (لحس الكوع) وبكل سهولة ويسر، ولننظر فقط فيما جرى بالشقيقة تونس، وكيف أن الشعب التونسي قد برع وأبدع في (لحس كوعه)، بعد ثلاثة وعشرين عاماً من الصبر و(الوعي والتفهم)، بل قبل ذلك فلنتأمل المثال (العملي) الذي أورده قبل مدة زميلنا الساخر زكريا حامد عن إمكانية لحس الكوع بمعناها الحسي المادي وليس السياسي، فزكريا الذي حكى عن المعاق جسدياً الذي وجده يلحس كلا كوعيه وليس كوعاً واحداً فقط أثبت عملياً إمكانية حدوث عملية لحس الكوع بالمعنى المادي بكل سهولة وبراعة، وها هم التوانسة يثبتون هذه الأيام إمكانية لحس الكوع بالمعنى السياسي بجدارة وجسارة وإقتدار، ورحم الله مفكرنا المقتدر محمد أبو القاسم حاج حمد، الذي سبق بالتحذير من ثورات الجياع والعطالى و(الزهاجى) والمغبونين والمضارين في أرزاقهم وعلاجهم وتعليمهم، ولا أدلَّ على ذلك من أن ثورة التوانسة قد فجرها بائع متجول لا يملك من حطام هذه الدنيا غير (درداقة) يتكسب بها رزقه الضئيل وهو الخريج الجامعي الذي لم يجد عملاً غيرها، ولكن السلطات لا هي رحمته ولا هي تركته يأكل من خشاش الأرض فمنعته العمل وصادرت (الدرداقة) فكان أن فجرت (درداقة) تافهة ورخيصة ثورة كبيرة وعظيمة، مكّنت الشعب التونسي من لحس كوعه..