اكثر من نصف قرن من الزمان مضت علي تكوين الدولة السودانية منذ رفع راية الاستقلال وانتهت اخيرا برفع راية جديدة وتكوين دولة في جزء من الدولة التي استقلت، الا ان هذه السنوات لم تكن كافية للاجابة علي سؤال محوري عمن نحن وما هويتنا ، السؤال الذي تجاذبته ثلاث اجابات هي العروبة والافريقانية والسودانوية ولكنها اجابات تركت بدورها مجموعة من التساؤلات الاخري معبرة عن نفسها بجدلية الصراع والتعايش في السودان، وعبارة الجدل والصراع هي الاكثر حضورا عندما يتعلق الامر بمناقشة قضية الهوية بالسودان، جدل صعد اكثر للسطح بعد انفصال الجنوب الذي اعاد الجميع لتساؤل اخر يتعلق بهل انتهت فكرة التعددية في السودان بذهاب الجنوب، وهو نفس الصراع القديم الذي تجدد بعد الانفصال . مركز الراصد للدراسات السياسية والاستراتيجية وضع السؤال علي طاولة النقاش وبحضور رئيس حزب الامة القومي الامام الصادق المهدي الذي قدم ورقة بعنوان «الهوية في السودان جدلية الصراع والتعايش » وذلك في سبيل البحث عن وطن يسع الجميع وهو ما يتطلب وجود ما يعبر عن كل هؤلاء والتعبير عنه في مؤسسات الدولة ذات التنوع وهو الامر الذي اكد عليه مجمل المتحدثين في الندوة وقبل التأكيد به حديثا بدا واضحا حتي في المنصة نفسها التي جلس في بدايتها الدكتور صبحي فانوس ومحمود حسن أحمد وامنة ضرار والساعوري وصديق تاور بالاضافة للمهدي وهو ما عبر نفسه عن بقاء التعدد برغم ذهاب الجنوب وانفصاله، الامر الذي ناقشه الجميع في ثنايا تناولهم للموضوع والذي اعتبروه نتيجة حتمية للفشل في ادارة التعدد من قبل الانظمة المتعاقبة علي حكم السودان، وهو الامر الذي يجب تلافيه من اجل تحقيق الاستقرار في مستقبل البلاد، وهو ما لا يتأتى الا بالاعتراف بالتنوع بين المكونات وعدم وجود اي شكل من اشكال الاستعلاء من اي طرف وتمتعه بحق الادارة الكاملة وفقا لما يؤمن به هو من رؤي وافكار ومعتقدات. الامام الصادق المهدي بدأ عبر عملية فك الاشتباك بين ماهو سياسي وما هو فكري، حيث قال ان اي فكر بدون سياسة هو فكر مشلول واي سياسة بلا فكر هي سياسة عمياء ، وان العلاقة بينهما علاقة تكامل بعدها دخل الي موضوع الندوة منطلقا من فرضية التنوع ، واصفا السودان بانه مزايكو وان حالة التعدد ما زالت موجودة في السودان ويجب التعامل معها علي هذا الاساس وانه كحالة يتجاوز فكرة الجنوب والشمال لبقية المكونات الاخري، وقال ان الحالة السودانية جزء من الحالة الانسانية عامة التي تعبر عن صراع المغالبة والتنوع ، واضاف ان تنوع السودان ارتبط بظاهرة التسامح الكامل للمجتمع مع بعضه البعض ، واعتبر ان السودان، وطن كثير التنوع وعلي المستويات كافة ثقافيا وعرقيا ودينيا، واضاف الامام ان انفصال الجنوب هو اخر حلقة من حلقات الاخفاق في ادارة التنوع، واذا لم نلم بالدرس فانه سوف يتكرر ، واعتبر المهدي ان تكوين الهوية في فترة المهدية ارتبط بالتشدد املته حالة التسيب الديني والتمزق الوطني وهو انقسام صار مطية للتدخل الاجنبي في فترة الامبريالية، كما ان المثقفين السودانيين في تناولهم للهوية السودانية انقسموا الي عروبيين وافريقيين والسودانوية كخيار توفيقي بين الاتجاهين ، واعتبر المهدي ان الانظمة الشمولية هي من فرضت الاحادية الثقافية في مراحلها المختلفة واعتبر ان الاحادية الثقافية الثالثة ادت الي ردة فعل واسعة النطاق تكونت بموجبها لوبيات مضادة في الداخل والخارج وسعت للتدخل في السودان، واضاف المهدي ان المشروع الحضاري الاحادي وغياب العدالة الثقافية في ادارة التنوع هو ما ادي للتوترات في اقليم دارفور ونشوء الحركات المسلحة ضد المركز والتدخلات الانسانية كمدخل للتدويل، ورأي المهدي ان أية محاولة لادارة التنوع باستخدام اسلوب الغلبة مصيرها الفشل ، وقال ان البلاد الان في حاجة ماسة لاسلوب جديد لادارة التنوع يجعلها تجاوز «البلقنة » وهو ما يجب تضمينه في دستور جديد استباقا لعمليات الانفجار بفعل التنوع ، واضاف انه لابد من الاعتراف بالفوارق الثقافية والاثنية في السودان الشمالي ، وان اي تقاعس عن هذه الاستحقاقات فانه سوف يفتح الباب واسعا لتكرار سيناريو الجنوب في اقاليم اخري ويفتح الباب امام استقطابات اقليمية حادة عدائية تودي بالسلام في المنطقة وتجذب اليها كافة التناقضات عبر جبل مغنطيس يجذب العقارب والدبايب، وان الحل هو في تبني المعادلة الكسبية لتجاوز مأساة انفصال الجنوب وجبر كسره عبر الكونفدرالية الاوسع لكل مكونات المنطقة، وختم المهدي حديثه بان الاستسلام لهوية احادية في ظل الاوضاع التي تحيط بالسودان يؤجج الصراع وهو اشبه بسيناريو الانتحار الذي ينبغي تجنبه لصالح هوية توفق بين التنوع والوحدة كطوق نجاة للوطن. الدكتور صفوت فانوس اول المعقبين انطلق من نقطة ان هذه المنصة تأكيد كامل علي ان السودان متنوع وهو تنوع يمثل هبة الهية لا مجال لانكارها، واعتبر فانوس ان الفشل في ادارة التنوع هو الذي قاد الجنوب للانفصال، وهو الامر الذي لم يتم التعاطي مع حدوثه بقدره الطبيعي فهو يمثل نكسة وطنية واعتبر ان الذي حدث هو انفصال خط في خريطة فقط وان ابناء الجنوب سيعودون طال الوقت ام قصر وقال ان اول خطوات المعالجة تتمثل بضرورة الاعتراف بالتعدد والتنوع وان عملية تبسيط هذا الامر هو تبسيط مخل يؤكد علي اننا نعيد في انتاج الأزمة واعتبر ان الفشل برز في محاولة الانظمة السياسية في تطبيق استراتيجية «فرض التماثل عبر قولبة الناس » واشار الي عبارة الوحدة في التنوع هي المدخل لمعالجة الأزمات وهي عبارة بدأ تطبيقها بعد اتفاقية اديس ابابا وظهرت في اعقاب التوقيع علي نيفاشا في التلفزيون القومي، ولكنها اختفت الان بعد الانفصال دون ان يتساءل احد عنها ، واشار الي ان القبول وخلق حالة التكامل تتطلب الاعتراف بالاخر وليس نفيه وان كل من يري ان السودان الان غير متنوع عليه حمل نفسه ووضعها في قلب الخليج العربي. واعتبر فانوس ان محاولات فرض هوية عبر آليات الهيمنة والسيطرة لا يمكن تحقيقها الان في ظل ثورة المعلومات والحراك الشبابي في المنطقة، واعتبر البروف محمود حسن أحمد ان التنوع ما زال موجودا في السودان باعتباره سنة كونية وان التعاطي مع الهوية السودانية في ظل عملية التناقض ما بين العروبة والافريقانية امر خاطئ وليس حقيقة والعلاقة بينهما تكاملية وليست صراعية كما يحاول البعض توصيفها . من جانبها اعتبرت القيادية في جبهة الشرق ان اي حديث عن انتفاء التعدد ومحاولة صياغة هوية سودانية ذات اتجاه احادي تمثل اعادة لاخفاقات الماضي، وقالت ان التنوع مازال ماثلا لدي السودانيين وان محاولة معالجته في اطار تطبيق سياسات الاندماج بديلا عن سياسات الاندياح الموضوعي هي رسالة للمزيد من المطالبات بحق تقرير المصير والانفصال ، وان اعادة تطبيق الاسلوب النخبوي في تحديد الهوية غير مطلوب الان بقدر حاجة الناس لاعادة صياغة الهوية والاعتراف بالتعدد اعترافا يتجاوز مسألة النصوص لمسألة الفعل الحقيقي. واعتبرت ضرار ان عملية الخلط مابين ادارة التنوع في السودان وادارة الجنوب مثلت اخفاقا يضاف لاخفاقات النظم السياسية التي تعاقبت علي ادارة البلاد ،وفشلت في ترسيخ مفهوم الامة السودانية كبديل لحالة الجهوية والقبلية السائدة الان والتي تنبئ بمزيد من النزاعات في عملية حسم قضية الهوية السودانية. واعتبر الكاتب الصحفي الدكتور صديف تاور في مداخلته ان مناقشة قضية الهوية ومحاكمتها من خلال ممارسات النظم السياسية تحمل المفاهيم اكثر من طاقتها وهي تعبير عن ردود فعل عاطفية اكثر منها مواقف علمية موضوعية، واعتبر ان الهجوم علي الثقافة العربية وتحاشي الناس اتخاذ موقف من اسلام الانقاذ الذي لا يشبه الاسلام الحقيقي يجعلهم يقعون في كثير من التناقضات وعليهم ضرورة التميز بين الموقف من النظام والموقف من الهوية، واعتبر تاور ان كثيرا من التحولات حدثت في مفاهيم تناول الهوية والتي حدث فيها عملية احلال وابدال فحلت عبارات الاقتسام في الثروة والسلطة بديلا للتنمية المتوازنة وعبارات الكادحين والمسحوقين الي الهامش والتهميش ، واعتبر ان المعالجة غير العقلانية قادت لتحول الصراع من صراع بين الشعب والسلطة الي صراع بين المكونات الاجتماعية وهو ما قاد لتكريس الجهوية التي تتطلب معالجة اثارها والتعاطي مع القضايا بدقة متناهية، واكد تاور علي ان التنوع السوداني سيظل موجودا مع بعض التغيرات الطفيفة بعد انفصال الجنوب الذي اعتبره حدثا عبر عن ارادة قوة سياسية في الشمال والجنوب في لحظة معينة وستعود الاوضاع الي طبيعتها بمجرد زوال هذه القوي ، حديث تاور عن عودة الجنوب الي احضان السودان الموحد اعادة لجدلية التساؤل غير المتناهي عن هوية السودان في ظل الوحدة، ولكنه لن يجيب علي تساؤلات هوية سودان ما بعد الانفصال في ظل استمرارية التنوع والتعدد ومعها الحاجة الي استراتيجيات جديدة لادارته من قبل السلطات الحاكمة.