نظم منتدى نادي القصة بالتعاون مع المجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون ندوة بعنوان ما بعد الحداثة ، قدم الورقة الرئيسة الدكتور عبد العليم محمد اسماعيل، فبدأ حديثه عما دار من جدل حول الحداثة وتشعباتها قائلاً:- لم يحسم المفكرون من كتاب وفنانين ونقاد وسياسيين واقتصاديين الجدل ? الجدل الذي دار حول تشعبات الحداثة modernism حتي فوجئوا بظاهرة جديدة وطازجة تتنفس من روح العصر الرأسمالي الخارق ? ألا وهي ظاهرة مابعد الحداثة . فما بعد الحداثةيصعب الدخول عليها بيقينيات البحث عن الحقيقة ، إذ لا بد من التخلي عن هذا الزعم لمصلحة رؤية أكثر اعتدالا في معالجات واقع مطاطي وهلامي يصب تحديد بؤرة واحدة له . فالبحث عن ما بعد الحداثة هو محاولة تتجه إلى مقاربتها أكر مما هو تحديد شامل وحاسم لمفاهيمها واتجاهاتها ، وذلك لأن مابعد الحداثة لا تمتلك ? بل ولا تدّعي امتلاك ? نظرية عامة عن الوجود والذات والطبيعة ؛ لأنها ضد صياغة النظريات العامة . هذا ? وقد ذهب « بيتر بروكر» ألى أن ما بعد الحداثة ما هي إلّا ظاهرة تميّز الثقافة « الأنجلو- أمريكية والأوروبية في القرن العشرين . إلا أن بورديو يشكك في هذا التعميم ، فالحداثة ? ناهيك عن ما بعدها ? في رأيه ? هي ظاهرة أمريكية خاصة ؛ ففي بعد مقولاته يرى أن الدولة الوحيدة التي استطاعت الدخول في أزمنة الحداثة هي أمريكا أما أوروبا فهي غير مؤهلة للدخول في أزمنة الحداثة ؛ لأنها ما زالت مثقلة بالتاريخ والأديان ، فبرديو يربط ما بين الحداثة وما بعدها بالزمن والرؤية ، فهما ظاهرتان ترتبطان بالحاضر الذي ينفتح على المستقبل وبالرؤية العلمانية البراغماتية للواقع . وبما أن الحداثة لاتمتلك نظرية عامة ، فلا بد من النظر إليها من خلال مقولاتها الرئيسية وحالاتها الثقافية ، وتتجسد هذه المقولات والحالات في الآتي : 1- إنها بيئة المدينة ما بعد الصناعية وقف ديفيد هارفي في كتابه « حالة مابعد الحداثة « طويلا عند الدور الذي لعبته المدينة في تشكيل قيم مابعد الحداثة ، حيث ذهب في تحليله لكتاب رابان « المدينة الناعمة « إلى أن مابعد الحداثة يرتبط بتكوّن طبقة جديدة من الناس التي تتميز بسيولة القيم والأخلاق ، طبقة تعيش في المدينة ( الأوروبية ) باعتبارها مكانا للتناقضات الهائلة والوعود المتناقضة والإغراءات والرموز المتغيرة ، فهي مكان يعدكبالمتعة والموت والدمار ، والمال والفقر ، وتتفجر فيه الرموز والإشارات التي تسهم في صياغة الناس وأمزجتها 2 ? هي حالة أنتجها الفشل السياسي ذهب تيري أيجلتون في كتابه « أوهام ما بعد الحداثة « إلى أن مابعد الحداثة عبارة عن حالة نتجت عن فشل شياشي شامل ، سواء أكان في مجتمع ما بعد التصنيع ، أم فقدان الحداثة لأهليتها ، أم في حركات الطليعة الفجة ، أم في تحول الحضارة إلى استهلاك ، أم في السياسات الجديدة ( العولمة ، أو من خلال انهيار آيديولوجيات خاصة بالمجتمع والأفراد ؛ فمن خلال هذا التشتت أو الطيف المتموج تتكون بيئة عامة يطلق عليها حالة مابعد الحداثة ، وهو طيف يشير شششغلى تجليات أو تمظهرات مابعد الحداثة أكثر مما يقدم لنا تعريفا عن ما بعد الحداثة . 3- هي رؤية تاريخية لا تؤمن بغائية التاريخ ذهبت بعض اتجاهات ما بعد الحداثة إلى أن التاريخ يمثل تقلبا لا يتوقف ، فهو متعدد بدرجة محيرة ، وليست له نهايات محددة كما ذهب فوكياما ، إذ هو هجموعة من الأزمات والأحداث المثيرة التي لا يمكن صياغتها في رؤية واحدة شاملة إلا بواسطة إخضاعها قسريا لرؤية نظرية لا تجد لها تطبيقات واسعة في مجرى الواقع الحي . 4-الاحتفاء بالجسد تتجه ما بعد الحداثة إلى الاحتفاء بالجسد باعتباره هوية خاصة تتطابق مع صاحبها ، فالجسد - في رؤيتها- عبارة عن مكان محمل بالرموز التي تستطيع أن تشبع شغفنا الثقافي بالمتعة والعمق والتعقيد ، لأنه يربط ما بين الطبيعة والثقافة ، فما بعد الحداثة هو تحوّل في النظر إلي الجسدمن كونه فاعلا إل الجسد باعتباره مفعولا به . هذا ? وقد تطور وعي الجسد عن سؤال الجنس والحركات الجنسية في ستينيات القرن العشرينلجماعات الطلاب والشباب ، ولسؤال النوع الذي أنتج حركات الجندر، فقد تحوّل جميع ذلك إلى وعي عميق أحدث تحول جذري في الفكر البشري ، وقد تجلى ذلك الوعي في كتابات ميشيل فوكو الذي ربط بين الجسد والخطاب والسلطة والمعرفة ، باعتبار أن الخطاب عموما وخطاب الجسد خصوصا مناطق تداخل وانتهاك وقسر وحجب وتغييب . 5- هي مقاربات نظرية فلسفية ذهب كارول نيكسون إلى أن أطروحة ما بعد الحداثة ? في الفلسفة بمعناها الواسع ? تشمل عددا من المقاربات النظرية التي تتجلي عبر : ما بعد النزعة البنيوية ، النزعة التفكيكية ، الفلسفة ما بعد البنيوية ، الفلسفسفة ما بعد التحليلية ? النزعة البراغماتية الجديدة ...إلخ ، فهذه التيارات وغيرها هي تصورات تسعى إلى تجاوز التصورات العقلية ومفهوم الذات العاقلة باعتبارها تمثل أساس التقليد الفلسفي الحداثي الذي خط معالمه الأولى ديكارت وكانت . 6- هي توافر ثلاثة عناصر متمايزة ذهب أليكس كالينكوس إلى أن مابعد الحداثة ما هو إلا توافر ثلاثة عناصر متمايزة ، هي : أ?- الردة على الحداثة : تجلت هذه الردة في الحركات الفنية المعاصرة ؛ خصوصا تلك التي اهتمت بالعمارة ، حيث دعت إلى معمار يستعيض عن : التقشف بالتنميق والتقليد بالإثارة والتجريد بالخربشة الثيرة للضحك والسخرية واللعب ب?- ظهور تيار فلسفي باسم ما بعد البنيوية ، وهو تيار جيل الاختلاف المتمثل في مجموعة من كبا ر منظري النصف الثاني من القرن العشرين ، أشهرهم: ميشيل فوكو ، جاك دريدا ، جيل دلوز ، ليوتار ، جوليا كرستيفا بورديو ، وهؤلاء يعتبرون مفكرين اشتغلوا على قضايا أفرزها المجتمع الصناعي الذي يعيش حالة ما بعد التصنيع ، وهي قضايا تتصل بالهوية والذات والجسد والأنثي والسلطة والاختلاف والهامش ؛ باعتبارها قضايا تعمل السلطة على عولمتها وتسليعها وشرعنتها ، فواصلوا نقد الحداثة ومشروعها المرتبط بالتنوير ، مواصلة لما بدأته مدرسة فرانكفورت عفسعوا إلى تحطيم مقولاتها واستبدالها بأنماط جديدة من السلوك والتفكير والرغبة ، فعمدوا إلى استبدال : الاختزال والتوحيد بالتكاثر التماثل بالتقابل والاختلاف الاتصال بالانفصال هذه الأنماط تمتلك القدرة على التمييز بين ماهو متعدد وما هو موحد ومتشابه ومتطابق ، وما هو متحوّل عما هو ثابت ومتضافر ، وما هو جوال متحرر عما هو راسخ مستقر ، وما هو سيولات دائمة عما هو ضرب من الوحدات الجافة الجافة ج- بروز نظرية المجتمع الصناعي ، ويتجلى ذلك في صعود الثقافي على سطح المشهد العالمي باعتباره محددا لحركة الاقتصاد واتجاهاته ، وذلك ليكون الاقتصاد تابعا للحاجات الجديدة للثقافة بغرض اشباعها ، ويرتبط بهذا الموقف تراجع الأخلاق الدينية وارتفاع دخل الفرد . وهذه الحركة ارتبطت إلى حدٍّ بعيد بالمجتمعات الغربية ؛ وهذا تأكيد لما ذهب إليه بيتر بروكر من أن الحداثة وما بعدها هي ظاهرة تميّز الحضارة الغربية ، لأن خارج هذه السياقات نلحظ انتشار الفقر والحركات الدينية وتراجع الثقافي. 7-نهاية السرديات الكبرى ذهبت بعض الاتجاهات إلى أن مابعد الحداثة يتمظهر في ظاهرة نهاية السرديات الكبرى ( الصياغات النظرية التي تنطوي على تفسيرات كبرى ) . وينطبق هذا على مشروعات سياسية واقتصادية كبرى ، مثل : الشيوعية التي أجبرت علىى تغيير كثير من مقولاتها عن البروتاريا ، واقترابها كيرا من الرأسمالية ومقولاتها في السياسة والتنظيم والعمل . كما انهارت مقولات نهاية التاريخ بتفجر مسارات مغايرة ? تماما- للحركة التي بشر بها فوكياما عن الديمقراطية والمجتمع الإنساني المتماثل ، فكان ظهور الحركات الدينية والنازية وحركات التحرر النسوية والقوى المعارضة لأمركة العالم وتعثر مشروع وإعاقة تطور النظم الديمقراطية ؛ كل هذه الالسرديات الكبرى تراجعت كثيرا ، فاتجهت لتبحث عن مقولات جديدة تتماهي مع معطيات الواقع العلم 8-ظهور حركات الهامش العرقية والجنس والنوع ، فقد مثلت حركات زنوج أمريكا دورا مهما تغيير المشهد السياسي والثقافي العالمي ؛وذلك من خلال الموسيقي ( الراب ) ، ومن خلال الصعود السياسي الذي توّج بتولي أوباما لقيادة أكبر قوة عالمية ، ويتضح ذلك من خلال صعود المجموعات المهمشة في العالم ؛ سواء أكان تهميشا دينيا أو عرقيا أو ثقافيا ، فتم الاعتراف بها وبخصوصياتها ، فقننت لها قوانين دولية ترعاها ، الأمر الذي أدي إلى حروب أهلية ونزعات انفصالية في كثير من دول العالم الثالث ( عراق ما بعد الاحتلال ، الصومال ) ن بل قاد في بعض الأحايين إلى انفصال دول ( أثيوبيا ، السودان ) ، فجميع ذلك ارتبط بما بعد الحداثة في إعلائها للعرقيات . 9- صعود الفنون المرئية : ارتبطت مابعد الحداثة بثقافة الاستهلاك التي هي خاصية رأسمالية ، وهو ما يجعل من اتجاه ما بعد الحداثة يرتبط في أحد أبعاده بالرأسمالية الأمريكية على وجه التحديد ، وأكثر تجليات ما بعد الحداثة كان في الفنون المرئية : العمارة ، الرقص ( الراب ) ، التشكيل . فكان للصورة الدور الأبرز في بلورة الذوق العام في النصف الثاني من القرن العشرين ، وقد لعب التلفزيون الدور الأبرز في صيغة الصورة التي تؤدي وظيفة فعالة في بلورة الاتجاهات وتكوين الأمزجة والأذواق ، وقد وظفت في ذلك الجسد باعتباره منطقة إثارة لتعميق أثر الدعاية الاستهلاكية . وقد نتج عن ذلك احتفاء كبير بالمرئي ، فاحُضن التشكيل ليصبح أحد مناطق التجارة العالمية الفاعلة في السوق ، ووجد الفنانون التشكيليون أنفسهم في أوضاع اقتصادية نقلتهم من طبقة الجماهير الكادحة إلى الطبقة البرجوازية ، ليلحقو بمصممي الدعاية والديكور والأزياء . نتج عن كل هذا التحّول أن غيرت هذه الفنون من أسئلتها الثورية إلى أسئلة الذات المتوجة داخل عالم مضطرب ، وتخلت عن دورها في التغيير على مناورات صغيرة فردية ومحدودة التأثير علي تهذيب أخلاق رأس المال ، لأن جزءً من مصادرها الاقتصادية وأوضاعها الاجتماعية مرتبطة برأس المال العالمي والمحلي . أما الكتاب فقد تراجعت مكانتهم وتأثيراتهم في التغيير، فسعوا إلى توفيق أوضاعهم الثورية بالغض عن بعض جرائم رأس المال الذي لم يبخل بجهوده لاحتواء الأدب ، وذلك من خلال تنظيم المؤتمرات وعقد بعض الجوائز باعتبارها دعاية جيدة ؛ أما النقد فقد قام بهجرة معرفية نقلته من محدودية الأدب إلى رحابة الخطاب باعتباره تشكلات قابلة للتحليل من منظورات سوسيولوجية وسليكولوجية وابستمولوجية لا تحدها حدود ، فتجاوز النقد ادعاءات البنيوية التي تمثل عصور الحداثة إلى نظريات القراءة والسيميولوجيا وتحليل الخطاب ؛ ليتحول بذلك من الحداثة إلى ما بعد الحداثة ، متماهيا في ذلك برفيقه الأدب الذي هجر المقولات التي تنطلق من النص العمل إلى النص الكتابة , أو النص الهجين .ٍ