تواصل رياح التغير اندفاعها في المنطقة، لتؤكد أن نظام الطغيان والاستبداد، سواء أكان يحكم باسم قبيلة أو آيديولوجيا أو طبقة، أو كان يدعي أنه الأقرب إلى الله، أو كان يخطرف بأن أغلبية الشعب معه وتحبه وأن معارضيه هم أقلية باغية بائسة... ضد المسار الموضوعي للتاريخ، وسيذهب إلى المذبلة، طال الزمن أم قصر. وبعض الناس يعتقدون أن مجرد رفع المستوى المعيشي للمواطن وتوفير القدر المعقول من احتياجاته المادية من مأكل وملبس ومسكن وتعليم وصحة.... الخ، كافٍ لأن يلتزم هذا المواطن الصمت ويرضى بحكم الطغيان والاستبداد. ولعل ما يجري اليوم في ليبيا والبحرين يخطئ هذا الاعتقاد، ويؤكد مقولة «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». فرغم المستوى المعيشي المرتفع في هذين البلدين انفجر غضب الجماهير ضد الاستبداد، وامتلأ النهر الصناعي العظيم في ليبيا بدماء أبنائها المسفوح بقصف طائرات الأسرة الجماهيرية المالكة!. فالإنسان لا تنحصر احتياجاته فقط في الأكل والشرب وسائر الغرائز الأخرى، فهذه سمات نشترك فيها مع الحيوان. ولكن احتياجاتنا باعتبارنا بشراً ستظل منقوصة وتشوه معنى آدميتنا إذا لم تكتمل بتلبية كل ما هو متعلق بالوجدان والمشاعر والوعي وحرية الضمير، وبأن الناس، كل الناس، يرغبون في التصرف بصفتهم راشدين، وليس قصّراً، لهم موقف حريص حيال كل ما يجري حولهم. وهكذا فإن أي نظام ينفرد بالحكم ويتحكم في الثروة، ولا يوفر الفرص المتساوية للجميع للمشاركة، ويتجاهل احتياجات المواطن المادية والروحية، سيجد دائما من يقاومه. وهي مقاومة لا تنبني على رفض النظام المستبد وحسب، وإنما ترتكز أيضا على تطلعات المقاومين إلى نموذج عادة ما يتكون عندما يقارنون أوضاعهم بأوضاع بقية شعوب المنطقة والعالم من حولهم. إن الوعي بضرورة التغيير ليس وليد الصدفة، وإنما هو نتاج عملية تطور تراكمي متواصل، يتولد من خلال المعاناة والشعور بالغبن وضرورة إزالته، كما يتغذى باستلهام دروس المقاومة والاستنهاض، سواء من حقل التاريخ الوطني أو تجارب الشعوب الأخرى. والوعي بالتغيير يأخذ شكله المنظم والمرتب في اتجاه صيرورته في فعل ملموس وشعار ملموس ومواعين ملموسة، من خلال جهود النشطاء السياسيين، وسائر نشطاء المجتمع المدني جيلا بعد جيل. وهي جهود ربما لا ترى نتائجها المباشرة الملموسة أيضا إلا لحظة الانفجار/ التغيير، وعندها سيبدو خط سير المقاومة أكثر وضوحا وتمايزا، متخذا مسارين متقاطعين يؤثر كل منهما على الآخر، إيجابا أو سلبا: مسار في اتجاه دحر النظام المستبد القائم، ومسار في اتجاه توفير فرص النمو والتطور الداخلي للنظام البديل بمشاركة كافة القوى التي أطاحت بنظام الاستبداد والطغيان. لذلك، لم تكن صدفة أن توحدت مختلف الرؤى والمنطلقات الأيديولوجية والفكرية والدينية للملايين الثائرة في ميدان التحرير في القاهرة، في شعارين أساسيين: «الشعب يريد إسقاط النظام»، والذي سرعان ما انتشر مع رياح التغيير وبنفس قوة اندفاعها ليصبح ملكية عامة لكل شعوب المنطقة، وشعار: «الدين لله والوطن للجميع»، الذي وحد المصريين، مسيحيين ومسلمين، ورضي به دعاة الإسلام السياسي، ولو إلى حين. ومن الواضح أن شعارات ومفاهيم التغيير، لا تترسخ فقط بسبب كونها تظل حاضرة بمرور الزمن، وإنما بوصفها نتيجة مباشرة لحراك النشطاء والمقاومين، كل في مجاله. فمفهوم «الدين لله والوطن للجميع» مثلا، لم يصبح جزءا من المكون الثقافي والفكري للحركة المطالبة بتسييد مفاهيم المجتمع المدني الديمقراطي، إلا بوصفه نتاجا لحراك متصل يمكنك أن تتابع جذوره منذ عصر التنوير وما تلاه من مقاومات لاحقة رافضة لسيطرة الكهنوت ورجال الدين. ولن يغير من هذه الحقيقة إن اتفقت مع القائلين بأن أول من هتف بالشعار هو القائد سعد زغلول داعيا لوحدة الشعب المصري في ثورة 1919م، أو اختلفت معهم لتتفق مع من يقول بأن أول من هتف بالشعار في الوطن العربي هو القس بطرس البستاني «1819م 1883م»، الذي أسس مجلة «الجنان»، واتخذ المقولة شعاراً لها. ومن زاوية أخرى، فإن ثورة تكنولوجيا الاتصالات، أشاعت وعولمت المعلومة، قافزة بالوعي البشري قفزات هائلة، لدرجة أن الأميين اليوم قادرون على امتلاك قدر من الثقافة الشفاهية، سماعا ورؤية. والنتيجة هي اتساع قطاعات المجتمع التي باتت قادرة على معرفة ما يدور حولها ودراسته ومن ثم تحديد أدوارها فيه، سعياً لتحقيق تطلعاتها المشروعة لعالم أكثر عدالة ورحابة. واعتقد أن قفزة الوعي هذه ساهمت في إعلان ميلاد ثورات أبناء المناطق المهمشة ضد المركز في السودان، والتي تعددت أشكالها، وفقا لتفاوت مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي وكل تفاصيل الجغرافيا السياسية، وحسب سطوة وقبضة السلطة المركزية على مناطق الهامش هذه، وكذلك حسب القدرات والامكانات الذاتية لهؤلاء الثوار. وما كل الاتفاقيات التي وقعها نظام الإنقاذ في السودان مع حركات الهامش، بما فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان، إلا دليلا على طبيعة هذه الثورات ونجاحها بدرجة أو أخرى. وهذا أمر له دلالته. فإن تأخذ الثورة في السودان منحى إثنيا وقوميا، لم يأتِ من فراغ، بل هو رد فعل طبيعي لهيمنة الثقافة العربية الاسلامية في المركز منذ الاستقلال، والتي اكتسبت بين يدي سلطة الإنقاذ طابع الطغيان والاستبداد تجاه الثقافات والقوميات الأخرى، مما دفع الأخيرة للرفض والمقاومة والثورة. واستبداد الإنقاذ المترجم إلى عنف، أدى إلى تغيير جغرافيا البلاد بانفصال الجنوب، وربما يدفع بتغيرات جغرافية أخرى لاحقا. فهناك المطالبة بالحكم الذاتي التي برزت إلى السطح في كل من جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، والأيام القادمات لدارفور حبلى بكافة الاحتمالات. وما نشهده اليوم، يؤكد أن الثورة العلمية التكنولوجية لها مآلاتها الإيجابية على ثورات الشعوب من أجل التغيير السياسي والاجتماعي، مثلما لها مآلاتها الإيجابية على توحد الحضارة الإنسانية تحت مفاهيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهذا موضوع ربما سنتناوله بالتفصيل في يوم ما. فالبث الحي المباشر لتفاصيل انتفاضة تونس، والنقل المباشر والمتواصل لغليان الثورة المصرية في ميدان/ استاد التحرير، جعل شعوب العالم تؤمن حقا بأنهم أيضا لاعبون أساسيون في ذات المعركة، فأسرعوا يعلنون تضامنهم في ملحمة رائعة أمام السفارات في المدن المختلفة. والأهم من ذلك، كأنما هذا البث المباشر نفخ الحياة والأمل في شعوب المنطقة محرضا إياها بالاحتذاء. وكتب محمد الماغوط في «الأرجوحة» «إن العدالة التي تشمل الجميع لكنها تستثني فردا واحدا، ولو في مجاهل الإسكيمو، هي عدالة رأسها الظلم وذيلها الإرهاب. والرخاء الذي يرفرف على موائد العالم ويتجاهل مائدة واحدة في أحقر الأحياء، هو رخاء مشوه. الكل أو لا شيء، طالما أن الشمس تشرق على الجميع.. طالما إن السنبلة الأولى لم تكن ملكا لأحد». وفي سياق الاحتفاء بثورة الشباب في المنطقة، لماذا يصر البعض هنا على حث الشباب السوداني لرمي الأحزاب السياسية وراء ظهره باعتبارها أصبحت موضة قديمة؟ والمجتمع المدني باعتباره نتاجا راقيا، تخطت البشرية صعوبات جمة حتى تتوصل إليه، وبوصفه مصدرا أساسيا لوعي الشعوب، شيبها وشبابها، يضم، بمنظوره الواسع، الأحزاب السياسية، باعتبارها أحد تجليات هذا الشكل الراقي. والمجتمع، دائما بحاجة إلى مجموعة من الأفراد يلتفون حول هدف، فكرة، غاية أو قضية. ومن هنا نشأت الأحزاب السياسية باعتبارها ضرورة موضوعية لا يمكن نفيها بسهولة. صحيح يمكن أن يتغير شكلها أو وسائل عملها أو خطابها، لكن مشروعية بقائها تظل موضوعية مادام هناك صراع اجتماعي. بل أن المنظمات المدنية ذات الطابع المطلبي أو الاصلاحي البحت، تقترب من التنظيم الحزبي كلما اقترب نشاطها من أو تقاطع مع قضايا السياسة. فمن دروس التاريخ القريب رأينا كيف أن حركة الخضر في أوروبا المهتمة بقضايا البيئة والتلوث، في سعيها لسبر غور جذور هذه القضايا، اصطدمت بالسياسة في بلدانها ووجدت نفسها في خضم الفعل السياسي، فخاضت الانتخابات تحت لافتة حزب الخضر، بل واصبحت جزءا من الائتلافات الحاكمة في أكثر من بلد. وحركة احتجاجات عمال حوض السفن في مدينة غدانسك البولندية التي بدأت باعتبارها حركة احتجاج نقابي ضد النقابات الرسمية في بولندا، ودخلت في إضراب عام حتى انتصرت في أغسطس 1980م لتكون أول نقابة مستقلة عن الحزب والدولة باسم نقابات التضامن، اقتربت أكثر من السياسة لتلعب دورا رئيسيا في الاحتجاجات السياسية التي اجتاحت بولندا في عام 1989م، وأطاحت بالنظام الذي كان يحكم باسم الطبقة العاملة!. ثم خاضت الانتخابات تحت اسم نقابات التضامن، لتدخل البرلمان ويصبح مؤسسها رئيسا للجمهورية. وهكذا حركة الشباب الثائرة اليوم في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين.... والسودان، تطرح بشدة قضايا إصلاح السياسة والمجتمع، فتتبلور عندها شعارات الحرية والكرامة والتغيير، مجددة بثورية خلاقة وعي الأحزاب القائمة، وفي نفس الوقت مكتسبة وعي الحكمة من هذه الأحزاب، دافعة إما إلى تجدد هذه الأحزاب أو تخلق أحزاب جديدة. فالشباب ليس نسيج وحده، ووعيه يتشكل من خلال حدة الصراع السياسي الاجتماعي في البلد، وحراك المجتمع المدني عموما بما في ذلك الأحزاب. ولكن وجوده المستقل عن مواقع اتخاذ القرار ودوائر الحكم يسمح له بالرؤية الناقدة، كما أن تطلعه نحو المستقبل الأفضل يؤهله ليكون خالق البدائل الأكثر انسجاما مع المستقبل. [email protected]