أتاحت لي رئاسة الجمهورية رحلة امتدت يومي الاربعاء والخميس الماضيين برفقة الرئيس عمر البشير إلى ولاية جنوب كردفان التي تشهد طقسا حارا سياسيا حيث المعركة الانتخابية في أوجها وارتفاعا في درجات الحرارة والخريف بات يطرق أبواب المنطقة ورائحة «الدعاش» ترفع قرون الأبقار وتدمع أعينها لمن يعرفون الماشية واستشعارها لتبدل الفصول. رحلة في يومين شملت المجلد والفولة وبابنوسة ولقاوة وكادقلي، كانت حافلة في منطقة غرب كردفان التي كانت ولاية قبل اتفاق نيفاشا ،لكنها دفعت الثمن وذابت في شمال وجنوب كردفان، لكن لا يزال أهلها متمسكون بعودتها ويعتبرون أنهم ضحوا من اجل السلام، وان من الوفاء لهم إعادة الولاية وعاصمتها الفولة مع أمل من سكان وأعيان مدينة بابنوسة بأن تكون مدينتهم حاضرة الولاية المرتقبة وهي المدينة التي تعتبر مدينة العمال والسكة الحديد في غرب البلاد. الرئيس البشير أعرب عن سعادته، وكان في قمة معنوياته في ديار المسيرية التي انطلق منها إلى الخرطوم قبل أيام من تغيير 30 يونيو 1989 ،ويحفظ لهم أنهم ناصروه وشدوا من آزره عندما قضى معهم عامين قائدا عسكريا وأُعجب بشجاعتهم وكرمهم ووفائهم ،ويبدو أن من أسباب سعادته أيضا انه ترك وراءه الخرطوم بضغوطها وتوتراتها ومجالسها التي لا حديث لها إلا قراره بإقالة مستشاره لشؤون الأمن القومي الفريق صلاح عبد الله. كان يرافق البشير ساعده الأيمن وزير شؤون الرئاسة الفريق الركن بكري حسن صالح،ووزراء الإرشاد والأوقاف الدكتور أزهري التجاني ،والطرق والجسور المهندس عبد الوهاب عثمان،والعلوم والتقانة الدكتور عيسى بشرى ،قبل أن ينضم إليه في كادقلي رفيقه وصديقه وزير الدفاع الفريق أول ركن عبد الرحيم محمد حسين،بجانب والي جنوب كردفان والمرشح للمنصب أحمد هارون الذي يبدو مطمئنا لفوز مريح في الانتخابات التي تنطلق مرحلة الاقتراع فيها يوم الاثنين المقبل. استقبالات البشير في هذه المناطق كانت كبيرة، ويشعر الزائر أن أهل القطاع الغربي في جنوب كردفان يحملون تقديرا خاصا له وهو كان يبادلهم التحية بأحسن منها خلال خطاباته في تلك المناطق التي تعتبر معاقل قبيلة المسيرية،كما أن جهود أحمد هارون في الخدمات والتنمية لا تخطئها عين فالطرق امتدت في بابنوسة والمجلد والفولة ولقاوة، ومشروعات المياه والمدارس،بعد ما عانت من الإهمال ،فترات طويلة وكان أهلها يشعرون بظلم إذ أن مناطقهم قريبة من حقول النفط ولكنهم لم يجدوا منه إلا غبار الشاحنات وتكدير بيئتهم بمخلفات صناعته وتضرر أرضهم وزرعهم وماشيتهم،وما حدث كان ثمرة نجاح الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حيث استطاع أحمد هارون ونائبه عبد العزيز الحلو تحقيق استقرار سياسي وأمني مكن حكومة الولاية من التركيز على الخدمات والتنمية وأنجزت، وقد ترجم البشير اعجابه ذلك عندما منح هارون والحلو وسام الإنجاز السياسي، ولا يزال ينتظر حكومة الولاية الكثير لأن طموحات المواطنين في وضع أفضل كبيرة ، ويرون أنهم صبروا وينبغي أن يتزايد الاهتمام بمنطقتهم، وأن يجنوا من ثمرات نفطهم،وأن ينال أبناؤهم وظائف في شركات النفط. رسائل متعددة حديث البشير في لقاءات جماهيرية في المجلد وبابنوسة والفولة ولقاوة وكادقلي ركزت على قضايا محددة: أولا: تكررت مطالب المتحدثين باسم مجتمعات هذه المناطق بتحسين الخدمات والاهتمام بالتنمية، فبدا لي أن هناك تغييرا في نهج الرئيس حيث تخلى عن لغة التبرعات والوعود، فكان يرد أن هذه المطالب هي جزء من برنامج الحكومة وتعتبرها واجبا وأنهم لن يمنحوا وعودا ولكنهم يقدمون عمليا ما يستطيعون، وأن المواطنين سيرون بعيونهم طرقا ومدارس ومستشفيات ومشروعات مياه. ثانيا: تكررت أيضا المطالب بعودة ولاية غرب كردفان التي ذابت عقب اتفاق نيفاشا، فقال البشير إن الولاية ذابت لأسباب ترتبط بعملية السلام، وان الولاية ستعود بانتفاء أسباب غيابها بعد الفراغ من الانتخابات التكميلية ثم المشورة الشعبية في ولاية جنوب كردفان. ثالثا: ظل مصير منطقة أبيي بندا ثابتا فالمسيرية يرون أنها مسألة مصيرية «حياة أو موت»، وأن حقوقهم فيها لا يمكن التنازل عنها،ويطلبون أن تكون قضية دولة لا قبيلة ، ولم يجدوا من البشير إلا تعزيزا لموقفهم ، حيث أكد أن أبيي ليست مكان مساومة وان المنطقة شمالية وجزء من السودان الشمالي وستظل كذلك، وأن محاولات الحركة الشعبية لفرض أمر واقع عبر تضمينها في دستور دولة الجنوب وخريطة الدولة الجديدة سيمنع الشمال من الاعتراف بالدولة الوليدة،وغاب الحديث عن فرص الحل مما يفتح الباب أمام تعقيد جديد للقضية مع تضاؤل وجود أفق لتسوية النزاع،وهنا الخطورة، فمرحلة ما بعد الانتخابات والمشورة الشعبية، وانفصال الجنوب يتوقع أن تشهد تصعيدا سياسيا وربما عسكريا من الأطراف المحلية في المنطقة لتحقيق مكاسب على الأرض، وهو ما ينبغي التحسب له قبل وقوع «الفأس في الرأس». رابعا: الانتخابات التكميلية في جنوب كردفان كانت هم الرحلة، ومما سهل مهمة البشير أن ما حققه أحمد هارون من مكاسب في ولايته دفع قطاعات واسعة من القطاع الغربي إلى التمسك به باعتباره الخيار الأفضل لمواصلة قيادة الولاية للمرحلة المقبلة، حتى أن لجان دعمه في منطقة المجلد ضمت ممثلين عن حزب الأمة القومي، حسب المتحدث باسم لجنة القوى الوطنية لترشيحه،ومما يلمسه المراقب في هذه المناطق أن كفة هارون ستكون راجحة في الانتخابات،ولكن ما هو غير مريح أن الانتخابات أحدثت فرزا سياسيا وأثنيا كذلك وهو أمر ينبغي احتواءه حتى تحافظ الولاية على التعايش السلمي والتماسك الاجتماعي والاستقرار والأمن الذي تنعم به،وليس من مصلحة الجميع أن تنزلق المنطقة الى نزاع جديد. وقد صبغت شدة المنافسة وارتفاع لغة الحملة الانتخابية، الخطاب السياسي، فقد قال البشير إن تهديد الحركة الشعبية بالعودة إلى الحرب في حال خسارة مرشحها للانتخابات لا يخيفهم وان الحرب في حال فرضت عليهم فانهم سيصعدون جبال النوبة جبلا جبلا ،ورغم أن الحديث في مقام التعبئة والحملة الانتخابية إلا أنه أثار جدلا محليا وعالميا وربما تمتد آثاره حتى مرحلة لاحقة. بين الأمل والبكاء مرشح المؤتمر الوطني لمنصب الوالي أحمد هارون ركز خلال مخاطبته اللقاءات الجماهيرية على أن برنامجه شعاره «الأمل والمستقبل» ويستند على ما تحقق انطلاقا لاستكمال نهضة تلبي طموحات المواطنين في خدمات جيدة وتنمية وتشغيل الشباب من الخريجين وزيادة فرص العمل والإنتاج، وعدم التفريط في الاستقرار السياسي والأمني،ولكنه حمل في شدة على برنامج الحركة الشعبية التي تنافسه وقال إنها لم تقدم إلا الدماء والدموع منذ 1983 وحتى الآن ،ولا تجيد إلا دغدغة مشاعر المواطنين بخطاب يتحدث عن تهميشهم وإهمالهم مما يبكيهم، ولكنها لا تستطيع مسح دموعهم وآلامهم،ورأى أن حصاد حكمها في الجنوب ست سنوات لا يغري باستنساخ تجربتها في جنوب كردفان أو الاقتداء بها. من الغرب إلى الشرق انتقل البشير ووفده من المنطقة الغربية لولاية جنوب كردفان إلى عاصمتها كادقلي،وقبل أن تهبط الطائرة في مطار المدينة التي تحيط بها الجبال وتشتم منها عبق التاريخ، طافت في خاطري سطور من تاريخ المنطقة فقد اشتعلت بالثورات المتتابعة ضد المستعمر الاجنبي، والسلطنات في تقلي العباسية وثورات السلطان عجبنا و بنته مندى ،والفكي علي الميراوي وغيرها في جبال براني مركز تلودي ورقيّق وهيبان وتوقوي والطير الأخضر والليري ونيانج نيانج و ميري، وفي مركز الدلنج في مناطق مندال وكاندرو وتيمة وسيبي وغيرها، وقد سحقت الإدارة البريطانية ثورات النوبة سحقاً دامياً واستشهد الآلاف، ورغم ذلك لم تتمكّن من السيطرة النهائية على جبال النوبة، إلا في عام 1929، حيث قمعت المعارضة الثائرة بشراسة في الليري ، وذلك بعد ثلاثة أعوام من سيطرتها على ثورة جنوب السودان، عام 1926م بسحق قبيلة التبوسا المقاتلة. وطاف بخاطري كذلك ثورة 1924 بقيادة البطل علي عبد اللطيف الذي ينتمي لأب من جبال النوبة في منطقة كوفا وأم من الدينكا. وعاقبت الإدارة البريطانية جبال النوبة، التي ثارت ضدّها لواحد وثلاثين عاماً متَّصلة، بوضعها في تهميش تام ومحكم، وفقاً لقانون المناطق المقفولة، الذي استنته الإدارة البريطانية عقاباً للثائرين في جبال النوبة، وجنوب السودان. ورغم محاولات الأيادي الأجنبية ضرب التماسك وزرع الشقاق بين مواطني المنطقة لكن التنوع القبلي والثقافي والديني عزز فرص التعايش السلمي ، فتصاهرت وانسجمت القبائل النوبية و العربية مثل المسيرية ، والحوازمة ، أولاد حميد وغيرهم من قبائل غرب السودان مثل الداجو والفلاتة والهوسا ،وهذا التنوع هو مصدر ثراء ، وان مصلحة القبائل في تلك المنطقة الغنية بمواردها الزراعية والحيوانية والمعدنية هو أن تعيش في سلام ووئام وهذا هو مصدر قوة تلك المنطقة المهمة في البلاد، وستصبح بعد انفصال الجنوب أكثر أهمية بحكم موقعها والموارد التي تتوفر بها. أسماء ومواقع * شهدت رحلة الرئيس البشير إلى غرب كردفان خروج والي جنوب كردفان الأسبق عمر سليمان من عزلته الاختيارية في مدينة الأبيض، التي استقر بها منذ مغادرته موقع وزير الدولة للطرق، وهو آخر منصب رسمي يشغله،وقد طاف مع الرئيس المدن التي زارها ،ووجد ذلك ارتياحا من البشير وأحمد هارون،وأشار البشير إلى دوره في تغيير «الإنقاذ» من دون أن يفصح عن اسمه، فقال خلال خطاب في منطقة المجلد ،إن المسيرية لهم دور في التغيير وان أحد أبنائهم كان يقود السيارة التي نقلته من منطقة المسيرية التي كان يعمل بها إلى الخرطوم قبيل أيام من 30 يونيو 1989،وانهم كانوا يذكرون لمن يسألهم في الطريق أنهم تجار جاءوا إلى المنطقة لشراء أبقار. وجلس البشير مساء الأربعاء الماضي على الأرض وسط استراحة حقل بليلة يرشف أكواباً من الشاي مع عيسى بشرى وعمر سليمان بالجلابية والطاقية في مسامرة استمرت طويلا استعادوا فيها شريطا من الذكريات والأيام الخوالي في ديار المسيرية، وكان لا يقطع تلك الجلسة إلا قهقهات تعكس روح الصفاء التي تتسم بها الجلسة التي غادروها إلى مضاجعهم. *استضاف مقر العاملين في حقل بليلة الرئيس البشير وضيوفه الذين استمتعوا بكرم حاتمي وحفاوة وفرح صيني غامر عند ما باتوا ليلة هناك،وللعاملين مزرعة توفر لهم الخضر، حيث زار البشير المزرعة وأعجب بها. * في طريق الوفد من الفولة إلى لقاوة، افتتح البشير كبري وادي شنقلو، وقال الرئيس إنه أول كبري في العالم يخصص لعبور الماشية، وكان فرح أهل المنطقة بالكبري يفوق حد الوصف لان الوادي كان يبتلع كل موسم أرواحا بريئة من الرعاة ويعطل مسيرهم. * استضاف الدرديري محمد أحمد، الوفد الرئاسي في حفل إفطار الخميس الماضي في منزله بالفولة ، وكانت العصيدة بأنواعها سيدة المائدة في «المندولة» ولم يغب عن الوجبة «أم لبنين» وهو لبن بدقيق الدخن يستخدمه الرعاة غذاء رئيسيا يمدهم بالطاقة ويسد رمقهم،وجلس الوفد في راكوبة ضخمة لتناول الشاي والقهوة. *مبادرة ولاة جنوب دارفور عبد الحميد موسى كاشا، وشمال دارفور عثمان يوسف كبر، وشمال كردفان معتصم ميرغني حسين زاكي الدين بزيارة المجلد والفولة وكادقلي على التوالي على رأس وفود قبلية وسياسية ورسمية ومخاطبة لقاءات الحملة الانتخابية لمرشح المؤتمر الوطني ،عكست مؤازرة ولاة الغرب لأحمد هارون ،وقد أعادت الخطوة إلى الذاكرة كيان الغرب الذي كان يضم ولاة كردفان ودارفور، وتأسس بمباردة من والي شمال كردفان الأسبق إبراهيم السنوسي.