ان الاختلاف او الخلاف ظاهرة طبيعية تحدث بين البشر ولولا الاختلاف لما كان هناك تطور وتقدم، وقد افاض القرآن الكريم في كثير من آياته الى الخلاف. اذ وردت كلمة يختلفون في عشر من سور القرآن، موضحة اسباب الخلاف ونتائجه ووردت كلمة «يجادل» في خمس عشرة سورة وما ادى اليه هذا الجدال من تقارب او تباعد وصل حد الاقتتال. ووردت كلمة الحوار او يحاور في موضعين من سورة الكهف وقد اوضح القرآن ان الجدال يؤدي الى الاختلاف وقد يؤدي الى الخصام. ومن قديم الزمان ادرك قدماء اليونانيين ان المجادلات والمناقشات السياسية خلال القرن الخامس «ق.م» في المسائل العامة وتصريف شؤون الحكم هي خير مثال للتطور فعاشوا في جو من المجادلات والمناظرات الكلامية على نحو يصعب على المرء تصوره. وأدت هذه المناقشات الى تبلور الفكر الفلسفي الذي بذر بذوره سقراط ثم تطور على يد تلميذه افلاطون. وهناك انواع متعددة للخلاف اهمها الخلاف الكبير الذي اتخذ مسلكا فلسفيا ودينيا عند قدماء الاثينيين وحتى الآن وهو الخلاف بين القانون الالهي والقانون الوضعي وقد انبثقت منه عدة خلافات فكرية ومذهبية، ويمكن حصرها فيما يلي: الخلاف الفكري، والخلاف السياسي، والخلاف السلطوي. وقد ادت هذه الخلافات في اليونان وفي غرب اوربا وامريكا الى ترسيخ مبدأ الديمقراطية، وعليه فإني سوف اتناول الخلاف في سيرة المهدية من خلال هذه المحاور. الخلاف الفكري: لقد تميز تاريخ المهدية منذ بدايته بظاهرة الاختلاف والحوار، فعندما اعلن الامام المهدي انه المهدي المنتظر استنكر شيخه محمد شريف نور الدائم هذا الاعلان، ودار بينه حوار اشار اليه الشيخ محمد شريف نور الدائم في قصيدته الرائية: قال انا المهدي، قلت له استقم .... فذاك مقام في الطريقة لمن يدري قال انا العبد الفقير محسوبكم من آل البيت مقامي عالم الذر ٭ اي ان الامام المهدي في جداله مع شيخه حسم الامر بتحديد مقامه في تدرج السلوك الصوفي وهو المقام الذي ترتبط به الحضرة النبوية والتي هي الركن الذي استند عليه الامام المهدي في تصريح ان كل حركاته وسكناته هي بامر من سيد الوجود. وقد استنكر عدد كبير من السودانيين قول المهدي بانه المنتظر. وردوا عليه برسائل مكتوبة. واما خلاف الامام المهدي مع العلماء فهو خلاف فقهي الى حد كبير حيث انه جمد المذاهب الاربعة ولعل ذلك كان رغبة منه الى توحيد كلمة المسلمين وتوجيههم الى عقيدة ايمانية واحدة وذلك واضح في الرسالة التي حررها الامام المهدي للشيخ/ محمد الامين الهندي وفي خطابه الى الشيخ/ محمد ود سلفاب «فاما من جهة المذاهب والطرق» فلا يخفاكم ما منَّ الله به علينا من الفضل والاحسان ولو كان اهل الطرق والمذاهب الآن على ظاهر الدنيا لاتبعوني واقتدوا بي ولا شك ان هذا يعلمه اهل الطريقة قبل ظهورنا. وقد سئل الامام المهدي مرة «معلوم ان المذاهب اربعة الحنفي والشافعي والمالكي، والحنبلي» فما هو مذهب الامام المهدي، فقال: هؤلاء الائمة جزاهم الله درجوا الناس ووصلوا الينا كمثل الرواية اوصلت الماء من منهل الى منهل حتى اوصلت صاحبها البحر. فجزاهم الله خيرا. فهم رجال ونحن رجال ولو ادركونا لاتبعونا وان مذهبنا الكتاب والسنة والتوكل على الله وقد طرحنا العمل بالمذاهب رأي المشايخ. ومن ذلك يتضح ان الثورة المهدية كانت ثورة تحريرية تنطوي على فهم جديد للاسلام هدفها تجديده واحياءه وتنقيته من الشوائب التي علقت به وبهذا يرى الامام المهدي انه اعلى مقاما وارسخ قدما في الدين من ائمة المذاهب. وقد امر باحراق بعض الكتب القديمة مثل كتب الفقه وعلم الكلام والفلسفة الاسلامية لانها في رأيه تحمل حيلا شرعية وتستند لاحاديث ضعيفة وسمح بقراءة بعض المؤلفات الاسلامية التي اتفق العلماء على صحتها مثل: الصحيحين «مسلم والبخاري» واحياء علوم الدين للغزالي وكتب الشعراني والسيرة الحلبية لعلي برهان الدين الحلبي وروح البيان للبروسي وكتاب العناية القصوى في دراسة الفتوى للبيضاوي والعرف الوردي في اخبار المهدي لجلال السيوطي. وقد سد الفراغ الفكري الذي احدثه حرق الكتب بالاسراع بتعميم منشوراته التي تحمل افكاره وتوضح اجتهاداته الفكرية في مجال تطبيق الشريعة الاسلامية وخاصة في مجال القضاء والفتيا حيث انه اجتهد في اصدار كثير من الاحكام الشرعية ومعظمها تعازير في الاحكام والآداب الخاصة بتنقية المجتمع من العادات والممارسات الرذيلة كما حرر رد مفصلا على من اسماهم علماء السوء. وقد واجهت الامام المهدي خلافات اثناء فتحه لمدينة الابيض واهمها الخلاف مع الفقيه الشيخ مكي اسماعيل المنا الذي كان فقيها وعالما ايد الامام المهدي ودعمه بجيشه وماله وقبيلته «الجوامعة» ولكن عندما اصبح ذو مكانة عالية تفوق مكانة الخليفة عبد الله حيث كان اتباعه يرددون «لا اله الا الله المهدي خليفة رسول الله المنا ابو البتول خليفة خليفة رسول الله» اضطر المهدي لازاحته لعلمه ان الخليفة عبد الله هو خليفته المشار اليه في الحضرة النبوية كما جاء في احد منشوراته. وقد كان ذلك اول خلاف انتهى بازاحة احد المؤيدين للثورة المهدية حيث حكم عليه بالاعدام. وقد رفع افراد قبيلته خطابا للامام المهدي يوضحون موقفهم من المهدية وان الوشاة هم الذين وشوا بمكي اسماعيل المنا وخلقوا فتنة بينه وبين الامام المهدي. اما الخلاف الكبير بين الامام المهدي وبين قواده ذلك الذي كان اثناء فتح الخرطوم عندما وصلت الانباء بقدوم نجدة بريطانية لانقاذ غردون فانقسم المجلس الى قسمين قسم يؤيد اقتحام الخرطوم. وقسم يرى الانسحاب الى الغرب والعودة بعد تقوية الجيش بصورة اكثر ورغم ان اقوال الامام المهدي وتعليماته تعتبر ذات قدسية اذ انها موحاة من حضرة نبوية الا ان الامام المهدي كون اول مجلس لشورته حسما للخلاف وكان هذا المجلس يضم الشيخ شجر الخيري احد اقارب الامام المهدي واحمد شرفي وخلفاء الامام والامير ود النجومي والامير ود نوباوي وعبد الله ود النور وعبد القادر ساتي ومحمد فوزي حامل ختم الامام المهدي وقد قرر هذا المجلس امر الهجوم على الخرطوم واقتحامها عنوة وترك «الخيرة» للامام المهدي. ثم توسع هذا المجلس وسماه الامام مجلس امناء الشريعة وضم في عضويته احمد عمر بقادي ومحمد عبد الكريم ومحمد سليمان ومحمد الطاهر المجذوب وابو بكر يوسف ومحمد الامين الفلاتي. ومن امثلة الحوار الذي انتهى الى عمل حربي هو الحوار الذي دار بين الامام المهدي وبين غردون باشا المحاصر فان الامام المهدي لم يقفل باب الحوار فقد ارسل اليه خمس رسائل يدعوه فيها الى التسليم وحقن الدماء ولكن غطرسة غردون وانفراده برأيه وكبريائه قد ادى الى نهايته المحتومة. الخلاف السلطوي: وهو الخلاف الكبير الذي نجم عن عدم مبايعة الاشراف من آل المهدي للخليفة عبد الله وأدى الى بذر الشقاق بين الطرفين رغم ان الامام المهدي قد زكى الخليفة عبد الله اثناء حياته وكان يهيئه للخلافة من بعده حيث جاءت عدة شواهد تدل على ذلك منها ما جاء في خطاب المهدي الى فخر الدين حسن المعلاوي الذي ادعى الخلافة بتاريخ 2 شوال 0031ه، 62 يوليو 4881م. وقد ذكر المعلاوي «ان الاولياء اجتمعوا في بيت المقدس يقولون الحمد لله الذي اظهر المهدي وجعل عبد الله وزيره». وجاء في احد المنشورات ان محمد احمد المهدي عندما اشتد به المرض اوكل الى الخليفة عبد الله امامة الصلاة. وقد انتهى الخلاف بين الخليفة والاشراف الي صدام مسلح انتهى بتصفية نفوذ الاشراف ونفيهم الى الرجاف، وايضا من امثلة الخلاف التي واجهت الخليفة مسألة جبريل الفلاتي في سرية حمدان ابو عنجة المتجهة الى الحبشة حيث رفض مبايعة الخليفة وادعاءه انه عيسى بن مريم وقد عقد له مجلس محاسبة في السرية واستجوبه حمدان عن ادعائه وقرر المجلس الحكم عليه بالاعدام الا انه طلب احالة قراره للخليفة لان مسألته فيها امر باطني الخليفة ادرى به وبعد وصول مكاتبة حمدان للخليفة اجاب الخليفة بسطر واحد يعدم امام السرية واردف «ليس هذا اوان عيسى». ومن اوجه الخلاف بين الخليفة عبد الله وعبد الله ود سعد امير الجعليين الذي انتهى بمقابلة ساخنة وجدال قوي امر فيه الخليفة عبد الله ود سعد على اهله ولكن بعد عودته الى المتمة حدث ما حدث من اختلاف بين عبد الله ود سعد والامير محمود ود احمد انتهى بمجزرة المتمة الشهيرة وقد افتى بعض العلماء الى الخليفة بأن الجعليين ينطقون الشهادة وهذا كاف لحقن دمائهم. وايضا من امثلة الخلاف الذي ادى الى صدام مسلح الخلاف بين الخليفة عبدالله والكبابيش الذين رفضوا اخراج الزكاة وثاروا ضد الخليفة. حاول الخليفة معالجة الخلاف بينهم وبين الآخرين فقام باعادة تكوين مجلس الامناء الذي كان قد الغاه في بداية عهده واضاف اليه عددا من اقاربه واوكل رئاسته الى الامير يعقوب ابن محمد ورغم ما واجه الخليفة من خلاف الا انه استطاع ان يكون جهازا اداريا قويا ساعده فيه رجال اقوياء صدقوا ما عاهدوا الله عليه وبهم استطاع ان يحافظ على كيان الدولة المهدية وتعاليمها حتى قضى عليه الاستعمار البريطاني واستشهد في ام دبيكرات هو ومن معه من الخلفاء والامراء وتركوا لنا هذه السيرة العطرة التي نتفاخر بها.