تحدثنا في اللقاء السابق عن الإطار الأوجه والأمثل في فهم حقوق الطفل، وذكرنا انه هو إطار الكرامة الإنسانية التي كرمه بها المولى عز وجل. وبسبب هذا التكريم فإن لكل طفل حقوقا لا يستطيع أي طرف نزعها منه. ومن ذات الإطار، أي إطار التكريم، يمكننا القول إن الحق هو لكل طفل مهما كان وضعه او وضع والديه الاجتماعي والاقتصادي. بالتالي فإن حقوق الطفل تثبت للطفل الغني او «المرتاح» كما نقول هنا في السودان، بنفس الدرجة التي تثبت بها للطفل الفقير. أن الحديث عن حقوق الطفل لا يجب أن ينحصر فقط في فئة «مغلوبة على أمرها من الأطفال» مثل الأطفال المتشردين او أطفال الشوارع او فاقدي السند أو النازحين، فهؤلاء بلا شك لديهم حقوق ويحتاجون الى اهتمام خاص كي يتم تحقيقها، ولكنهم بالتأكيد ليسوا الوحيدين في ذلك. إن إيضاح هذه النقطة مهم لسببين، الأول منهما هو أن هذا الفهم يعتبر ركيزة لإثبات مفهوم «الارتباط الذي لا يقبل الفكاك» بين بشرية الطفل وحقوقه، كالارتباط بين بشرية الطفل وحقه في الغذاء والماء. والسبب الثاني هو أن حصر مفهوم حقوق الطفل في هذه الفئات من الأطفال يحجمه في إطار اجتماعي ضيق ولا يرسخ لشمولية فهمه أو تطبيقه. كنت أتحدث مع احد الزملاء القانونيين عن حقوق الإنسان في عمومها «وهذا بالطبع يشمل حقوق الطفل» وفاجأني بقوله «طالما في حق الفيتو معناها ما في حقوق إنسان»! تفكرت في تعليقه هذا بعد ان فارقته، وكان في داخلي شعور عميق بالأسف، لأنه قد حصر مفهوم حقوق الإنسان عموماً وحقوق الطفل خصوصاً في إطار ضيق آخر وهو الإطار السياسي. هذا الإطار بالتحديد مهم جداً في تحقيق وتطبيق حقوق الطفل، ولكنه لا يعتبر «مصدر» حقوق الطفل. بمعنى آخر فإن «أصحاب الفيتو» لن يستطيعوا أن يلغوا حقوق الطفل حتى ولو تسببوا في بعض الحالات في عرقلة تحقيقها. وتجدر الإشارة هنا الى ان البعد السياسي في تحقيق حقوق الطفل قد تم «لويه» واستغلاله من قبل بعض الحكومات التي فرطت في تحقيق حقوق أطفالها تحت مسميات واهية، مثل أن «أصحاب الفيتو» يضيقون علينا، وتنسى ان الحل السياسي الأولي للمشكلة يكمن في توفر الإرادة السياسية المحلية والداخلية للدولة في «فهم» حقوق الطفل أولاً ثم تطبيقها. كما أن التعذر «بأهل الفيتو» قد برعت فيه بعض أجهزة الإعلام التي تروج لما درج على تسميته نظرية المؤامرة! عليه يجب التأكيد على أن التطبيق والتحقيق الصحيح لحقوق الطفل يجب أن يكون شاملاً ومتكاملاً، أي يشمل جميع الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية وغيرها. مع مراعاة أن حقوق الأطفال ثابتة لكل الأطفال، رغم اختلاف طبقاتهم الاجتماعية والاقتصادية. فالحق في اللعب مثلاً ثابت لابن او بنت «الأغنياء» كما أنه ثابت لابن أو بنت «الفقراء». هل صحيح أن حقوق الطفل تحتوي على أفكار غريبة يريد أن يفرضها علينا الغربيون حتى يغيروا هويتنا؟ كان هذا أحد الأسئلة التي طرحناها خلال لقائنا السابق. يقول المولى سبحانه وتعالى في كتابه العزيز «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» «الحجرات :13». لقد تشعبت الحياة الإنسانية على وجه هذه البسيطة في مختلف المجالات، وتطورت حتى وصلت الى زماننا هذا الذي صار يعيش الفرد فيه تحت مظلة انتمائه إلى دولةٍ ما. فكل إنسان يعيش على وجه الأرض في عصرنا هذا ينتمي إلى دولة تعتبر هي المسوؤلة عنه أو عنها. وفي رأيي فإن هذا هو المنظار الذي يجب ان ننظر به إلى دور منظمة الأممالمتحدة. هذه المنظمة التي صارت تمثل ثقلاً أساسياً في مجال حقوق الطفل باعتبارها هي التي باتت تنظم وتشرع لأغلب المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الطفل في زماننا هذا. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تم إنشاء منظمة الأممالمتحدة، وأصبح ميثاقها نافذاً في 24 أكتوبر 1945م. وتنص ديباحة الميثاق في فقرتها الثانية على ما آلت عليه شعوب الأممالمتحدة على نفسها من تأكيد على «إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية». وانضم السودان إلى عضوية المنظمة في 12 نوفمبر 1956م على حسب وثائق المنظمة نفسها، فإنها تضم في عضويتها «192» دولة. وهذا يعني أن معظم شعوب العالم باختلاف ألسنتها وأعراقها وديانتها مثل الإسلام والنصرانية واليهودية والبوذية وغيرها، قد اجتمعت تحت راية هذه المنظمة. فالمنظمة وبغض النظر عن بعض التفاصيل السلبية فيها مثل حق الفيتو، تعتبر مثالاً جيداً على أن البشرية قد تعارفت واجتمعت على معانٍ سامية. كما أن انضمام جميع الدول الإسلامية لها يمثل كلمة قوية بأننا نحن المسلمين ليس هناك ما يمنعنا من أن نعيش مع الآخر غير المسلم على وجه هذه البسيطة. وفي عام 1989م تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية الأممالمتحدة لحقوق الطفل الملحقة بالقرار A/RES/44/25. وقد انضمت جميع الدول الأعضاء في المنظمة لهذه الاتفاقية «عدا الولاياتالمتحدةالأمريكية والصومال». ولقد كان السودان من أوائل الدول التي انضمت لهذه الاتفاقية في 3 أغسطس 1990م. وبهذا فإن الاتفاقية تعتبر تسوية لما اتفقت عليه البشرية في هذه الفترة من عمر الزمان، على أن تعترف وتمنح هذه الحقوق للطفل. وبالعودة للسؤال المطروح سابقاً فإن الاتفاقية في فكرتها ومبتدأ نشأتها وعموم محتواها لا تنتمي إلى زمرة المفاهيم الأجنبية التي يريد أن يفرضها علينا الغرب كما يدعي من يروجون لنظرية المؤامرة! وسنتعرض بإذن الله لبعض محتويات الاتفاقية في اللقاءين القادمين. والله ولي التوفيق.