ما أن تطأ قدماك إحدى الصالات بالفندق المخصص لمؤتمر «أصحاب المصلحة» حتى تعي تماماً الكارثة التي حاقت بهذا الوطن نتيجة الاضمحلال التام للهرم الأدبي والاجتماعي «الذي حفظ للسودان استقراره السياسي» الذي تسببت فيه الأنظمة الأيديولوجية، بحنقها وجهلها. فدارفور كانت لها نظم وأعراف وبروتكولات استقتها من حضارات هي الأعرق في أفريقيا، لكنها اليوم تبدو عاجزة عن حل معضلتها، بل مفتقرة إلى أبسط التقاليد والآداب. رأيت نُظاراً يهتفون وهم وقوف، وشباباً يصفقون للحجة ونقيضها، ووزراء يهرولون، ووسطاء يتلهون بالموبايل وهم على رئاسة الجلسات، وقادة حركات يتخندقون من المنطق رغم نفاذه، وغربيين بين التربص والإحباط، ومضيف قد أعيته الحيلة، وقادة أحزاب سرهم قتل القتيل والسير في جنازته. شاهدت مشهداً تراجيدياً، وإن كان يبدو هستيرياً لمن يسرهم أن يستثمروا محنة الشعوب، يرقبون تعثرها، ولا يحزنهم أن يروا وقوعها في بؤرة الهوان. كان يكفي لهذا المؤتمر اجتماع خمسين شخصاً، خاصة بعد أن حصرت نقاط الاختلاف: 5 علماء متخصصين في مجالات البيئة، الاقتصاد، القانون، الحكمانية، والبنية التحتية، 10 مراقبين دوليين و35 من قادة الحركات. لكن الحكومة آثرت بعثرة الجهود من خلال هذه الحشود، فاستعاضت عن الجادة بخلقها لضجة إعلامية آملة أن تتجاوز بها نقاط الخلاف السياسية. وإذا لم ترضخ الحركات لهذه الحيلة البهلوانية فاتهامها بعدم الجدية ووصمها بالاتجار في مصائب الشعوب. وإنا أعجب: هل تحتاج الحكومة إلى كل هذه المؤتمرات كي تعمل جادة على إنصاف مواطنيها، وإذا شقت رعاياها «على طريقة بشار الأسد»؟ بل ما هي الجدوى في الأساس من إبرام اتفاق مع دولة لا تحترم مواثيقها ومع جماعة لا ينضب معينها من الكذب؟ حتى متى سيظل النظام مُتخذاً من الشعب رهينة يفتدي به رقاب أوليائه؟ لماذا الإمعان في إذلال الشعب من خلال انتقاء مجرمين «قتلوا أهاليهم وسرقوا دياتهم» لقيادته؟ هل اتخذ النظام من الحرب هدفاً يستعيض به عن حالة الإفلاس الفكري والأخلاقي الذي يعيشه؟ إن من الجرائم موبقات لا يمكن الرجوع عنها «إلا إذا شملتك العناية»: فبطر امرأة وهي حبلى في شهرها الثامن، وإخراج طفلها رفعه في الهواء وتلقيه بالحربة حتى تناظر الأم مصيره قبل أن تسلم الروح إلى بارئها، أمر يشق على المرء تصوره إلا إذا قرأ في سجل الجريمة بدارفور، وبأيدي أعوان قدموا من خارج البلاد، لأن أهل دارفور لم يعهد فيهم هذه الفعلة وقد تعايشوا لقرون. وهنا مربط الفرس، هنا العقدة التي لم يمكن تجاوزها بيسر، لا يمكن لسلام أن يقوم إلا إذا تم الاعتراف بالجرم، وشرعت الدولة في الاعتذار عنه وأفسحت المجال في القصاص لمن رغب، وتعهدت بتسليم الجناة، خاصة على المستويين الأعلى والوسيط. هذا الأمر دونه خرط القتاد، وقد اتخذت الدولة كافة الإجراءات الأمنية والسياسية لتفاديه، بل إنها تعمدت تجيير الإرادة الشعبية من خلال انتدابها لفئة مُستلبة وتعيينها في وزارات ومواقع سيادية، علَّ ذلك يُعينها على طمس معالم الحقيقة. لو أن لهذا النظام شعبية فعلية ما التجأ لحشد برلمانيين وتنفيذيين وحشرهم في خانة مدنية. لكنه يوقن بأن أي مناخ فيه حرية نسبية سيفرز قيادات معادية له، لأنه لا يجوز لكريم يرى شعبه يُهان فيختار الوقوف في ساحة الحياد «إن الحياد في مثل هذه الساعات يعد خوراً وتخاذلاً عن مواقف السلف وتعدياً على حقوق الخلف». ولم يخب ظني في رجل مثلما خاب ظني في د. غازي عتباني، ومع ذلك فأنا لا أبغضه إنما أشفق عليه. فهذا الرجل له قلب كبير وعقل مستنير، لكنه عجز عن الامتثال إلى كليهما، فكان عقابه الدنيوي أن يعيش في ظل السلطة ولا يقوى على ممارستها، تماماً مثلما فعل جده الذي مكث كاتباً لغردون حتى تداركته حراب المهدية وقد التبس عليهم أمره: حمرة تركية واستغاثة بالعربية! استبشرت خيراً عندما استلم الدكتور ملف دارفور، فقدمت إليه ورقة مفاهيمية عنوانها «نحو رؤى إستراتيجية للسلام والتدامج الاجتماعي بدارفور»، وإذا بي أفأجا بعد فترة أنه قد اقتبس النص وخان روحه. ساعده في ذلك المبعوث غرايشن، وبعض الأعراب الذين لم يحسنوا التمييز بين المجتمع المدني «الحضري» كواصلة بين المجتمع والدولة، والمجتمع المدني «الإنقاذي» الذي تجيزه الدولة ويتغذى من شريانها. إن النظام «بمعنى الفوضى التي تلبس لباس المؤسسية» لا يريد سلماً إنما يريد انتصاراً يكسر به إرادة المقاومة الشعبية ويستبيح به حرمة الشعوب الدارفورية، ما بقي منها. وإذ هو لا يقوى على الحرب، فقد لجأ للأساليب المدنية لتحقيق ذلك: فكانت الانتخابات، والآن يرى في الاستفتاء مندوحة عن الكذب. مع يقيني أن دارفور مستعمرة وأن قيادات الاستعمار من شراذم أمنية وسياسية يجب أن تكون هدفاً مشروعاً للمقاومة، وقد جعلوا الأبرياء هدفاً للإبادة لم يستثنوا في ذلك البهائم، فإنني أظل مستمسكاً بأولوية المقاومة المدنية «ليست على طريقة أبو كلام»، لأنها تسلب المستعمر شرعية استعمال القوة. وثانياً، لأنها تفسح مجالات لمعالجات نفسية واجتماعية يعاني منها الشعب المنهزم «فلم يكن الإجلال لسيدنا موسى وإكرامه لمجرد ذكره اسمه 313 مرة في القران، إلا َّ لأنه عانى من محاولة الانتشال لشعب مستلب.» إن أية محاولة لاستعجال الخطى أو طي المراحل، كما فعل د. التجاني سيسي، هي بمثابة التقهقر أو الانغماس في الوحل. وإن بدا له إنه إنجاز أو عبور إلى سيناء الحرية. لقد كان حرياً بالتجاني أن يصطبر على العمل الدؤوب فيلج من بوابة الخبراء، الناشطين المدنيين، أو أبناء السلاطين، لكنه آثرالعاجلة مثله مثل غيره ممن قاسوا أعمار الشعوب بأعمارهم واستحقاقاتها بمنجزاتهم «الشخصية والجماعية». فكانت رئاستهم للعسكر بمثابة القفز فوق الجماجم، وإمرتهم للمتمردين كمن أوكلت له رعاية الذئاب. يقول أحد النابهين بأنه لا يخشى من ذئب أوكلت له رعاية حملان، ولكنه يخشى من حمل أوكلت له رعاية الذئاب. بل أن أعظم خيانة للثقافة والفكر والأدب أن يلج المثقف الحكم من باب المخاصصة الإثنية «انظر حال الجمود السياسي والتردي الأخلاقي الذي تعيشه لبنان الآن». إن مما يجعل هذا الشاب يعاني من وخز في الضمير هو تأرجحه بين البراغمتية والانتهازية، وقد كان من قبل يتأرجح بين المبدئية والبراغمتية «وتلكم ظاهرة صحية». وما يجب أن تعلمه قيادات دارفور أنه لا سبيل لانتشال أهلنا من الهلاك إلا بالتخلص من هذا النظام البغيض، فلا خير في طلب الإنصاف من هؤلاء، ونحن من نحن .... الذين لم يتخلف أسلافنا عن خوض أية معركة وطنية، ولم يتعذروا عن المخاض بظمأ أو مخمصة أو نصب يصيبهم في سبيل الله، وسنظل ما تمسكنا بالحبل المتين «وقال موسى لقومه يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين. قالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين». لقد تعرضت دارفور لمثل هذه المعاناة آخر أيام الدولة المهدية علي يد عثمان جانو «ومن فئة عانت من نفس العلل الاجتماعية وقاست مرارة الدونية»، فصبرت لكنها لم تنكسر. وما أن انقشعت سحابة الظلم حتى استعادت دارفور عافيتها فاستحال الضعف إلى همة لا ترتخي وإرادة لا تنكسر. هل قُدِّر لدارفور أن يتخلص السودان على يدها دوماً من قالة الإفك ومروجي الكذب؟ هل ينعقد لدرافور هذه المرة لواء الوسطية بعيداً عن الآيديولوجية والوصاية الدينية؟ هل المطلوب هو التخلص من الإنقاذ أم التخلص من كل المجرمين الذين تعاقبوا على حكم السودان منذ الاستقلال؟ كيف يقوَّم السودان في غياب الآيديولوجية أو الخرافة الدينية؟ هل توجد أحزاب ذات صبغة قومية أم أنها مجرد عصابات أم درمانية؟ ختاماً، لا توجد هنالك عزيمة، ناهيك عن أن تكون هنالك وثيقة لإحلال السلام. وسيظل هذا النظام مرتاباً بأهل دارفور «لأنه لا يضمن حتى أولئك الذين معه»، مستخفاً بإرثها حتى تجتاله وتزيحه عن موضعه، وحينها يود لو أنه أماط اللثام وأرخى الآذان لبارقة قد جاءته من ناحية الدوح.