الحبوبة لغة هو الشخص المحبوب والمشبع بالبهاء، وهي في عامية اهل السودان الجدة .. وللحبوبة دور محوري في البناء المجتمعي لأهل السودان، فهي التي تربط الاجيال بموروثها الثقافي وبأسباب التواصل وصلة الأرحام، والحبوبة هي سيدة الحِكَايةُ الشَّعْبيَّةُ، وسيدة الأحاجي التِّي ربما تكون من «الحِجَا» وهو العَقَل. و«الحُجَى» سرد يحيي العقولَ ويُحفِّزُ القَرائحَ، ويطلق الملكاتِ والقدراتِ، ويُسرجُ خيولَ الأخيلةِ لتنطلقَ في عوالمِ الكونِ الفسيحِ! ويظل الأطفال في انتظارٍ وشوقٍ ولهفةٍ لسماع حكاوي الحبوبات، فتلك الحكايات محرِّض لأخيلتهم ومدعاة للفكر واتقاد الذِّهن، وعندما تسأل الحبوبة أحفادها وتقول مختبرةً لهم «بتعرفوا اللابس كمين هدم وما بعرف النضم ؟» وهي تنظر إلى عيونهم البريئة المضيئة بشغف المعرفة، المستمتعة بمدار الونس والحديث، تراها شفيفة موحية. وهم يتنافسون في تخمين ومعرفة المقصود. وإنْ عجزوا بعد محاولات كثيرة، واستسلموا وطلبوا معرفة المقصود، أسعفتهم به مع الشَّرح ومزيد من الايضاح والفائدة، واللابس كمين هدم وما بعرف النضم هو قندول عيش الريف. وظلت الحبوبة الوسيط الشعبي الذي عمل على التكريس لمكارم الاخلاق والحكم والدُّروس، كما انها اداة رئيسية في ربط الاجيال بماضي الاجداد وموروثهم الثقافي، وساهمت الحبوبة في تشكيل وجدان الأحفاد وتوسيع مدراكهم العقلية عبر سردها للعديد من الاحاجي و «الغلوتيات» التي تتطلب فعل الفكر والذهن وإذا كانت عوالم فاطمة السَّمْحَة، ود النَّمير، الشَّاطر حسن، فاطمة القصب الأخدر ووصف الغول، والسُّعْلُوَّة والبَعَّاتي، وود أُمْ بُعُلُّو، عوالم للدَّهشة والحيوية، فإن عالم الأطفال اليوم في عصر الحاسوب والقنوات الفضائية بات تشكله شخصيات حيوية مثل توم وجيري وفلة وسبايدرمان وسامو يامو الشوبي شينق وغيرها من الشخصيات الكرتونية، اضافة الى شخصيات المصارعة الحرة من امثال جون سينا وميز وبتستا واورتن تنق وغيرهم، وقد صدق الدكتور عبد الله علي إبراهيم في كل الذي ذهب إليه في إضاءته لغروب شمس المؤسسة الثقافية. غير أن الأمر لا يقف عند ترديد الحكاوي في عالم الحبوبة، بل يمتد الى اقامة جدار العزلة الذي يفصل الصغار عن الموروث الثقافي لمجتمعهم، اذ لم يعد النشء لدي كثير من الاسر السودانية يولون عالم الحبوبة أدنى اهتمام. تقول محاسن إبراهيم حسن «45 عاماً، وتعمل بإحدى المؤسسات المالية، إنها ظلت تعتمد على أمها في التربية، وقد أسهمت في جذب انتباه الصغار الذين باتوا اكثر ارتباطا بها، ونفت محاسن ان يكون عالم الحبوبة قد ولى، اذ مازال الصغار يحيطون بها كل ليلة لتحكي لهم بعضاً من حكاوي ود النمير وغلوتياتها المثيرة للجدل. وترى محاسن أن الحبوبة بأغازها العجيبة باتت تشد الأطفال اكثر من عوالم الكرتون التي تبثها الفضائيات، غير ان منى الحاج بخيت «48 سنة» وتعمل موظفة باحد المصارف، قالت انها مستاءة جدا بسبب الفضائيات التي احدثت انقلاباً، فالاطفال باتوا يجلسون الساعات الطوال للشاشة، بصورة دفعت جدتهم الي العودة لمنزلها بالجزيرة، وما يثير القلق أن الصغار ظلوا يشكلون محور حياة جدتهم بعد تفرق الابناء، وهم الصغار يفضلون البقاء في عوالمهم البعيدة. ويرى فاروق الجاك أن الصورة باتت قاتمة بالنسبة له، فهو الابن الوحيد لأمه التي قررت منذ وفاة والده أن تتفرغ لتربيته، رافضة فكرة الزواج، بالرغم من انها كانت في ثلاثينيات عمرها، وعليه فقد ارتبط بوالدته كما ارتبط بها الصغار، غير ان عالم الفضائيات جذب الصغار. ويقول فاروق إن والدته باتت تعاني الوحدة، وانتابتها حالة تشبه الاكتئاب، ما دفع الصغار للعودة والالتفاف حولها من جديد، ويخشي فاروق أن يمل الصغار الجلوس للحبوبة، فانفضاضهم عنها هذه المرة يعني الموت. وتربوياً يرى أحمد الإمام الخبير التربوي، أن خطورة الفضائيات تكمن في حالة الإدمان وجلوس الصغار على مدار الساعة، ما يعني فصلهم عن مجتمعهم بصورة تامة، وهو ما يطلق عليه الاستلاب الثقافي، مطالبا الآباء بضرورة كبح الحالة الراهنة، وقال الامام ان الحبوبة هي المجتمع بكل ثقافته وقيمه وتقاليده، ما يعني ضرورة مراجعة الموقف. ولعظم مكانة الحبوبة وتقدير الشُّعوب لها، ينادونها بجدتي وستي وتيتا ونينة، وكلها تشي بالمحبة والاستلطاف. وفي كردفان يطلقون عليها اسم «حَلُّولا». وهو لفظ حلو عذب، ينم عن تقدير وإعزاز. والملاحظ أن معظم الشعوب تحتفى بالجِدَّات وتحفظ لهن الود. إلا بعض الدُّول حديثاً التي ابتكرت دوراً للعجزة وكبار السن. ويأوي فيها الأبناء آباءهم وأجدادهم وجداتهن.. فهل نبقي على الحبوبة ام ندفعها بعيداً.