وفقاً للقاعدة الطبيعية الشهيرة لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار مضاد له في الاتجاه، يدور سجال واسع في الساحة السياسية والفكرية بالتزامن مع سخونة الحملات الانتخابية، حيث نشطت القوى العلمانية في أحياء حلمها القديم في إقامة السودان العلماني الموحد، رغم حسم اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي لمسألة مرجعية الدولة في شمال السودان وجنوبه. وفي المقابل تعالت أصوات أنصار المدرسة السلفية التي تتوجس من كلمة الديمقراطية وترفض آلياتها الانتخابية، باعتبارها منافية لمبدأ الحاكمية بقبولها لسلطة للشعب في الحكم والتشريع الذي ينبغي أن يكون لله وحده. ويحتدم الصراع بين الفريقين في مسارين متوازيين لا يلتقيان، وتحول اللغة الخشبية للأيديولوجيات السياسية دون تفكيك الأبعاد الفلسفية للديمقراطية، والاستفادة من آلياتها وتحليل مدى تلازمها وارتباطها بالعلمانية بقراءة موضوعية لمختلف الآراء والأطروحات الفكرية.. فالمنادون بالعلمنة يرفضون المرجعية الدينية للدولة، تماهياً مع النمط الغربي الذي تحكمه القيم الدينية المسيحية واليهودية ليس على نطاق دولتي الفاتيكان وإسرائيل فحسب، وإنما في معظم الديمقراطيات الغربية، حيث تمثل الملكة رأس الكنيسة في بريطانيا، كما «إن الدين والسياسة شكلا نسيجاً متداخلاً عبر تاريخ الولاياتالمتحدة منذ الفترة الاستعمارية وحتى وقتنا الحاضر» ٭ وما المحافظون الجدد سوى حلقة من مسار هيمنة الدين على الدولة الأمريكية، كما تظهر الدوافع الدينية بجلاء في منع تركيا «العلمانية» من الدخول في منظومة الاتحاد الأوروبي الكنسي.. وتبدو التأثيرات الدينية للدول الديمقراطية العريقة أكثر وضوحاً في تحريم فرنسا لبس الطالبات للحجاب في المدارس، بحيث لا تحترم الحرية الشخصية وحرية الاعتقاد والتعبير، إلا عند نشر الرسوم المسيئة لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم..!! ورغم ما تراه المدرسة السلفية في الديمقراطية وآلياتها الانتخابية من نظام كفري، إلا أنها لم تقدم البديل العصري لممارسة الشورى والحرية وكيفية اختيار المسلمين لحاكمهم، سواء في الدولة الوطنية أم في دولة الخلافة الإسلامية، وكيف سيختار المسلمون أهل الحل والعقد؟ وهل ستنحصر الشورى في علماء الشريعة أم ستتسع لتشمل أهل الاختصاص ووجهاء القوم ونقبائهم، كما فعل سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام يوم بدر؟ وكيف سيحتج المنادون بانتقال المرأة من بيت زوجها للقبر على ما أوردته السيرة النبوية من دور لأمهات المؤمنين في التعليم وتطبيب الجرحى في الحروب، ومشاركة الصحابيات في الشورى وبيعة النبي صلى الله عليه وسلم؟! لقد وصف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق «تشرشل» الديمقراطية بأنها «أسوأ نظام إذا استثنينا النظم الأخرى».. ولم يجتهد السلفيون في بلورة نظام دستوري يبسط الحريات العامة ويقيم العدل والشورى والمساواة ويحفظ بيضة الدين بطرح فكري مفصل ونموذج عصري أمثل، خاصة أن تجربة أفغانستان في عصر المجاهدين ونظام طالبان ونهج فرقاء المحاكم الإسلامية في الصومال، لم تبشر إلا بأنهار من الدماء ودول ينعق فيها البوم..!! ٭ نقلاً عن كتاب «الدين والسياسة في الولاياتالمتحدة» لمايكل كوربت وجوليا ميتشل كوربت