في العادة، فان العلاقات بين الخرطوم وانجمينا تأخذ منحى الصعود والهبوط تبعا لعامل حاسم هو مساندة كل طرف للمعارضة في كل منهما، وتأثير ذلك بشكل مباشر على الأوضاع في اقليم دارفور، لكنها تبدو المرة الأولى التي يتسبب فيها تحسن علاقات البلدين في تعقيد الأوضاع في الاقليم، وتعثر محادثات السلام خاصة مع الفصائل المسلحة التي تعتبر اتفاق الرئيسين السوداني والتشادي ادريس ديبي في الخرطوم في فبراير 2009م ذا تأثير سلبي على أوضاعها في الاقليم، ودعما بصورة غير مباشرة لحركة» العدل والمساواة» بزعامة الدكتور خليل ابراهيم، واحتكارا لمنبر التفاوض، فضلا عن تأثيرات تطورات تحسن علاقة البلدين، على النفوذ الاوربي في المنطقة الذي تمثله المصالح الفرنسية في تشاد، الى جانب انتقادات أممية لتأثيرات الخطوة التي دعا اليها الرئيس ديبي بعد اتفاقه مع الخرطوم بسحب قوات حفظ السلام الدولية المنتشرة على الحدود بين البلدين والتي تعنى بحماية المدنيين وتحسين وصول المساعدات للاجئين في مخيمات تشاد. ويخشى أن لا يحقق اتفاق البلدين الذي ابرم قبل اشهر قليلة تقدما في تحقيق السلام بدارفور، بل قد يزيد من حدة التوتر في غياب فصائل أخرى مسلحة في الاقليم « الحركة التي يقودها عبد الواحد نور»، فضلا عن التحجيم المستمر لقوى المعارضة التشادية المسلحة وبقائها في دارفور دون التوصل الى اتفاق مع نظام الرئيس ديبي، مما قد يؤدي أيضا الى تدهور علاقات البلدين مرة أخرى، والعودة الى المربع الأول، حيث دأب البلدان على اتهام بعضهما البعض بايواء ومساعدة الجماعات المتمردة في كل منهما، وانهارت العديد من اتفاقات السلام التي وقعت بينهما بعد اشتعال القتال على الحدود بين الدولتين. وتاريخ تطور العلاقات السودانية التشادية الذي ترصده صحيفة «الشرق الاوسط» اللندنية، يشير الى أنه ومنذ اندلاع أزمة دارفور عام 2003 ظل الاتهام المتبادل يطبع العلاقة بين الخرطوم وانجمينا، رغم أن البلدين كان بينهما اتفاقية أمن وتعاون سياسي تتويجا لعلاقة قوية أفرزها دعم الخرطوم لتولي الرئيس ادريس ديبي الحكم في انجمينا بعد الاطاحة بالرئيس السابق حسين هبري. وبدأت العلاقات تسوء بتدفق قرابة ربع مليون من سكان دارفور الى تشاد بعد اندلاع الأزمة في الاقليم، واتهام تشاد الجيش السوداني بالهجوم على بلدة «الطينة» الحدودية، مع نفي تشاد أي علاقة لها بالصراع في الاقليم، واتهام الخرطوم بالمقابل بايواء معارضين تشاديين على أراضيه، حتى تفجر الوضع في البلدين على خلفية اتهام تشاد لمليشيات «الجنجويد» بالهجوم على قرية مديون بشرق البلاد واصابة 75 شخصا، والهجوم على»آدري»، مما أدى الى اغلاق تشاد لقنصليتها في الجنينة واغلاق السودان قنصليته في «أبشي» بشرق تشاد عام 2006م. وفي خضم علاقات البلدين المرتبكة عام 2007م، تدخل الزعيم الليبي معمر القذافي لاحتواء التوتر بين البلدين، وعقد اتفاق طرابلس الغرب بين البلدين الذي ينص على حظر استخدام أي منهما لأراضيه للهجوم على الآخر واجرائهما دوريات حدودية مشتركة، ولم يمض طويل على الاتفاق حتى وقعت مواجهات بين جيشي البلدين داخل الحدود السودانية، وتأكيد تشاد أن جيشها كان يطارد المتمردين التشاديين، وانتهى «اتفاق طرابلس الغرب»بقطع البلدين لعلاقاتهما الدبلوماسية، التي تمت اعادتها في أغسطس من ذات العام بعد رعاية العاهل السعودي لاتفاق بين البلدين عرف ب»اتفاق مكةالمكرمة». وظلت علاقات البلدين حتى يناير عام 2008م في حالة توتر دائم بسبب اتهامات البلدين لبعضهما البعض، الى ان اتهمت انجمينا، حكومة الخرطوم بايواء متمردين تشاديين واعطائهم الأوامر لقلب نظام الحكم في انجمينا. وفي مايو 2008م، أعلن الرئيس عمر البشير قطع العلاقات الدبلوماسية مع تشاد، محملا اياها مسؤولية الهجوم الذي وقع على العاصمة الخرطوم من قبل مسلحي «حركة العدالة والمساواة»، وأكد البشير أن السودان يحمل تشاد ما حدث ويحتفظ بحق الرد.وفي ذات العام وقع الرئيسان في داكار وبوساطة من رئيس السنغالي عبد الله واد على اتفاق مصالحة ينص على ضبط حدود البلدين، وعدم دعم حركات التمرد في كليهما، وذلك على هامش قمة منظمة المؤتمر الاسلامي وبحضور أمينها العام اكمال الدين احسان أوغلي والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. ولم يصمد اتفاق داكار طويلا، حيث شكك المراقبون في امكانية التوصل الى اتفاق طالما أن البلدين أخيرا لم يلتزما بالاتفاق الذي أبرماه بمكةالمكرمة بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز. وفي يوليو رفع السودان شكوى أمام مجلس الامن الدولي بعد غارات شنها الطيران التشادي على اراضيه، واقر التشاديون بانهم قصفوا مواقع للمتمردين التشاديين يقيمون قواعدهم الخلفية في دارفور. وبعد الاختراق الذي حققه مستشار رئيس الجمهورية، مسؤول ملف دارفور، الدكتور غازي صلاح الدين، في ملف علاقات البلدين باذابة الثلج الذي كان قائما وازالة الحواجز النفسية والاسهام في بناء الثقة بين الطرفين، كان المراقبون يتوقعون تقدما سريعا في معالجة الأزمة في الاقليم، لكن عوامل جديدة طرأت على السطح عطلت التأثيرات الايجابية للصلح بين الخرطوم وانجمينا على محادثات سلام دارفور. ويُعتقد أن النجاح الذي حققته الوساطة التشادية بين الخرطوم وحركة «العدل والمساواة» بتوقيعهما اتفاقاً اطارياً ووقفا لاطلاق النار في اقليم دارفور في الدوحة يعزى الى ضغوط تعرضت لها انجمينا من واشنطن وباريس، في وقت رأت فيه نشرة فرنسية باللغة العربية تعنى بالدفاع الاستراتيجي «نشرتها صحيفة السوداني» ان النجاح الذي حققته الوساطة التي قام بها الرئيس التشادي قد لا يكون أمرا كافياً لاخراج نظام ديبي من المأزق الدبلوماسي والعسكري الذي يواجهه حاليا، واشارت الى ان انجمينا تتعرض منذ وقت ليس بالقليل الى ضغوط من اجل تطبيع الاوضاع الداخلية واجراء اصلاحات سياسية، وقالت ان باريس الحليف القوي لنظام ديبي تمارس ضغوطاً واسعة على ديبي من اجل ادخال اصلاحات على نظامه بما يسمح باستيعاب المعارضة بشقيها العسكري والسياسي في المسيرة السياسية لبلاده. لكن القضية المحورية التي تدفع الفرنسيين الى استمرار الضغوط ازاء نظام الرئيس ادريس ديبي هي دعو الرئيس ديبي الى سحب قوات حفظ السلام الدولية المنتشرة على الحدود بين البلدين ، وكشفت نشرة « TTU» انه سبق ان نقل عن مسؤولين تشاديين طلبهم لبعثة الاممالمتحدة التي تنشر قواتها على الحدود الشرقية لتشاد والمعروفة باسم «مينوراكت» وحلت مكان قوات الاتحاد الاوربي «يوفور» بداية العام الماضي، انها لم تعد تتعاون مع انجمينا كما كان عليه الحال مع قوات «يوفور»، واشارت بالخصوص الى تردد قيادة القوات الدولية برفضها تبادل المعلومات الاستخبارية مع القيادة العسكرية التشادية ، وانها تعارض استخدام الجيش التشادي لقدراتها خاصة مهابط الطائرات العسكرية، مما ادى الى توتر العلاقات بين الجانبين، الامر الذي دفع انجمينا الى طلب انهاء تفويض القوات الدولية. واشارت الى ان كل هذه العوامل دفعت الرئيس التشادي للتحرك في اتجاهين اولهما يتمثل في تقديم طلب الى مجلس الامن الدولي من اجل انهاء مهمة بعثة الاممالمتحدة في بلاده، متعللاً بالاتهامات الخاصة بتجنيد «الاطفال»، وان الهدف من ذلك قطع الطريق أمام اي محاولات لفرض اجندة اصلاح سياسي من قبل المجتمع الدولي على نظامه. وفي هذا الخصوص يلاحظ محمود عثمان رزق الكاتب في الشؤون الاستراتيجية، الخطوط العريضة التى وراء الصراع الفرنسى السودانى فى تشاد، ويرى ان المصالحة بين الخرطوم وانجمينا على النحو الذي جاءت به لا يخدم مصالح فرنسية في المحافظة على وجودها العسكرى فى أفريقيا، ويضعف وزنها السياسي في المنطقة مقابل منافسين أقوياء مثل الصين والولايات المتحدةالامريكية. ويرى رزق أن أي تفاهمات ثنائية سودانية تشادية، تشكل عازلا أوربيا يمنع فرنسا من التوغل غربا فى أفريقيا، حيث يتوقع الكاتب الذي نشر مقاله على موقع «سودانيز اونلاين» أن يكون السودان فى العشر سنوات القادمة هو أكبر سوق للمنتجات الصينية والهندية والروسية فى المنطقة مما سيزيد مخاوف فرنسا وغيرها. من ناحيته، يرى الدكتور الامين عبد الرازق الخبير في الشؤون الأفريقية وأستاذ العلوم السياسية، ان موافقة ديبي على تحجيم المعارضة التشادية فقط وعدم تعهده بالتوصل معها الى اتفاق سلام ينهي حالة الاحتقان بين المسلحين التشاديين ونظام ديبي، يثير مخاوف الفرنسيين من أن الرئيس ديبي يدرك ان حرب المعارضة التشادية لم تكن ضد ديبي وانما ضد فرنسا، مشيرا الى الدور الفرنسي في العملية العسكرية التي اجبرت قوات المعارضة على التراجع الى خارج انجمينا. ويستخلص مراقبون في هذا الخصوص، ان الحكومة الفرنسية خفضت من حماستها لمنبر الدوحة التفاوضي بعد الاتفاق الذي وقعته الحكومة مع حركة «العدل والمساواة» مؤخرا بدعم ومساندة من قبل الحكومة التشادية، وان الفرنسيين يمارسون ضغوطا على رئيس «حركة تحرير السودان» عبد الواحد محمد نور لعدم المشاركة في منبر الدوحة في ظل المعطيات التي رسمتها اتفاقية الخرطوم وانجمينا. ومعروف أن عبد الواحد نور وحركته الاكثر تأثيرا على اراء النازحين في معسكرات في دارفور واللاجئين في تشاد، وقد قوبلت دعوة الرئيس ادريس ديبي الى سحب القوات الدولية في حدود بلاده مع السودان بانتقادات شديدة باعتبار أن هذه القوات تعنى بحماية المدنيين وتحسين وصول المساعدات للاجئين في مخيمات تشاد. ويقول محلل في موقع البي بي سي العربية ، انه يمكن اعتبار زيارة ديبي للخرطوم واعلان «تحرره» من القوات الدولية بمثابة نهاية للصراع بالوكالة الذي كان يخوضه كل من هذين البلدين بواسطة فصائل متمردة. ويعتقد المحلل بشير الخوري ، انه في حال صح ذلك، فان الاممالمتحدة التي تدافع عن مهمتها قناعة منها بأنها تضمن امن المدنيين، قد دفعت ثمن الصلح بين نظامين ، تطرح اسئلة كثيرة حول المعايير التي يعتمدانها في مجالي حقوق الانسان والديمقراطية. وفي ظل هذه الظروف التي يتعرض فيها النظام التشادي الى ضغوط أممية وفرنسية، فان مساهمته في تحقيق السلام بدارفور، صارت تواجهها العديد من العقبات، حتى وان ساهمت تشاد في توصل الخرطوم الى اتفاق مع «حركة العدل والمساواة»، لكن وجود عدد كبير من النازحين وحركات مسلحة ترفض الجلوس على طاولة محادثات الدوحة يشكل تهديدا مستمرا لأي تصالح يعزل هذه الاطراف، أو يضعف النفوذ الدولي في المنطقة.