مناطق تماس النيل الأبيض مع دولة الجنوب لها خصوصيتها عن باقي تماس جنوب كردفان والنيل الأزرق، إذ لعبت قبائل جنوب النيل الأبيض دوراً في تعزيز الحراك الاجتماعي بين الشمال والجنوب قبل الانفصال وتكوين دولة الجنوب.. وقيام دولة الجنوب لا يعني نهاية الحراك الاجتماعي بين قبائل سليم والصبحة ونزي مع قبيلة الشلك المتاخمة لحدودهم. وعلى امتداد المناطق جنوب مدينة كوستي التي تتميز بمناخ السافنا وأمطاره الغزيرة التي تشهد نمو الحشائش الصالحة لرعي الماشية والمساحات الشاسعة المناسبة للزراعة المطرية الآلية التي تعتبر المنطقة الزراعية الثانية من الاهمية وضخامة الانتاج بعد القضارف، وتعتبر المنطقة أكبر مصدر للثروة السمكية الي شمال السودان، كل هذه الخصائص الاقتصادية جعلت عوامل التكامل والتعاون بين قبائل النيل الابيض واعالي النيل ضرورية للعيش المشترك، وساهمت في تعايش سلمي وتزاوج بين افراد تلك القبائل، وصارت منطقة جنوبكوستي حلقة وصل بين دولتي السودان وجنوب السودان. يقول الهجا محمد ان هناك مصالح مشتركة نتجت عنها علاقات تزاوج، ولا يستطيع أحد مهما كانت سلطته أن يمنع الناس من مواصلة التواصل بينهم، ويوضح الهجا أنه متزوج من من قبيلة الشلك وله ثلاثة ابناء، ولا يستطيع الابتعاد عنهم لمجرد انفصال الجنوب، ويجزم الهجا بأن حياتهم تعتمد على الترحال بالماشية من جنوب النيل الأبيض الى شمال ولاية أعالي النيل، ويقول «لا تعنيني الحدود كثيراً، ومتى ما احتاجت أبقاري للمرعى جنوبا سأكون معها». بينما يوضح حماد علي، ويعرف بحماد الأزرق نسبة للون بشرته السمراء، أنه لا يشعر بتأثير الانفصال على حياته، ومهما تحرك فهناك من يرتبط به عرقياً وعاطفياً، ويقول حماد: «غالبا ما أسافر ببضاعتي بين النيل الأبيض وأعالي النيل، وفي كل قرية لدي زبائني وهم ينتظرون عودتي عقب كل تجوال». وتمني حماد من مسؤولي الدولتين عدم تأجيج الوضع وزيادة التوتر بالمنطقة، ويواصل حماد قائلا: «عاش أعمامي واخوالي في سلام طوال سنوات طويلة، ولن نضيع ذلك الارث ابداً». وفي اتصال هاتفي مع شول ادوك احد سلاطين اعالي النيل، قال إنهم تعايشوا بسلام مع قبيلة سليم طيلة السنوات السابقة، وأكد أنه لم يحدث طيلة تلك السنوات ما يعكر صفو العلاقة. وأبان أنه في خضم الحرب الاهلية بالجنوب لم تتعرض القبيلتان الى بعضهما. وكشف شول ان توفير الغذاء بمناطقهم كان بتعاون الجانبين خصوصا في الزراعة الآلية. بينما يقول محمد أحمد الهادي «مزارع» إنه يعمل في الزراعة بمنطقة القيقر بأعالي النيل منذ «20» عاماً ومازال يعمل بعد انفصال الجنوب. ويوضح الهادي أن أحد أفراد قبيلة الشلك يشاركه في المشروع الزراعي، مشيراً الى انه وشريكه زرعا هذا الموسم اضعاف مساحة العام السابق، مؤكدا عدم تخوفه من ذلك «لأن العلاقة بينهم وبين الشلك عميقة الجذور» كما يقول الهادي. كان هذا واقع الحال بين قبائل النيل الابيض واعالي النيل ومشاعر من التقينا بهم. وكانوا يجسدون حال السودان في أصغر صوره من التعاون والتكامل بين أفراد مجتمعه، بعيداً عن عالم السياسة الذي لا يبقي ولا يذر.. ترى هل يبتعد السياسيون عنهم؟ إن نيران خطاباتهم ستدمر آخر نسيج اجتماعي لم يتهتك بين شمال وجنوب السودان.