إذن، اندلعت الحرب في ولاية النيل الأزرق، وبدأت تقضي على كثير من الأخضر، وبذلك نجح نافخو الكير في إيقاظ الفتن وتوليدها من جديد، أو بالأحرى الاستفادة منها، وأحكمت لغة العنف والقتال على الكثيرين، و تبددت الآمال ببداية جديدة وجيدة في جمهوريتنا الثانية، وتوارت كذلك آمال النيل الأزرق وعشمنا في التنمية والعمار، وبدا جليًا أن الانهيار لم يكن وليد لحظة، فهذه الآمال الخيرة التي كنا نحملها لا تُبنى إلا على أركان من سلامٍ وتعايشٍ وثقة، وهاهي السياسة تحصدها وتحلق شأفتها، بعد أن تمكن الشك والخوف والتردد من نفوس الكثيرين، كل هذا يؤشر على أن السيناريوهات السيئة لانفصال خشن بدأت تتأكد، وأخذت تتوالى شواهد انهيار أحلامنا بوطن يستفيد من الأخطاء، ويتعلم من دروس مزقته، ويتعظ من ممارسات عقيمة، كل هذا يبعث على الحزن، والإحباط، و يكاد يمد غطاء زغلول علينا، «مفيش فايدة..ياصفية غطيني»، ولكني أراهن على أن هناك ما يبعث على الأمل! ما يبعث على الأمل لم يكن في مبادرات السلام التي حركتها القوى السياسية، وإن كان عليها التعويل الكثير، ولا في الاصطفاف لرفض الحرب، ولا في الثقة في وجود بريق من الحزن في أقاصي أعين من يعيد التقاتل، فمن ذاق السلم كره الحرب، وليس الأمل في النبرة التي يحاولون خنقها فتظهر فاضحة إذ تقول «وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم»، ولكن الأمل يظهر في شريحة أخرى بعيدا عن النُخب الغارقة في السياسة وحسابات دقيقة، والمشبكة بالإيديولوجية والمرهقة بحمولات التاريخ، ومكائده، وبلاويه. الأمل في شباب هذا الوطن، الذي هجر التململ وبدأ في مداواة الجراح، نازحو النيل الأزرق، لم تضئ لياليهم فلاشات القنوات الفضائية، ولم يهاجر لمأساتهم أصحاب الأقلام الصحافية الإنسانية، ولم تتراكض الحكومات - التي انتبهت لروح الإنسان - لنجدتهم! لم يجدوا الغريب الذي يتاجر بآلامهم، ولم يجدوا سيل التبرعات التي تنطلق بسبب وبدونه لغيرهم في العالم، ولكنهم وجدوا شباب السُّودان الصاعد بحس وطني صادق، لم يحركه إلا «سودانيته»، لم يستجب لمكدرات كثيرة كان من الممكن أن تثبط همته، ولكنه أراد أن يمنح الجميع الأمل بأن هذا الشباب شباب يصح أن نراهن عليه. تداعى على ساحات التواصل الاجتماعي، وروابط الجامعات، على الانترنت، لم ينشغل بسفسطة من المخطئ والراد والمردود عليه، لم تشغله بروتكولات السياسة، بل شغله جرح السوداني الذي ينزف، استفاد من الأخطاء، وسجل في عقله أن هذا كله يعود إليه، ومناط به، أن يتولى إدارة مسؤوليته، فالمسؤولية ليست قرينة لمنصب، وليست محكورة على أصحاب الجاه، والوجهاء، بل المسؤولية في الوطن «إنسانية» مقسمة بالتساوي بقدر الاحساس، فالمسؤولية أن تعي بأهمية مد يد العون للمحتاج، وغوث اللاهف، وإيواء النازح، وتفقد حال الضعفاء،، المسؤولية أن نعرف أن جرح دارفور قد ينزف في الدمازين، وجرح الأخيرة قد يؤلم الخرطوم. شاب من ولاية نهر النيل، تجده يسهر ليله في ترتيب حاجيات ومعونات، وشابة من دارفور تراها تنسق الاتصالات، وابن الجزيرة تراه يرتب لنقلها، وابن الشرق يتولى إيصالها، كلهم يعملون، هم من كل الجهات، من كل السحنات، من كل الطرق والتجمعات، جمعهم السعي لنجدة إنسان النيل الأزرق، جمعهم هم، وسيُنصر الجمع ويرقون مراقي الحياة، وسيخرجون بحقيقة أنهم عماد الأمة وأملها. كثيرون يعتقدون أن التغيير توجبه السياسة، والخطط العسكرية، والهجمات، وربما ترويع الآمنين، ولكنهم لا يعلمون أن التغيير الحقيقي، هو حركة اجتماعية، تبني في الناس حب الخير، وتعلمهم التعاون، وترسخ الوطنية، وتصالح بين المصالح والأخلاق، وتجعل قيمة الفرد فيما يقدمه لنفسه ولمجتمعه من خير، من بناء، من خلق، من وعي، من صدق، وهذا ما فعله هؤلاء النفر. نفحة الأمل هذه، تهب من التطوع الذي خلق الاحساس، بالانتماء، ففي بلد مثل السُّودان وظروفه المعيشية الحالية، حينما تجد من يستطيع أن يخرج عن غضبة الحرب من الشباب، وأن ينحاز للضحايا دون أن يتقيد ببندقية، فهو يمنحك أملاً بأن الوعي أصبح أكبر من أن يُتاجر به، فهو وعي أعاد التصالح مع الاحساس، وعرف لونية الخير، والاحساس الذي يدخلك حينما تجد مجموعات شبابية تعمل لبناء مكتبة لكل مدرسة، وكتاب لكل طالب، ثق بأن المستقبل، نضر جدًا، وأن الغلبة للخير، وللحب وللتسامح. ستنصرف الأزمات، قد تلد أزمات أخرى، ولكنها تزرع فينا بذورًا للتداوي، تزرع فينا الوعي، لنسجله لأجيالنا القادمة، فخلاصة السنين الطويلة، عرفنا أن الحرب ليست حلاً لشيء، ولم تعد شجاعة، فالحرب خيار الجبناء جدًا، الذين يُبدون إحساسهم على مصالح ملايين الضحايا، و يحرقون المستقبل دون أن يأبهوا لشيء، سوى تغذية احساس بالتنافر. لن ينصرف التمايز عن الذهنية السودانية، إلا بمثل هذا الشباب، الذي لم تحجزه مسميات الهامش والمركز، والأطراف والأصل، والانتماء السياسي، عن تقديم السودان. فقد بدا واضحًا أن الوطن أولاً.