الحراك الديمقراطي الذي تعيشه البلاد يمثل ظاهرة حميدة في سيرة الأمة، وينفعل مع تاريخها لينتج فكراً يجدد الأصول القديمة ويدفع بها في ثياب تناسب حال عصرنا المضطرد نماءً وانفتاحاً. ولعل هذا يدفع في عروق الوطن بدماء الجديد الحي فينفي خبث القديم الميت، وهذا الفتح يؤصل في الناس مبادئ الشورى والمفاكرة والنقاش الذي يدير الرأي بالحسنى، ويُنمي منهجية البرامج الواعدة ويدعم خط الحوار الوطني، ويُمَكِّن لثقافة «الرقم» في تناول المعطيات، ونحن نعوِّل كثيراً على سهمه في دعم الوحدة الوطنية وترسيخ التداول السلمي للسلطة وتربية الأجيال على مبادئ الديمقراطية وأسسها، ونحمد الله أنه أثرى ساحات الحوار الفكري والأدبي الجاد، فبرزت أطروحات قيمة ونقد بناء، وكل هذا يبشر بأن القادم سيكون خيّراً مليئاً بموجبات الإصلاح والعمار، وهذا أول ثمرات هذا الجهد. ولعلنا في هذا المقال نذكر بعضاً من حصاد حزب الحركة الوطنية، الحزب الاتحادي الأصل، ونعدد ما اكتسبه إلى الآن من نتاج. وتأتي هذه الانتخابات مغايرةً لسالف التجارب، ومنحازة إلى عهد جديد من المفاهيم والمخاطبات وليدةً لرؤى حديثة تتبدى روح العصرانية في كل أشكالها ومراحلها فهي جديدة النمط والتنظيم وحتى الناخبين، وعليه فإن المتعامل معها كُتب عليه أن يتمثل منهاجاً جديداً إن ابتغى فلاحاً أو أراد المواكبة، فاستوجب هذا الخطاب تنمية الأصول القديمة ليُبتنى من هديها مقاصد واصلة؛ تصلح لأن تكون رؤوساً لخطط الإصلاح، ولذلك نُحيي الحزب الاتحادي الديمقراطي، إذ تنبه لهذه المعطيات ودخل الانتخابات متوشحاً شعار التغيير الرشيد، فلما بدأت المراحل الأولى رفع رايات التسجيل، وطاف بين قواعده منادياً أن سجل نفسك من أجل التغيير، وأعمَل في ذلك تطبيق قنوات الرأي الشعبي ونشط فيها إلى حدٍ كبير، وواكب القوانين والتشريعات بالرأي الفاعل والضبط الدقيق لما قدّر أنه تجاوزٌ لحدود القانون، وابتغى سبيلاً رشيداً يدل على وعي عميق وإدراك كبير لمستحقات هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ الوطني الحديث، ولما جاء أوان الترشيح للانتخابات، قدّم خياراتٍ نبيهة تلوَّنت بألوان الشعب ومثلت أطيافه، وعكست وجود قيادات شبَّت على مبادئ الحزب واستحقت أن تكون في مصاف القيادة الوسيطة لما لها من همة ناهضة بالتغيير، فكانت نسبةً كبيرةً من المرشحين تمثل روحاً شبابيةً غالبة؛ بل أنه حتى لما جاء أوان تقديمه لمرشحه للسباق الرئاسي جاء قراره من صميم رؤية علمية نيّرة، فرّشح أحد خُلّص شبابه وقياداته، وقدّم مناضلاً ومفكراً وقانونياً من طراز فريد، إيماناً منه بأن شعباً غالبيته «العددية» دون عمر النبوة ينبغي أن يُختار له رئيس يتفهم تطلعاته ويعايشها، فكان القرار المجمع عليه من المكتب القيادي باختيار بطل ملحمة النضال وأستاذ الجيل المناضل الحكيم الأستاذ حاتم السر المحامي رئيساً للبلاد. واستطاع الحزب أن يواكب التغيرات التي طرأت، وقدم وجوهاً جديدة، وإيماناً منه بالديمقراطية أكد على ضرورة الفصل بين منصبي رئاسة الدولة ورئاسة الحزب «ما أمكن ذلك»، وهو نهج قديم ابتدره صاحب السيادة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني حينما زهد في المنصب، إذ أُتيح له تنصبه وتقلده؛ وآثر الفصل بين رئاسة الدولة والحزب إيماناً منه بقومية منصب رئيس الجمهورية، وذلك إبّان الديمقراطية الثالثة «1986م» حينما حوَّل «الحزب» الرئاسة للرئيس الراحل مولانا السيد أحمد الميرغني رحمه الله، وقد كان الأخير يومها مثالاً للحيادية والقومية الحقيقية، فكان يتورع عن الإجابة بصفته الحزبية ويذَّكِر الناس أن موقعه القومي يُلزمه أن يخاطِب الناس بلسان قومي، وقد كان ذلك دأبه دائماً قائداً لكل السودان، ولعلَّ الحزب وفِّق أيُّما توفيق في الفصل بين رئاسة الحزب والدولة، خاصةً أننا نقبل على نظام رئاسي يركز السلطات في يد الرئيس، ورهان نجاحه يكمُن في مدى قدرته على التحلي بالروح الوفاقية ومدى إيمانه بمبدأ الديمقراطية، وظلال ذلك من المحافظة على مسافة متساوية من جميع الأحزاب، مما يتيح الفرصة أمام التآلفات بحيث يستطيع الرئيس أن يشكل الحكومات وهو يحتفظ بقدر من الحياد، ويسهل من أمر تعامله مع الولايات التي لن تكون مضمونةً لحزب واحد بطبيعة الحال. ولعل هذه التداعيات حدت بالمراقب للمشهد السياسي أن يستوحي رغبة الاتحادي في تشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة. ولعل هذا المسلك أصبح مطلباً أصيلاً في أضابير وأوراق كثير من الأحزاب في المنطقة، في دول مجاورة لنا وأخرى بعيدة عانت من نظام الحزب الواحد وازدواجيته التي تُضر بمصلحة القضية الوطنية، وقطعاً فإن النماذج التي تعضد هذا المسلك كثيرة إن بدأت بالرئيس الأمريكي باراك أوباما فإنها لن تنتهي بالأستاذ المناضل حاتم السر. إن الاتحادي نجح في استعادة أرضيته أو التأكيد على أنه لم يفقد، وأنه باقٍ متجذر الأصول، ورسَّخ أقدامه في الواقع، ذلك بفضل تحركات قيادته الواعية، فكانت زيارة شرق النيل وزلزال الإقليم الشرقي التي أثبتت أن منسوبي الحزب يوالوان قيادتهم موالاةً بصيرة، ويثقون بها ثقة لا حدود لها، وأكدت لسالكي الطريق ومحبي المبادئ أن ما كان لله يبقى ولا تحوله الأيام ولا السنون، فقد كانت زيارة الشرق دليلاً قاطعاً على أن قواعد الحزب بخير، وأن روافده حية، وأن قيادته واعيةٌ حكيمة، فاستطاعت أن تجدد بنظرة صدق عهد المبادئ، وتسقي معين الشوق من ماء المودة والوصال. بل إن الحزب استطاع عرض نفسه بثوب يناسب المخاطبين من الشباب التّواق إلى برامج تنموية حقيقية، فطرح الأستاذ حاتم السر برنامجاً سياسياً واعياً عكفت عليه لجان علمية كثيرة، فقدم خططاً إسعافية وتحليلات دقيقة مشفوعة بالأرقام، ونحمد له دخول ثقافة الأرقام والنسب إلى أدبيات الخطاب السياسي، فلم يعد زمان التخرص مجدياً، وجاء المقام الذي تخاطب فيه البرامج عقول الشباب والمثقفين، وأثبت الطاقم الانتخابي أن الحزب العملاق لا يُقهر، فهو نتاج لأمةٍ متصالحة مع تاريخها واعية لحاضرها آملة في الغد، فهم يُدركون سر علائق الود الأولى ومرامي الموالاة العتيقة وشرائط البيعة ومسالك الإيمان، بهم ستنجاب غشاوة التخبط لتسود شمس الوضوح ومنهجية العمل. وبكل ثقة نستطيع أن نهنئ الاتحادي الذي قدّم قيادات شابة وحيّة اكتسبت احترام الجميع، فإن هذا أول نصر يحوزه هذا الحزب العتيق، وأولى غنيمة ينالها في هذه الانتخابات، فقد أثبت للجميع بأنه حزب أصيل لا يموت، وأنه أعدَّ العدة وقدم لهذا المقام ما يناسبه رجلاً مثقفاً يليق بالسودان وبرنامجاً علمياً يحترم عقل الناخب وتاريخاً نضالياً مشرفاً، فقدم حاتم السر امتداداً لعقد فريد من الأبطال والرموز. وحاتم السر لمن عرفه بطل ويستحق الإشادة والإجلال، ولمن لم يعرفه فهو جاء بوثيقة وبرنامج يتجاوز الشخوص والمسميات، جاء من حزبٍ يمثل تاريخ السودان النابض وبطولات الحركة الوطنية الناصعة، الأستاذ حاتم السر اليوم لا يمثل شخصه، بل إنه في موقفه هذا يمثل «أبو الوطنية» ورجل الحرية مولانا السيد علي الميرغني رضي الله عنه، ويمثل الرئيس الشهيد البطل اسماعيل الأزهري رافع علم الاستقلال ورمز الحرية، ويمثل الشريف حسين الهندي المناضل الأكبر والمفكر العبقري، إنه يمثل مولانا السيد أحمد الميرغني رأس الدولة بكل نزاهته وعفة لسانه ويده. ويمثل الدكتور أحمد السيد حمد بكل نضاله وتاريخه الوطني المشرف، إنه يمثل حاج مضوي والأستاذ محمد عثمان أحمد عبد الله والشيخ تاج السر منوفلي، إنه يمثل حزباً على رأسه الآن رجل بقامة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني. إن حاتم السر اليوم يمثل رمزية الاتحادي الواعدة، ويمثل كل هذه الأسماء البرَّاقة، إنه تاريخ نضالي عريض وبطولات كبيرة وشرفٌ باذخ. فحاتم السر اليوم يمثل إنجاز استقلال السودان وعلمه المرفوع بيدي الزعيم الأزهري، ويمثل خرطوم اللاءات الثلاث، إنه الوطن الذي جمع العرب وصالح بينهم برعاية السيد علي الميرغني، إنه الحزب الذي رعى حركات التحرر في إفريقيا والعالم.. إنه الديمقراطية وحكم المؤسسة، بل هو نصر الكرمك وقيسان، إنه سلام «الميرغني قرنق» 1988م، فمن كان لا يعرف حاتماً باسمه فليعرفه بهؤلاء إنه هم.. والتحية لحاتم السر فلقد كان بقدر التحدي فله التحية والتجلة والإكبار، ونسأل الله يعم أهل السودان بوفاق وتنمية وعمار، وأن يولي أمر هذا البلد من يصلحه ويعمره، به الإعانة باديةً وختاماً. «نواصل»