٭ ودعت البلاد ونعت رئاسة الدولة المرحوم محمد هاشم عوض الذي ووري الثرى فجر يوم العيد بمقابر حلة حمد ببحري.. لقد كان المرحوم العزيز علماً من أعلام الاقتصاد في البلاد، وأفنى جل عمره في تدريس علم الاقتصاد بجامعة الخرطوم، وتتلمذ على يديه آلاف الطلاب، وأشرف على مئات من رسائل الدكتوراة والماجستير بكلية الدراسات العليا بالجامعة. واكثر ما يميز المرحوم عن بقية علماء الاقتصاد، انه كان مهتماً بالاقتصاد الحقيقي والجانب الاخلاقي والانساني في مسار الاقتصاد، بل كان أول من ادخل دراسات الاقتصاد السوداني والنظم الاقتصادية التكافلية للاقتصاد، بل كان مهتماً بجوانب التوزيع وأسس التنظيم والمالية العامة، حيث كانت دراسات الاقتصاد جلها لا تهتم كثيراً بجوانب السياسات العامة وأثرها على الاداء الاقتصادي، ولفت الانتباه الى آثار القرارات السياسية على المسار الاقتصادي. ويكفيه فخراً انه من ضمن العديد من الكتب والاجراءات التي نشرها ان خصص كتاباً خاصاً عن «?لاقتصاد السوداني وفساد الحكم». وذلك دليل اهتمامه في الجوانب الواقعية والعمالية، واثرى سلوك الدولة والمجتمع وتوقعاته عن الاقتصاد والنتائج المتوقعة. بل انه اول من نبه في محاضراته في اوائل السبعينيات من القرن الماضي، الى ضرورة التنويع في الاقتصاد السوداني. وكان يقول إن الاقتصاد السوداني يقف على رجل واحدة في ذلك الوقت كان يشير الى اعتماد صادرات السودان على القطن فقط، وكان يطالب باستمرار تنويع الحاصلات الزراعية والاتجاه نحو تطوير موارد اخرى، ولو اخذت آراؤه في ذلك الوقت مآخذ الجد لتحسن حال الاقتصاد ولكان لدينا العديد من السلع الاخرى خلاف القطن.. الذي هو نفسه الآن غائب عن الإسهام المطلوب في صادرات السودان، وقد تميز المرحوم بطرح الآراء الجريئة ودفع ثمن ذل?. كذلك كما ذكرت كان يهتم بجانب التوزيع والعدالة الاجتماعية، ويكفيه فخراً انه وهو الاكاديمي المرموق من أكثر المنادين بتقوية فروع الحركة التعاونية العمالية، بل اصبح في اوائل السبعينيات وزيراً للتجارة والتعاون والتموين، وكان ملتزماً بدعم مشاريع دعم الشرائح الاجتماعية الصغيرة كاول اكاديمي في ذلك الوقت يرتاد العمل السياسي، أو فلنقل أول اقتصادي أكاديمي يبحر في عالم السياسة، واظنه قد سبق د. جعفر بخيت ود. بهاء الدين ادريس من اساتذة جامعة الخرطوم في تولي المنصب الوزاري، وكان كسباً كبيراً للسياسة في ذلك الوقت.. ولك? لطبيعته الشفافة وصدقه مع نفسه وعدم قدرته على مجاراة بعض الأمور السياسية لم يبق طويلاً في الوزارة، وتركها بعد أن فتح المجال ومهد الطريق لدخول عدد من أساتذة جامعة الخرطوم للحلبة السياسية في ذلك الوقت ولم تكن من قبل ممهدة لهم. وفتح الطريق السياسي للاكاديميين على مصراعيه، وكانت مشاركة بعض اساتذة جامعة الخرطوم في نظام مايو قد جرت عليهم العديد من المشكلات فيما بعد، بل جعلت بعض الفئات النقابية من اساتذة الجامعة تضع حاجزاً امام عودة الاساتذة الذين تعانوا مع مايو، الا معرفة الاساتذة بمواقف البروفيسور محمد هاشم ونق?ء سريرته وعدم مشاركته في مايو من اجل كسب سياسي، وإنما كان من جانب وطني، بل وخروجه مستقيلاً منها وليس مقالاً، ومواقفه الشجاعة والصريحة وإسهامه في توجيه الانفاق العام لصالح الفقراء ودعم الحركة التعاونية وانجازاته في ذلك المجال، وبعض اصدار تشريعات له عن الحركة التعاونية مما ساهم في نشرها في كل السودان.. هذه المواقف التي شهد له بها الجميع فتحت الباب امام عودته مرة اخرى لجامعة الخرطوم التي ظل يعمل بها بعد الاتفاقية عام 5891 حتى وفاته، وقد كان للمرحوم محمد هاشم عوض دور كبير في نشر ثقافة التعاون في كل ارجاء السود?ن، وان كان لنظام مايو من انجازاته في المجال الاقتصادي والتكافلي فإن دعم الحركة التعاونية وتقويتها يعد من ابتكارات المرحوم محمد هاشم عوض الذي عمل في هذا المجال، وهو العالم والخبير بأسس الاقتصاد وحاجة المجتمع الى رافد يساعد في عدالة توزيع وتوفير السلع الاساسية بشكل ايجابي حتى تصل العامل البسيط بأسعار زهيدة. لقد كانت فترة تولي المرحوم محمد هاشم عوض لوزارة التجارة واهتمامه الزائد بالتعاون كانت فترة زاهرة للحركة التعاونية لم تجدها من قبل، بل ولم تجدها من بعد وحتى اليوم، وان كل المؤسسات التعاونية القائمة الآن با?سودان كان للمرحوم محمد هاشم دور في التمهيد لها، وكان له الفضل في العمل الجماعي مع اتحادات وروافد العمل التعاوني، لثقتهم في تجرده وغيرته على العمل التعاوني. لقد كان للمرحوم دور في إدخال مواد في مناهج الاقتصاد ليس فقط في تدريس مواد الاقتصاد السوداني والمالية العامة والموازنة ومادة التنظيم الاقتصادي وغير ذلك، بل كان مجوداً وسباقاً ليواكب طلاب الاقتصاد أحدث النظريات في علم الاقتصاد، خاصة المجالات التي نالت فيما بعد اهتماماً عالمياً، ألا وهى المجالات العامة وسياسة علم اتخاذ القرار. وأذكر أنه كان يذاكر على كتب الاقتصاد الاجتماعي من امثال « بوكانتن» الذي نال فيما بعد جائزة نوبل في الاقتصاد، وكذلك نظريات علماء الاقتصاد الواقعي من امثال «ستجليز» الذي نال جائزة نوبل وف?ر ثورة اقتصادية عارمة ضد تحكم الشركات الكبرى في الاقتصاد، وعكس آراء كل الاقتصاديين النظريين وما يعرف «بالنقديين» أنصار « فرديمان» والاقرب الى «كينز» الذي يدعو الى تدخل الدولة الايجابي في الاقتصاد.. لا بل أن «ستجليز» والذي يعمل الآن في صندوق النقد الدولي نادى صراحة بضرورة النظرة المتوازنة لادارة الاقتصاد، وقال انه لا تحرير مطلق بل تحرير تدخل الدولة لحفظ التوازن المطلوب. كان المرحوم محمد هاشم عوض من أصحاب النظرية الواقعية في الاقتصاد يؤمن بحرية حركة السودان والتحرير، وفي نفس الوقت يرى ضرورة قيام مؤسسات «التعاون» والتكافل لحفظ التوازن في الاسعار، وعدم ترك الحبل على الغارب، بل تدخل الدولة الايجابي، وتشجيع الانتاج وتنويعه، ومحاربة الفساد، وضرورة تقييم وفهم تكلفة القرارات السياسية التي يتخذها السياسيون، لأن لكل قرار تكلفة وثمن.. ألا رحم الله المرحوم العالم محمد هاشم عوض وجزاه الله خيراً فيما قدم لوطنه ولجامعته ولطلابه وللإنسانية من أفكار خالدة. من طلاب المرحوم