وساطة الفريق اول ابراهيم سليمان: هل تكرار لذات السيناريو    شاهد بالفيديو.. ياسر العطا يقطع بعدم العودة للتفاوض إلا بالالتزام بمخرجات منبر جدة ويقول لعقار "تمام سيادة نائب الرئيس جيشك جاهز"    عقار يشدد على ضرورة توفير إحتياطي البترول والكهرباء    ريال مدريد الإسباني بطل أوروبا    ريال مدريد يهزم دورتموند الألماني ويصطاد النجمة 15    (زعيم آسيا يغرد خارج السرب)    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    قنصل السودان بأسوان يقرع جرس بدء امتحانات الشهادة الابتدائية    المريخ يتدرب على اللمسة الواحدة    إعلان قائمة المنتخب لمباراتي موريتانيا وجنوب السودان    شاهد بالفيديو.. مواطن سوداني ينطق اسم فريقه المفضل بوروسيا درتموند بطريقة مضحكة ويتوقع فوزه على الريال في نهائي الأبطال: (بروت دونتمند لو ما شال الكأس معناها البلد دي انتهت)    بدء الضخ التجريبي لمحطة مياه المنارة    منظمات دولية تحذر من تفشي المجاعة في السودان    بعد الإدانة التاريخية لترامب.. نجمة الأفلام الإباحية لم تنبس ببنت شفة    صلاح ينضم لمنتخب مصر تحت قيادة التوأمين    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية كبيرة من الجمهور.. أحد أفراد الدعم السريع يظهر وهو يغني أغنية "هندية" ومتابعون: (أغنية أم قرون مالها عيبها لي)    شاهد.. زوج نجمة السوشيال ميديا أمنية شهلي يتغزل فيها بلقطة من داخل الطائرة: (بريده براها ترتاح روحى كل ما أطراها ست البيت)    بعد الإدانة التاريخية.. هل يستطيع ترامب العفو عن نفسه إذا نجح بالانتخابات؟    أسعار الأدوية في مصر.. المصنعون يطلبون زيادة عاجلة ل700 صنف    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون يقدمون فواصل من الرقص "الفاضح" خلال حفل أحيته مطربة سودانية داخل إحدى الشقق ومتابعون: (خجلنا ليكم والله ليها حق الحرب تجينا وما تنتهي)    مسؤول سوداني يكشف معلومات بشأن القاعدة الروسية في البحر الأحمر    "إلى دبي".. تقرير يكشف "تهريب أطنان من الذهب الأفريقي" وردّ إماراتي    دفعة مالية سعودية ضخمة لشركة ذكاء اصطناعي صينية.. ومصدر يكشف السبب    في بورتسودان هذه الأيام أطلت ظاهرة استئجار الشقق بواسطة الشركات!    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    فيصل محمد صالح يكتب: مؤتمر «تقدم»… آمال وتحديات    السعودية "تختبر" اهتمام العالم باقتصادها بطرح أسهم في أرامكو    ميتروفيتش والحظ يهزمان رونالدو مجددا    السعودية تتجه لجمع نحو 13 مليار دولار من بيع جديد لأسهم في أرامكو    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    مذكرة تفاهم بين النيل الازرق والشركة السودانية للمناطق والاسواق الحرة    سنار.. إبادة كريمات وحبوب زيادة الوزن وشباك صيد الأسماك وكميات من الصمغ العربي    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    نجل نتانياهو ينشر فيديو تهديد بانقلاب عسكري    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور منصور خالد:التفاعلات الإقليمية والدولية لإستقلال جنوب السودان (1)
نشر في الصحافة يوم 23 - 01 - 2012

تنشر «الصحافة»، فيما يلي نص الورقة التي قدمها د.منصور خالد في المؤتمر الذي نظمه مركز الجزيرة للدراسات تحت عنوان (دولتا السودان: فرص ومخاطر ما بعد الانفصال)الأسبوع الماضي في الدوحة
1. لكي نُدرك التفاعلات التي تولدت من إنفصال جنوب السودان عن شماله يفيد، في المبتدأ، أن نُلقي ضوءً على الظروف التي قادت إلى الإنفصال، فالإنفصال نهاية مأساوية لتاريخ طويل للعلاقة بين جنوب وشمال القطر منذ إستقلاله الذي إحتفينا بعيده السادس والخمسين في مطلع هذا الشهر. الظاهرة الجديرة بالإهتمام في هذه العلاقة خلال السبعة عشر عاماً الأولى منذ الإستقلال (1956م إلى 1972م)، ثم عبر ما يربو على العقدين من الزمان (1983م إلى 2002م) هي التصاعد المستمر لمطالب الجنوبيين. تلك المطالب بدأت بالفيدرالية بين شقي القطر عند إعلان الإستقلال 1955م بمعنى توحيد السودان فيدرالياً بين دولتين: الشمال والجنوب؛ ثم تطورت إلى الفيدرالية كنظام لحكم كل أقاليم السودان في عام 1965م؛ ومن بعد إلى الحكم الذاتي للمديريات الجنوبية مجتمعة في 1972م؛ وفي النهاية إلى تقرير المصير المُفضي إلى واحد من خيارين: تأكيد الوحدة على أسس جديدة، أو الإنفصال. ليس من خُطتنا تشريحُ هذه المراحل؛ أولاً لأن إستعراضَها قد يتطلب ندوة خاصة لذلك، وثانياً لأن المكتبةَ حافلةٌ بالكتب والبحوث حول الظروف التي أدت لتصاعد الجنوبيين بمطالبهم. تلك الظروف لخصها السياسي المخضرم أبيل ألير في كتابه (South Sudan, too many agreements dishonored).
2. هذا الميراثُ السياسي الثقيل من إخلافِ الوعود والتنكرِ للعهود، لم يكن من الممكن تجاوزُه إلا بميثاق غليظ. وكان ذلك الميثاق إتفاقية السلام الشامل التي مهرها الطرفان في 9 يناير 2005م وإحتوت، من بين ما أحتوت عليه، بروتوكول ماشاكوس 2000م إعترف ذلك البروتوكول للمرة الأولى بحق أهل جنوب السودان في تقرير مصيرهم، أما بالإبقاء على الوحدة وفق النظم التي نصت عليها إتفاقيةُ السلام الشامل (2005م) والمعايير القيمية التي الزمت بها الطرفين، أو الإنفصال. وسبق الإتفاقية إجماعٌ من كل الأحزاب السودانية المعارضة للحكم على منح الجنوب حقَ تقرير مصيره في مؤتمر عقد في مدينة أسمرا، إريتريا في يونيو 1995م أطلق عليه إسمُ مؤتمر القضايا المصيرية.
3. لماذا نستدعى هذا التاريخ؟ إستدعاء التاريخ حَفَزنا عليه سببان: السببُ الأولُ هو الظنُ السخيف عند عدد غير قليل بأن إنفصال الجنوب نتاجٌ لمؤامرة خارجية لتمزيق السودان، وهي مؤامرة ذاتُ اذرع طويلة وقصيرة منها الأفريقي، ومنها الأمريكي، ومنها الصهيوني، ومنها الصليبي. السخافة هي الرِقة، فسخافةُ الثوب هي ضَعفُ نسيجه، افة الرأي هو هُزاله. وفي عالمنا العربي ظلت نظريةُ المؤامرة هي الحُجةُ التي تساق لتفسير أي حدث هروباً إلى الأمام من المسئولية المحلية عن ذلك الحدث، دون أن تصحب تلك الحجة أدلةٌ واقعية. الشئ الوحيد الي لا يرد في أذهان أصحاب نظرية التفسير التآمري للتأريخ، أو يُسقطونه دوماً من الحساب، هو المفاعل المحلي، وهو أدنى الأسباب. الحجة القاطعة، إذن، هي أن إرادة أهل السودان قد إجتمعت على منح الجنوب حق تقرير المصير، حتى وإن أفضى إلى الإنفصال بإعتبار أن ذلك هو السهمُ السياسيُ الأخير (political weapon of last resort) لإنها حرب داحس والغبراء السودانية.
السببُ الثاني هو ان إنسلاخ الدول ? في الماضي والحاضر ? ليس بالظاهرة المستغربة. فجميع الدول ذات السيادة في شمال ووسط أوروبا نشأت في القرن التاسع عشر إما عن طريق الأنفصال عن كيانات إمبراطورية: النمسا، المجر، دول البلقان عن الإمبراطورية النمساوية ? الهنغارية؛ النرويج بالإنسلاخ عن السويد؛ هولندا بالإنسلاخ عن بلجيكا؛ ثم لوكسمبرج بالإنسلاخ عن هولندا. وفي القرن الذي تلاه نشأت كلُ دول أمريكا اللاتينية التي يجمع بينها ? بلا إستثناء ? دين واحد هو الكاثوليكية، كما تجمع بينها لغة واحدة هي الأسبانية، بإستثناء البرازيل التي سادت فيها اللغة البرتغالية. من ذلك إنفصال فنزويلا وكويتو (تعرف اليوم بإسم إكوادور) عن كولومبيا العظمى (Gran Columbia)، وإنفصال أورقواي من إمبراطورية البرازيل، ثم إنفصال الأرجنتين عن تلك الإمبراطورية بموجب إتفاقية منتفيديو في عام 1927م. وفي القرن العشرين وقع أيضاً إنفصالان هامان في دولتين، الأولى منهما ظلت موحدة منذ القرن الثامن عشر الا وهي الهند. إنقسمت الهندُ في عام 1947م إلى دولتي الهند وباكستان لإعتبارات دينية وثقافية، ثم إنسلخت بنقلادش عن باكستان في عام 1971م رغم الرباط الديني الذي يجمع بينهما. ذلك الرباط الروحي لم يَحُل دون إنسلاخ مسلمي بنغلادش عن مسلمي باكستان لعامل سياسي ? إقتصادي لا علاقة له بالدين: هيمنة النخبة الحاكمة في السند على السلطة والثروة على حساب أهل البنغال. أيضاً عقب إنهيار الإمبراطورية السوفيتية في أواخر القرن الماضي تفرقت تلك الإمبراطورية شَذر مَذر إلى دول البلطيق الثلاث (أستونيا، لاتفيا، لثوانيا)، دول الكمنولث المستقلة التي كانت تضم 12 دولة وصارت 11 دولة عقب إنسحاب جورجيا. صاحبَ ذلك الحدث تشققُ يوغسلافيا إلى ست دول (سلوفينيا، كرواتيا، جمهورية الصرب، مقدونيا ثم جمهورية الجبل الأسود (مونتنقرو)). القارة الوحيدة التي نجت دولها من التمزق هي القارة الأفريقية التي أقر زعماؤها في المؤتمر الثاني للقمة الأفريقية بالقاهرة (1964م) الإبقاءَ على حدود الدول الأفريقية على الحالة التي كانت عليها عند رحيل الإستعمار. رغم ذلك لم تنجُ تلك القارة من تفتت الدولة في الحالات التي تعسر فيها بقاؤها موحدة إما بسبب رغبة النخب السياسية المهيمنة على تكريس هيمنتها الإثنية، ومثال ذلك إنشقاق دولة رواندا و بوروندي في عام 1962م، إلى جمهوريتي رواندا و بوروندي في عام 1962م أو للإنهاك الذي سببته الحروب الداخلية للدولة الأضعف وإختلاف الرؤى حول مناهج الحكم كحال إستقلال اريتيا عن إثيوبيا في عام 1991م برضا الدولتين. إنفصال الجنوب عن الشمال، إذن، هو الحدث الثالث من نوعه في أفريقيا.
4. خلق إنفصالُ الجنوب عن الشمال وضعاً جديداً ذا أبعاد إقتصادية وسياسية وأمنية. فإن إعتبرنا جنوب السودان مركز الإهتمام يمكن النظر إلى الدول التي أثرت عليه، أو تأثرت به ، في في دوائر متحدة المركز (concentric) الدائرة الأولى هي الدول المجاورة له وعلى راسها شمال السودان؛ وثانياً الدول الأفريقية خاصة الأقرب في النطاق الجغرافي أو بحكم المصالح الحيوية؛ ثالثاً الدول التي أورثت الجنوب علائق خاصة وهامة قبل الإنفصال بحسبانه جزءً من الدولة السودانية مثل الدول العربية؛ رابعاً تلك التي نمت بينها وبينه علاقات بسبب الثروات النفطية تحت أراضيه؛ وأخيراً دول العالم الأخرى. وليس من الضروري أن تكون أهمية العلاقة مع الدولة المعنية رهينة بقربها الجغرافي من مركز الدائرة إذ أن هناك إعتبارات تاريخية جعلت لدولة أو أكثر دولة علاقات أوثق بجنوب السودان من علاقاته مع من هم أقرب إليه جغرافياً. بهذا الفهم، سنتناول التفاعلات مع كل هذه الدول (بالمعنيين للكلمة في اللغة الإنجليزية Interaction and interplay).
5. بإنفصال الجنوب عن جمهورية السودان (الدولة الام) اصبحت تلك الدولة، بالضرورة، دولة خارجية بالنسبة لدولة جنوب السودان المستقلة ذات السيادة. مع ذلك تظلُ جمهوريةُ السودان هي الجارُ الأقرب إليه. وللروس تعبير طريف حول الدول القريبة لروسيا حتى وإن كانت ذات سيادة. تلك الدول ينعتها الروس بالخارج القريب (the near abroad). لهذا فإن اي حديث عن تفاعل الدولة الناشئة مع الخارج يبدأ بجمهورية السودان إذ لعب التاريخ والجغرافيا دوراً هاماً في تكوين وتكييف العلائق فيما بينهما.
دعنا نتناول ظاهرتين قضت بهما الجغرافيا والتاريخ. فجغرافياً أصبحت الحدود الشمالية للدولة الجديدة (الحدود بين شمال دولة الجنوب وجنوب دولة الشمال) هي أطول حدود لتلك الدولة (2010 كيلومتراً) في حين لا تزيد الحدود بين دولة الجنوب والدول الخمس الأخرى المجاورة لها: إثيوبيا، أفريقيا الوسطى، كينيا، الكونغو الديموقراطية ويوغندا مجتمعة الفي كيلومتراً. الحدود الشمالية الجنوبية تقع في المنطقة ما بين خطي العرض 7. 13 شمال خط الإستواء وخطي الطول 14 - 34 شرق قرينتش، كما تتساكن على ضفتيها واحدٌ وثمانون قبيلة رعوية تمثل في مجموعها 20% من سكان السودان (جنوبه وشماله). عند تلك الحدود تتلاقى خمسُ ولايات شمالية: جنوب دارفور، جنوب كردفان، النيل الأبيض، النيل الأزرق، سنار ومن ناحية الجنوب ثلاثُ ولايات: أعالي النيل، شمال بحر الغزال، الوحدة. هذه القبائل ترتحل شمالاً وجنوباً في فصول الجفاف سعياً وراء مراع أكثر إخضراراً دون إعتبار لأي حواجز غير طبيعية، فلا الرعاة ولا أبقارهُم تعرف شيئاً عن جوازات السفر. وحتى في سني الحرب ? والصراع على أشده ? إستمرت تلك العلاقات في الرعي المشترك، والتجارة البينية تنساب إنسياباً طبيعياً مما حدا بالدكتور جون قرنق لأن يطلق على تلك المنطقة التي ظلت تُعرف بمناطق التماس (areas of contiguity) نعتاً آخر هو مناطق التمازج (fusion). الثاني هو أن أهل الجنوب، خاصة في المناطق المتاخمة للشمال يعتمدون إعتماداً كبيراً على التجارة مع الشمال لا سيما بالنسبة لضروريات الحياة. كان هذا هو الوضع قبل إنتاج البترول، ولم يغير إنتاجه وتصديره شيئاً في تلك العلائق التبادلية، والإنتاجية، والإجتماعية. ومن المؤسي أن إنتاج النفط ? حتى هذه اللحظة ? لم يلعب الدور الذي كان ينبغي أن يلعبه كمحرك لقاطرة النمو الحقيقية: الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، بحسبانها أهم مورد متجدد يملكه السودان لدفع النمو الإقتصادي.
6. قبل الإستفتاء على تقرير المصير إتفق الطرفان على ضرورة معالجة الأوضاع التي قد تنجمُ عن الإنفصال أو تترتب عليه مما يعنى أن طرفي الإتفاق كان يدركان أن الإنفصالَ أمرٌ محتمل. ولهذا نص قانون الإستفتاء عام 2010م في الفقرة الفرعية (3) من الفقرة السابعة والستين تحت عنوان ترتيبات ما بعد الإستفتاء على ما يلي: في حالة تصويت أهل جنوب السودان على خيار الإنفصال يشرع الطرفان بشهادة الدول والمنظمات الموقعة على الإتفاق في التفاوض بهدف الإتفاق على الموضوعات الحيوية التالية التي تترتب على الإنفصال: (أ) الجنسية، (ب) العملة، (د) القوات المشتركة، الأمن القومي والمخابرات، (ه)، الإتفاقيات الدولية، (و) الإصول والديون، (ز) حقول النفط (ط)، المياه، (ي) الممتلكات الثابتة، (ك) أي موضوعات أخرى يتفق عليها الطرفان. وتشمل الدول والمنظمات التي أشارت الفقرة لإشهادها على التفاوض دول الإيقاد (أريتريا، إثيوبيا، جيبوتي، كينيا، يوغندا)، الإتحاد الأفريقي ، الإتحاد الأوروبي، جامعة الدول العربية، بريطانيا، النرويج، الولايات المتحدة، الامم المتحدة.
7. هذا النص المُحكم يعني أن الطرفين لم يكونا فحسب على إدراك بأن هناك تبعاتٍ ستترتب على الإنفصال، بل كانا أيضاً حريصين على تفادي أي صراع قد ينشأ بينهما في المستقبل، وعلى تعاون وثيق بين الدولتين. تلك النظرة، في تقديرنا، كانت قائمة على أن قابلية(viability) أي واحدة من الدولتين على النمو المُعافي، تعتمد على قابلية الأخرى. رغم ذلك تدهورت العلائق بين الدولتين بصورة سريعة ومرعبة بعد مضي بضع أشهر من إعلان إستقلال الجنوب في الوقت الذي كان فيه الطرفان والشهود يؤملون بعد أن وضعت الحرب أوزارَها، أن تخفَ أيضاً أثقالهُا السياسية والإقتصادية والإجتماعية. بدلاً عن التقصي عن الأسباب التي قادت لذلك التدهور المؤسي للعلاقات لجأ المتحذلقة من الخبراء لتفسير ذلك الحدث باللجوء لنظرية المؤامرة، وتلك حجة من لا حجة له. لا غرو، فالحذلقة ? في بعض معانيها ? هي إدعاءُ المرء أكثرَ مما يعرف، أو العنادُ بلا جدوى. فما الذي وقع عقب إعلان خيار الجنوبيين للإنفصال؟
ثُمة أسبابٌ نفسية لعبت، في البدء، دوراً هاماً في تسميم الأجواء وقادت من بعد إلى قرارات نزوية من جانب، ورود فعل لا تقل عنها نَزواناً من الجانب الآخر النزوات في السياسة لا تقود إلا إلى أفعال وردود أفعال غير محسوبة العواقب. نزعم أن أولَ ما فوجئ به صناعُ القرار في الخرطوم، وأجج السَورَة في نفوسهم ليس هو قرار الإنفصال ? فقد أعلنوا رضاهم عنه وتأييدهم له ? عُنصُر الفُجاءة الأكبر كان في نسبة الجنوبيين الذين صوتوا للإنفصال 97.58% من المقترعين. وحين كان عدد المقترعين 3.792.518 مليوناً، أي ما يوازي 98.83% % من الناخبين المسجلين، كان الحد الأدنى المطلوب لإقرار الإنفصال هو 60% من المصوتين الفعليين. ردُ الفعل الطبيعي لذلك الحدث المفاجئ هو أن يقولَ طرفا الإتفاقية أنهما لم يفعلا كلَ ما كان يتوجبُ عليهما فعلُه لجعل الوحدة جاذبة وفق ما نصت عليه الإتفاقية، ثم السعي، من بعد إلى تهيئة الجو لكيلا لا يتحول الإنفصال السياسي الذي قضى به إتفاق سياسي بين الطرفين الحاكمين إلى قطيعة وجدانية بين الشعبين. قرار الإنفصال كان بلا شك صدمة للمواطن الشمالي الذي كان يتمنى أن يبقى القطرُ موحداً، إلا أن ردَ الفعل غير محسوب العواقب، والذي اسهم بقدر في تسميم الأجواء، جاء من متخذي القرار في الشمال وتجاوز أثرُه صانعي القرار في الجنوب إلى المواطن العادي فيه.
ما هو رد الفعل غير محسوب النتائج؟ في هذا المجال نتناول حدثين هامين: الأول هو الجنسية والثاني إقامة المواطنين الجنوبيين في الشمال طالما رغبوا في، أو إقتضت مصالحهم، ذلك. فحولِ الجنسية رفضت حكومة السودان مبدأ الجنسية المزدوجة التي دعا لها الجنوبيون، رغم أن دستور السودان يقر ذلك في مادته (7 ? 4) والتي تقول: «يجوز لأي سوداني أن يكتسب جنسية بلد آخر حسبما ينظمه القانون». صحيح أن في تجارب الدول قرارات غاضبة تشابه قرار حكومة السودان نحو مواطنيها ذوي الإصول الجنوبية، إلا أن الدول التي إتخذت تلك القرارات بادرت بخلق الأطر الدستورية لقراراتها تلك حتى لا تقعَ في حرج. مثالُ ذلك قرار دولة كرواتيا بإلغاء الجنسية المزدوجة في دستورها حتى تحمل مواطنيها، أو القاطنين فيها من الصرب، على التخلص من جنسية تلك الدولة قبل أن يحوزوا على الجنسية الكرواتية. القرار الثاني هو ذلك الذي قضى بترحيل مئات الآلاف من الجنوبيين القاطنين في الشمال إلى وطنهم الأصلي، أو بالأحرى إلى موطن أسلافهم. فعدد كبير من هؤلاء الجنوبيين ولد في الشمال ونما فيه، ومن هؤلاء من لم يشارك في الإستفتاء على تقرير المصير، ومنهم من شارك فيه وإختار الوحدة، بل منهم من كانوا قيادات فاعلة في الحزب الحاكم. ومع يقيننا بأن دوافع القرار لم تكن عرقية، إلا أنه من الصعب على أي جنوبي، بل أي مراقب، أن يذهب لغير ذلك التفسير خاصة وقد شمل القرار شخصيات جنوبية مسلمة كان لها دور فاعل في الحزب الحاكم.
إلى جانب هذين القرارين هناك قرار ثالث مس المواطن الجنوبي مساً مباشراً هو إيقاف التجارة مع الجنوب مما كان له أثرٌ بالغ في إنعدام السلع الضرورية، وإرتفاع إسعارها إرتفاعاً باهظاً لا يطيقه المواطن العادي. مع ذلك قد تكونُ لهذا القرار مبرراتٌ موضوعية أكثر من سابقيه لأنه جاء كرد فعل على النزاع بين الدولتين حول الترتيبات المصرفية.
على أي، سمم هذان العاملان جَو التفاوض بين الدولتين حول القضايا العالقة والتي كان من المقرر أن يفرَغَ الطرفان من معالجتها قبل التاسع من يوليو 2011م (موعد إعلان إستقلال الجنوب). ومن الغريب أن المفاوضات حول بعض هذه الإمور ظلت تسير بسلاسة في الشهور الأولى بعد الإستفتاء بإسهام مشكور من لجنة الإتحاد الأفريقي التي يرأسها تابو أمبيكي الرئيس السابق لجمهورية جنوب أفريقيا بعون من دول الإيقاد، ودولة إثيوبيا، والوسطاء الدوليين الذين أسهموا في الوصول إلى إتفاقية السلام الشامل: الولايات المتحدة، بريطانيا، النرويج، إلى جانب الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد. في جميع هذه الحالات كان المتفاوضون يستهدون في جهودهم بمبادئ القانون الدولي حول خلافة الدول (Succession of States) وتجارب الدول المماثلة.
الإنفعالات الغاضبة، وما صحبها من كيدَ وكيدَ مضاد، جعلت من العسير أن تكون المعالجة للقضايا العالقة معالجة موضوعية، وأن يتم حسمها قبل إنفصال الجنوب. التلكؤ في حسم هذه القضايا أدى إلى تفجير المواقف فيما بعد. وعلى رأس تلك القضايا مصير منطقة أبيي، والوضع النهائي للقوات المشتركة المدمجة خاصة تلك التي تعسكر في الولايات الشمالية: جنوب كردفان والنيل الأزرق. وبدلاً من إيجاد حلول مرضية وعادلة ينصرف بعدها الطرفان ليس فقط إلى خلق البيئة المواتية للتعايش السلمي بين الدولتين، بل أيضاً إلى إرساء قواعد التعاون المفضي إلى تكامل بينهما، تحولت إلى أدوات ضغط في الحوار حول القضايا الإقتصادية وعلى رأسها قضية إقتسام عائدات، وترحيل وتسويق النفط. أشد وبالاً من القرارات النزوية غير محسوبة النتائج لجوء عناصر مسئولة من الطرفين إلى إستخدام الإعلام للتخاطب مع بعضهما البعض في غير روية وإحكام. وعندما يكون هذا التفلت الإعلامي لحظات التفاوض حول قضايا مصيرية كثيراً ما يقود إلى عواقب جاءت عن قصد أو دون حسبان (unintended consequences) مثل هذه العواقب لا يُعاب عليها الإعلاميون الذين يستهوي أغلبهم السبق الفحص كما تستهوي بعضهم الإثارة، وإنما يُعابُ عليها السياسيون الذين كان ينبغي أن يدركوا أن الصمت من ذهب، خاصة حول القضايا التي لا يمكن معالجتها إلا عبر الدبلوماسية الهادئة. وعلنا نذكر هنا أن رئيس الحركة قد اصدر توجيهاً للوفد المفاوض لوفد حكومة السودان خلال مفاوضات السلام بان تصدر جميع التصريحات حول سير المفاوضات من رئيس المجموعة المفاوضة أو الناطق الرسمي بإسم الحركة، فيما يليه. أهم من ذلك كان توجيه لكليهما بأن تتوخى التصريحات الحقيقة وأن تكون قوية مؤثرة وملتزمة باحترام الآخر. (factual, rabust and respectful to others) فإن كانت تلك هي الوصفة اللازمة للتعامل بين التمفاوضين والحرب دائرة، فما أحرى المتفاوضين بالإلتزام بهذه الوصفة في مرحلة السلام لكيلا يفقد السودان الوحدة والسلام معاً. هذه الإعتبارات مجتمعة أدت إلى عرقلة سير المفاوضات في أكثر الفترات حرجاً، أي الفترة التي بدأ فيها الحوار الجاد حول إقتسام عائدات النفط، التي تمثل موضوع حياة أو موت بالنسبة للدولتين. فإن كان الجنوب ? في وضعه الراهن ? يعتمد على عائدات النفط بما لا يقل عن 97% للإيفاء بإنفاقه الإداري، والخدمي، والأمني، فإن الشمال يعتمد بنسبة 60% على إنفاقه في هذه المجالات من ذات المصدر. ودون عودة للروح التي سادت المفاوضات، والنأي عن الكيد والكيد المضاد، لا يمكن للدولتين أن تصبحا دولتان قابلتين للنمو الطبيعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.