لأهلنا فى السودان قول مأثور إذ يقولون ( الكترة محقة ) ويقصدون أن تكاثر الناس فى عمل ما يمحق هذا العمل بسبب الكثرة والتواكل ، ويبدو أن الحكومة الموسعة قد أمست اسماً على مسمى.. فمع مطلع كل يوم جديد تتوالى البيانات والاعلانات والقرارات عن تعيينات جديدة لوزراء ووزراء دولة ومستشارين ومساعدين.. كأنّما السماء تمطر مساعدين ومستشارين.. وكأنّما الارض تنبت وزراء ووزراء دولة.. وكأنّما تتفتق أذهان المسؤولين مع مطلع كلِّ صباحٍ جديدٍ عن ولايات جديدة ومحليات وليدة. حكومة القاعدة العريضة جاءت أعرض مما كان الناس يتوقعون.. فحجم هذه الحكومة المكونة أصبح أكبر من قاعدتها الشعبية.. لانها مكونة من احزابٍ (أصول) انشقت عنها احزابٌ (فروع) وأراد الحزب الحاكم أن يجمع كل الفروع والأصول فى حكومة القاعدة العريضة.. فعدد الوزراء الإتحاديين ووزراء الدولة وصل الى 66 وزيراً.. هذا غير الولاة الذين يعتبرون بدرجة وزراء إتحاديين بالإضافة للوزراء الولائيين.. حيث طالت الترضيات الحزبية والجهوية حتى حكومات الولايات. إن منصبى المساعد والمستشار يعدان بدعة أُريد بها توسيع مظلة الترضيات ، فالمساعد والمستشار مقعدان لا يملكا توصيفاً وظيفياً ، وقد تندر أحد المستشارين الرئاسيين السابقين وهو يقول أن وظيفة المستشار تتلخص فى أن يستشير رئيس الجمهورية فيما يفعله وليس أن يشير عليه ، أما منصب المساعد الرئاسى فيكفى ما قاله السيد منى أركو مناوى المساعد السابق بأن وضعه أشبه بحال (مساعد لورى) ، وسبقه فى ذات السياق السيد جوزيف لاقو نائب رئيس الجمهورية الأسبق حين قال إن مهام وظيفته السيادية كانت تتلخص فى قراءة الصحف ثم الإنصراف لبيته . إنّ حكومة القاعدة العريضة هى حكومة بدينة وكبيرة لشعب لا يكاد يصل تعداده الى خمسة وعشرين مليون نسمة بعد أن إنفصل عنه الجنوب وذهب بسكانه وأرضه.. وللمقارنة فقط فإنّ الولاياتالمتحدة التي يبلغ عدد سكانها أكثر من ربع مليار نسمة (260 مليون مواطن) تحكمها حكومة لا يتجاوز عدد وزرائها الخمسة عشر وزيراً.. بجانب أربعة مستشارين في القصر الرئاسي بالبيت الأبيض.. والحكومات الأوربية كذلك لا يتجاوز عدد وزرائها العشرة.. بل أنّ الإتحاد الأوربي الذي يدير كلّ القارة الأوربية بصورة معقدة لا يتجاوز عدد وزرائه البضعة عشر.. ولكن الحكومة السودانية يصل فيها عدد الوزراء الى السبعين وزيراً في ظاهرة غريبة حتى على دول الجوار العربي.. إنّ هذه القضية تحتاج الى مراجعة ليس لأنّها تشكل عبءاً على ميزانية الدولة فحسب.. بل لأن العدد الكبير من الوزراء يجعل حركة الحكومة أكثر تعقيداً.. ويعقد الإجراءات الحكومية فيجعلها ابطأ.. ويحدث الكثير من التقاطعات في الصلاحيات وتوزيع الأدوار.. هذا فضلاً عن العبء المالي الكبير لمخصصات الدستوريين والتي تجيئ خصماً على ميزانية اقل ما يمكن أن توصف به أنها (ميزانية طوارئ).. في دولة فقدت 70% من عائداتها.. ولم تستطع حتى هذه اللحظة تعويض الفاقد عبر الموارد الأخرى المتاحة لها.. ولا شك أنّ الترضيات السياسية والجهوية هي السبب الرئيس وراء هذا العدد الكبير من الوزراء.. فكما اسلفنا الأحزاب لم تعد تلك الاحزاب القديمة في الديمقراطية الثالثة على سبيل المثال.. فقد تقسمت وانشطرت بفعل الإستقطاب السياسي الذي ابتدعته الانقاذ.. فصار الحزب الاتحادي أكثر من ستة أحزاب وفصائل متناحرة.. وحزب الامة كذلك انشطر الى سبعة فصائل.. والحزب الشيوعي الى ثلاثة فصائل.. وهكذا امتلأت الساحة السياسية بالأحزاب وفروعها.. كلها تريد أن تشارك في الحكومة وتجد لها مقعداً في مجلس الوزراء والمجالس الولائية التنفيذية والتشريعية.. فشاركت الأصول والفروع في الحكومة.. وهذا يشير الى حقيقة مؤلمة وهي أنّ الساحة السياسية تسودها حالة من الفوضى ويسيطر عليها الاضطراب.. حتى حزب المؤتمر الوطني لا يخلو من مشكلات فقد انقسم هو نفسه الى فصيلين.. والآن تظهر بوادر جديدة لإنقسام جديد بظهور المذكرة.. وأن حاول المؤتمر الوطني التقليل من حجمها إلا أنّه من الواضح أنّها تعبر عن مجموعات ساخطة وناقمة على الطريقة التي تدار بها البلاد.. وقد ظهر هذا جلياً في ثنايا المذكرة وحيثياتها والتي تحدثت عن نقاط كثيرة أهمها الترهل الكبير في الحكومة وقد قال أحد المؤيدين للمذكرة لصحيفة السوداني الغراء (لا يمكن أن يكون أول الحكومة في الخرطوم وآخرها في الصين) في إشارة الى الترهل والى العدد الكبير من الدستوريين. ولا شك انّ إضطراب الاحزاب يؤدي لإضطراب البلد.. فالبلد القوي تبنيه الأحزاب القوية.. وعلى العكس فإنّ الأحزاب الضعيفة والمنقسمة لا تنتج سوى وطن ضعيف ومنقسم على نفسه وهو ما يحدث للسودان الآن.. فإنقسام الأحزاب صنع حالة من الإستقطاب الحاد بين الحكومة والمعارضة وانقسم المواطنون وفقاً لذلك. منهم من حمل السلاح يقاتل ويدمر ممتلكات المواطنين العزل.. ومنهم من قاوم مشروعات التنمية بالمظاهرات والإعتصامات.. وليس أدلّ على هذا من إعتصام قبيلة المناصير الذي كاد أن يكمل شهره الثاني.. والذي يتفق الجميع بما فيهم الحكومة نفسها على حقوقهم العادلة.. ولكنّ الترهل في الدولة يجعل من الصعب تنفيذ مطالبهم (لضعف الميزانية).. رغم القرارات الجمهورية الصادرة والتي تنصفهم بالتعويض العادل.. وهذا ليس سوى مثال لحالات الإستقطاب الحادة التي لم تقف في حدود القضايا الداخلية بل وصلت الى حدود الملفات الخارجية.. فبعض أبناء هذا الوطن يبذلون جهوداً كبيرةً لإقناع أعضاء من الكونغرس الأمريكي بعدم رفع العقويات الأمريكية على السودان.. بل وبإيقاع المزيد من العقوبات عليه.. وهم يدرون أكثر من غيرهم أنّ تأثير تلك العقوبات يقع على رأس المواطنين قبل أن تتأثر به الحكومة. وفي هذه الأثناء التي يحاول فيها الحادبون على هذا الوطن إيجاد مخرج له من أزماته القديمة المتجددة.. يخطو الحزب الحاكم خطوات ما كان الناس يتوقعونها أبداً.. وذلك بإشراك ابناء السادة المراغنة والمهديين في الحكم.. وهي ذات الطوائف التي إنقلب عليها الإسلاميون قبل إحدى وعشرين عاماً.. وقد جاء البيان الأول للثورة يقول (أنّ الطائفية أضاعت وقت البلاد وفرقت بين أهله وعشيرته وكرست الولاء للسادة وليس للوطن).. ولكن بعد عقدين من الزمان يعود الإسلاميون لذات المربع الذي بدأوا منه وذلك بإشراك جعفر الصادق ابن السيد محمد عثمان الميرغني وإشراك عبد الرحمن نجل السيد الصادق المهدي.. ونحن في هذا المقام نتساءل: هل تم اختيارهم لانهم الاكفأ في احزابهم؟؟.. ولماذا لم يحصلوا على مناصب في احزابهم او يتولوا مهماتٍ جساما؟؟.. وإن تولوها.. فما هي تلك المهام الكبيرة والمؤثرة وماهو مدى نجاحاتهم فيها؟؟. يبدو ان الاختيار قد تمّ لاسباب كثيرة منها تطعيم الحكومة ببعض المكونات الحزبية المعارضة للتقليل من حدّة نشاط بقية الأحزاب المعارضة.. وإظهار الحكومة وكأنّها تمثل غالبية الطيف السياسي مع أنّ هذا ليس صحيحاً.. لكن من نتائج تلك الخطوة أنّها سوف تعمِّق وتكرِّس مفهوم الطائفية وهو مفهوم عفى عليه الدهر وتركته الشعوب خلف ظهرها وتوجهت صوب المكونات الحديثة للمجتمعات وهي الأحزاب ذات البرامج المعلنة والمتفق عليه بين عضوية تلك الأحزاب.. ومن تلك المكونات ايضاً منظمات المجتمع المدني التي تعمل في تطوير المجتمع من خلال تطوير القوانين ودفع الحكومات للإلتزام بها والعمل في مجال البيئة والرعاية الأولية ومحو الأمية للمجتمعات الاقل نمواً.. ولكن يبدو أن الشعوب تمضي للأمام ونحن نتراجع للخلف. كما أنّه لا يخفى على أحد أن نتائج ذلك الإسراف في إستنباط وتوليد الوزارات والمحليات سيعود بالضرر على المواطنين الذين سمعوا الوعود الحكومية واستبشروا خيراً بتكوين الحكومة الرشيقة والخفيفة التي تستطيع السير بسرعة الى الأمام.. وهو بالضبط ما أعلنته من سياسة التقشف وتقليل الصرف الحكومي.. ولكن يبدو ان التقشف على الشعب فقط.. فالدستوريون إزداد عددهم.. وحاول بعض أعضاء البرلمان أن يقابلوا زيادة العدد بتقليل المخصصات من خلال تعديل (قانون مخصصات الدستوريين).. لكنّ هنالك جهاتٍ ما كانت تعيق تلك الجهود والمحاولات لاسباب ليس معلنة وإن كانت معروفة للجميع وهي الحفاظ على المكتسبات والحوافز. ومن الطرائف التي تحكى في هذا الشأن أنّ أحد المحظوظين قد تمّ تعيينه في أحد الوظائف المرموقة فقال انه لن يجلس في مكتب جلس عليه احد من قبله ولن يسكن بيتا سكن فيه احد من قبله.. (فهو يريد البكارى من البيوت والمكاتب).. فقام بتحويل البيت الذي مُنح له الى مكتب وقام بتأجير بيته لنفسه.. وهذا لا يحدث إلا في السودان.. حيث الترضيات القبلية والجهوية. إنّنا نقول مثل هذا الكلام عن التعيينات الطائفية والعشائرية خاصة في المناصب السيادية لأن هذه المناصب لها اهميتها الخاصة.. ولانها تمثل السودان في حال غياب الرئيس لأيِّ سبب من الاسباب لذلك يجب ان يتم تحري الكفاءة فيمن يجلس على كراسيها ويتبوأ مسؤولياتها.. وكذلك تحدثت مجالس المدينة عن تعيين شباب حديثى التخرج في الجامعات في مناصب حساسة.. ولا شك أنّهم بحداثة تخرجهم لا يملكون الخبرات اللازمة ولا المهارات الكافية لإدارة دولاب الدولة.. وكل ذلك بدعاوي تدريبهم على العمل العام.. وهذا الإتجاه أقرب للمثل الشعبي الذي يتحدث عن تعلم (الحجامة على قفا اليتامى).. فتدريب هؤلاء الشباب سيتم خصماً على تسيير أعمال المواطنين.. وخصماً على سلاسة العمل الديواني.. رغم أن الحركة الاسلامية بها شخصيات لها أدوار كبيرة وخبرات عظيمة ولها تاريخ حافل بالعلم والعطاء مثل الدكتورة سعاد الفاتح التي قالت على مسمع ومرأى من كل أعضاء المجلس الوطني وأجهزة الإعلام أنّها مهمشة.. وبالطبع ليست وحدها.. ولكن جرت ريح الترضيات على أكتاف هؤلاء الخبراء واصحاب العطاء. إنّنا نؤكد في ختام هذا المقال أنّ هذه الاحزاب التي نراها الآن بكلِّ هذا الضعف والإنقسام.. لن تلعب دورا في حل مشكلات السودان.. ولن تلعب هذا الدور مستقبلاً ما لم تصلح هياكلها وتنظم حالها وتمارس الديمقراطية في داخلها أولاً قبل أن تطالب بتطبيقها على كل النظام السياسي.. وان يتم إختيار الكفاءات فيها لتولي القيادة وليس تولية أبناء السادة وأصحاب الحظوظ .. فالقيادة تكون للأكفأ ولا يمكن منحها بالوراثة.