عشرة أعوام تمضي على افتتاح معتقل غوانتنامو وتظهر آلاف الصور، فالرجال الذين في بذلاتهم البرتقالية ويرتدون النظارات الواقية والأغطية والسلاسل تراهم ينحنون تحت الشمس الكاريبية القاسية وفي الأقفاص ذات القضبان وهم يتعرضون للعناصر الكيميائية، ولا شيء هناك سوى الجرادل لاستخدامها مراحيض في مناطق سرية من مجمع المعتقل حيث تُجرى «أساليب الاستجواب القوية» ويُحرم الشخص المعتقل من النوم ويُحقن قهراً بالسوائل التي تسبب الانتفاخ حتى ينفجر وحيث يوجد رجالٌ معلقون بالحبال في خلاياهم. إذن كيف يبدو عالمٌ بلا وجود غوانتنامو فيه؟ هذان سؤالان في الحقيقة: فالأول أنه يجب على المرء أن يتصور عالماً لم يفتح فيه المعتقل أبوابه أبداً والأقل تصوراً عالماً يغلق فيه المعتقل الآن. إنها فكرة وجيهة أن نذكِّر أنفسنا بما كان عليه غوانتنامو وماذا يعني الآن، فمنذ البداية تم تصوير معتقل الجيش الأمريكي في خليج غوانتنامو بكوبا للشعب بأنه معتقلٌ يحتوي على سجناء سيئين بشكلٍ لا يمكن تصوره، فالبيت الأبيض والمسؤولون العسكريون أصروا على أن السجناء هناك كانوا «أسوأ الأسوأ» إذ وصف الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة ريتشارد مايرز المعتقلين بأنهم أناسٌ جبَّارون بما لا تحتمل طاقة البشر بحيث أنهم استطاعوا «أن يقطعوا الخطوط الهايدروليكية» في الطائرة التي تحملهم إلى المعتقل. لقد أصر الرئيس جورج دبليو بوش على أنه لم يكن هناك برنامج ترحيل بغرض التعذيب حتى حلول اليوم الذي نقل فيه 14 سجيناً من البرنامج إلى المعسكر معلناً الفائدة الأمنية القومية لاستجوابهم. ولكن القضاة ومسؤولي الأمن القومي والمدعين وموظفي القانون الآخرين أصروا على أن الجهاز القضائي الأمريكي كان من الضعف بمكان أن يعالج مثل هؤلاء الرجال المفزعين، بيد أن إدارة أوباما وافقت على المضي قدماً بإغلاق سجن غوانتنامو والتأكيد على أن هناك 48 معتقلاً تقريباً سيتم احتجازهم «لأجلٍ غير مسمى». ورمزياً كانت لمعتقل غوانتنامو دائماً سلطة أكثر من إيواء الأسرى في الحرب على الإرهاب، فبالنسبة للتحرريين المدنيين فإنه يمثل الحقوق التي انتهكتها الحكومة الأمريكية باسم تلك الحرب إذ أن الشيء الأكثر فضيحة هو احتمال الاعتقال لأجلٍ غير مسمى. وبالنسبة للمدافعين عن المعتقل فإنه يحدد رغبة الولاياتالمتحدة في التعامل بصورة جادة، أما عالمياً فإنه يعتبر رمزاً لتحقير أمريكا، فعندهم أن معتقل غوانتنامو يعتبر دعوة للآخرين لكي يقولوا: «أرأيتم؟ الولاياتالمتحدة مثلها مثل بقيتنا تعجز في مقاومة الرجوع إلى الجانب المظلم عندما تُهاجم». إن معتقل غوانتنامو يمثل ما يكمن خلف سطح أمريكا المتحضرة، أي أنه يمثل نافذة تفضي إلى فخ القساة الوحشيين في حالات الارتباك كما أنه يذكِّر بالانضباط المنسي الذي تقتضيه الديمقراطية الدستورية. ولكن عموماً هذا هو تعريف معتقل غوانتنامو: هو المكان الذي قررت الولاياتالمتحدة أن تجمع فيه قضايا العالم الأخلاقية لما بعد 11/9 تلك القضايا التي تحيِّر ساسة الولاياتالمتحدة وتربك قوانينها وشعبها: أي عندما تكونين أيتها الولاياتالمتحدة في شكٍّ من أمرك أو في جهل أو عندما تعوقك تعقيدات مشاكل الأمن القومي فأرسلي هذه المشاكل إلى معتقل غوانتنامو، أو إذا لم تعرفي أيتها الولاياتالمتحدة ماذا تفعلين بالسجناء الذين ألقي القبض عليهم في ميدان معركة الإرهاب فأرسليهم إلى غوانتنامو، أو إذا كنتِ أيتها الولاياتالمتحدة مرتابة في قدرة المحاكم الأمريكية على محاكمة الإرهابيين فضعيهم في غوانتنامو، وإذا كنت أيتها الولاياتالمتحدة خائفةً من خروج حقائق التعذيب المؤرِّقة إلى دائرة الضوء فاحتفظي بأولئك الذين تم تعذيبهم في معتقل غوانتنامو. وما في ذلك لو أننا محونا كل ذلك؟ فبدون غوانتنامو لن يكون هناك موضوع أساسي لاستحضار دور الولاياتالمتحدة في الحرب على الإرهاب إلى الذهن، لن يكون هناك مكان واحد يحتوي رحلة التيه التي بدأتها الولاياتالمتحدة عقب 11/9 رحلة الانحراف المفزع من القانون والمثول أمام القضاء، الانحراف من هوية أمريكا ذات العدالة والثقة بالنفس والالتزام بالقانون. إذا لم يكن هناك غوانتنامو هذا الاسم الذي يثير الكثير فإن عدم وجوده كان يعني أن الولاياتالمتحدة لم تختر الطريق السهل. وإذا لم يكن هناك غوانتنامو لكان واجباً على الولاياتالمتحدة أن تجابه القضايا التي تظل تؤرقنا قضايا مثل قدرة الدستور على التعامل مع أعداء القرن الواحد وعشرين، قوة أجهزتنا المخابراتية وضعفها، الارتياب في مَنْ هو العدو ومَنْ هو غير العدو. وإذا لم يكن هناك غوانتنامو، لكان واجباً على قادة البلاد أن يصوغوا سياساتٍ علنية من شأنها ألا تفضي بنا إلى حالةٍ من الفراغ القانوني الدائم الذي يقننه الكونغرس الآن ويؤيده الرئيس في شكل اعتقال غير محدد الأجل واعتقال عسكري لمتهمي الإرهاب الأجانب. وبدون غوانتنامو سيظل لدينا الكثير الذي يقلقنا مثل الحرب في العراق والأكاذيب التي حملتنا إلى هناك والخسائر التي تحدث في أفغانستان وتجاوز الحالة الأمنية إلى المناقشات الواقعية أو غيرها. ولكن لن تكون هناك علامة عارٍ فاضحة على الولاياتالمتحدة ولن تكون هناك إشارة لرغبة البلاد في السماح للأمن القومي بالمزايدة على حكم القانون، وبدون غوانتنامو لما كانت بوصلتنا الأخلاقية اختطفت عياناً. لقد ظل أوباما يستخدم غوانتنامو صندوق مالٍ خيري لمشاكل الأمن القومي الأكثر تحدياً حيث عمل على تكثيف دور السجن للقبض على الجميع بسبب ارتباك الحالة الأمنية التي أعقبت 11/9 وكأنَّ مقابل كل خلية يتم إخلاؤها من إنسان تملأ خلية أخرى بمشكلة: استخدام التعذيب عن طريق الإغراق بالماء واستخدام الشائعة، الرغبة في اعتقال الأشخاص لارتباطهم بمجموعة إرهابية، الحاجة إلى نظام عدالة ثانوي، لفت الانتباه السياسي بقطع وعدٍ للكونغرس فحواه أن أعداء الولاياتالمتحدة لن يُسمح لهم بالبقاء على أرض الولاياتالمتحدة. ولكننا إذا أغلقنا سجن غوانتنامو الآن صندوق باندورا الأخطاء الكثيرة التي أعقب 11/9 فإنه سينهي العهد كله وينهي معه السخط والإحباط وفقدان الثقة في الحكومة والمحاكم ذاك السخط الذي ظل باقياً لعقدٍ من الزمان. فالجهل بمَنْ الذي هناك وما الخطر الحقيقي الذي يشكِّله للولايات المتحدة سيختفي، وسينتهي بعض الإحباط الذي يسببه المشرِّعون القانونيون الذين يستغلون غوانتنامو للتذكير بأن الدولة محاطة بالتهديدات وبالتالي يُبقون على الخوف حياً، وسينتهي عجز المحاكم الأمريكية باعتبارها أمكنة باقية لرفع الدعاوى لمحاكمة قضايا الإرهاب. هل يمكن بإغلاق غوانتنامو حسم الفوضى القانونية والأخلاقية التي أطلقت لها العنان الحرب الدولية على الإرهاب أم أن إغلاقه سيكون مجرد معالجة أخرى فاشلة؟ فالإجابة تكمن في الكيفية التي يتم بها الإغلاق. لا يمكن إغلاق سجن غوانتنامو بهدوء فهو يجب أن يُقفل بإعلان واضح لحالات الصواب والخطأ بدلاً عن تلاشيه وتغطيته بحجج القيود السياسية والتعقيدات القانونية: فالاعتقال غير محدد الأجل خطأ وتجنب سلطة المحاكم خطأ والاستسلام للخوف حتى يسيطر هذا الخوف على القانون خطأ. أخيراً ولأن سجن غوانتنامو يعتبر مستودعاً لا للسجناء فقط بل لارتباك أمريكا فإن إغلاقه يجب أن يحدد لحظة من الوضوح والثقة الجديدة في بلادنا وفي حكم القانون، فأغلقوا سجن غوانتنامو تغلقوا صندوق الخطيئة القاضي بشن الحرب على الإرهاب بحيث يجعلنا إغلاق السجن أمة مثلها مثل الأمم الأخرى لا أمة استثنائية. إغلقوا الصندوق واقبروا عِلل العِقْد الماضي وأوصدوا الأبواب على حالة الفراغ القانوني والارتباك، وبهذا يمكن لحالة الاستثناء الحقيقية لأمريكا أن تزدهر مرة ثانية. * كارين جرينبرج هو مدير مركز الأمن القومي بجامعة فوردهام ومؤلف كتاب «المكان الأقل سوءاً: أول 100 يوم لسجن غوانتنامو».