نص الورقة التي قدمها د. عبد السلام نور الدين بمركز الخاتم عدلان للاستنارة. اليوم الاول: اذا تأكد بما لا يدع مجالا للشك ان فلان بن فلان قد اسلم الروح وينبغي نقل الخبر الأليم لأكثر الناس قربا للمتوفى : (اذا لم يك في تلك اللحظة الحاسمة مطلا علي سرير الموت) ثم تعطي الاشارة بعد مداولات قصيرة حاسمة حول الخطوات الاساس للمضي قدما في الاجراءات التي تعقب الوفاة للبواكي اللاتي لن يسمح لهن بغير العبرات والاجهاش بصوت منخفض متقطع اثناء خروج الروح ثم تأتي الاشارة الاخرى للنساء ان ينطلقن بكل ما أوتين من مهارات صوتية في النواح لينقلن الخبر الفاجع وليبلغ الحاضر الغائب لآذان العالمين ان فلانا قد مات يجذب صوت النواح القارح ذو الطابع الاعلامي ادنى واقصى الجارات وكل نساء الحي فيتقاطرن بأقصى ما يستطعن من توائب بعد ان تترك كل من سمعت النواح مابيدها من عمل لترتدي ثياب الضرورات التي تبيح لها خروجها دون مستلزمات الزينة و قد تتعمد ارتداء ثوب ينم عن تهالكها وجزعها لدى سماع الخبر الحزين اما اذا كانت قرابة عهد بفقد عزيز لها فان الاسى يبعث ازياء حدادها القديم وتضحي الهيئة المهملة التي خرجت بها تلك السيدة لتلبية البكاء الاستنفاري الاول شهادة معتمدة لا تنسى لها برهانا على ودها وولائها لعائلة المتوفى وسوف يرد لها ذلك الوفاء اضعافا في الوقت المناسب... لا تمضي اكثر من عشرين دقيقة على وجه التقريب على صرخات الاستنفار الثكلى الاولى حتى يتحول منزل المتوفى الذي سيطلق عليه بعدئذ «بيت البكاء» «بيت الفراش» «بيت العزاء» «الميتم» الى مبكى ساحة ممتدة للناعيات وتتخذ الدراما النفسية في المبكى psyechodrma كل تشكلاتها وتجلياتها المتطرفة من تمزيق الثياب وعرض لاثار المتوفى التي يشتهر بها بين الناس ومن تقطع الانفاس والتمرغ والتدحرج على التراب وحث الرمل والرماد على الشعر والاكتاف واغماءات مرض السكري وضغط الدم والانهيار الكامل للأعصاب مع الغيبوبة وتداعياتها ومتاهاتها ورغم كل ذلك لا يتدخل احد للتحكم في الموقف ولا تستدعي سيارات الاسعاف والنجدة ولا يقف كل هذا المشهد التراجيدي الغالت الذي يبدو جليا ان النساء في هذا المبكي قد اصبن بشيء من الصرع الجماعي ان تمضي اعمال تنظيف المنزل وتهيئته واعداده وترتيبه بدقة واتقان على نحو يليق بجلال الموت وبالمكانة الكريمة والعزيزة التي يحب ذوو المتوفى ان تكون اطارا لصورتهم التي يفضلون ان ينظر اليهم بها في الحي والمدينة والمجتمع واذا كان على نساء عائلة المتوفى ان يكن على قدر عال من اليقظة على مستوى التمهيد والتحضير والترتيب والتجهيز الفني لمفردات الجنازة وخروجها الى القبر والاشراف علي كل صغيرة وكبيرة تخص اعداد وتوفير وتقديم الطعام الذي يقوم عليه الجيران والاقارب من الدرجة الثانية وسكان الحي طوال ايام العزاء فعلي نفس النساء تقع كامل المسؤولية في انتاج واخراج وتوزيع وتسويق العرض الدرامي لمآتم ليكون الوجه الآخر لنفس العملة التي يتداولها الرجال منذ خروج الروح وحتى نهاية المأتم (رفع الفراش) في اليوم الثالث ينهض الرجال ابتداء من لحظة الصفر بارادة ذات طابع حديدي وباقصر الطرق والوقت بتقسيم العمل وتوزيعه على وحدات صغيرة تتولى مهام ما بعد اسلام الروح التي لا تقبل التأجيل او التردد او التلكؤ او انتظار امر او نصيحة من خارجها.. تباشر وحدات العمل المتعددة مهامها تحت الغطاء الكثيف العويل والمناحات المسترسلة والمتقطعة التي تنبعث من حوش المبكي وكأن وظيفة دراما البكاء في ساعة الوفاة الاولى ان تشد بمهارة الاسماع والانتباه بعيدا ليتسنى لوحدات العمل اللوجستية ان تنهض بالتزاماتها بكفاءة وصمت ودون ان يلحظها في غمرة الهرج والمرج احد. تنقسم الوحدات الى: 1- مجموعة الاعلام والاتصال والرصد والمعلومات والمواصلات. 2- مجموعة المحفظة. 3- تجهيز الجنازة والخروج بها وحملها. 4- اعداد القبر والدفن. 5- اعداد صيوان العزاء - هدم جدار الجيران لدى الضرورة، ترتيب المجالس والمقاعد ومبيت القادمين من الاقاليم. 6- الكشف. 7- شؤون الطعام والمشارب والاواني والمعدات بالتنسيق الكامل شبه السري مع جناح النساء. الجدير بالملاحظة ان حركة المجموعات المختلفة لا تبدو بينة لغير العين الفاحصة وقد تتألف الوحدة التي تتولى مهام الادارة من شخص واحد او اثنين لا تزيد عن ثلاثة افراد في كل الاحوال ويجري تنفيذ المهام تصاعدياً في وقت واحد سيما في الساعات الاولى الثلاث التي تلي الوفاة وينتهي طورها الاول الذي يتسم باعلى درجات التوتر والحركة حينما يعود الذين حملوا الجنازة الى مثواها الاخير من القبر. الإعلام والاتصال والرصد والمواصلات: اولى مهام هذه المجموعة ان تتحكم بانضباط المحترف الرصين ومنذ خروج روح المتوفى في مد جذور الاتصال بوحدة اخرى في جناح النساء وقد تتولى ادارة تلك الدفة اكثر النساء رشداً وعقلانية وانضباطا وقد تكون هي العمة او بنت العم او الجدة او زوجة العم او صديقة العائلة الموثوق بها ليتسنى لها ان تتحكم في التوقيت متى يبدأ اعلان الوفاة بكائياً ،اذ لا ينبغي كما تقتضي التقاليد النواح قبل اعداد وترتيب البيت من الداخل، المهمة المواكبة للاولى الاتصال بكبار قوم العائلة ووجوهها ورموزها غير الحاضرين حتى لا يكونوا آخر من يعلم يتزامن مع انفجار البكاء الاعلاني التواصل مع اصدقاء العائلة وذوي المقام من اولئك الذين يقعون في مرحلة وسطى بين الاصدقاء والمعارف ينبغي بعدئذ مباشرة نقل الخبر الى هنا ام درمان - قديما الهيئة القومية للاذاعة والتلفزيون حديثا - الصحافة والاعلان مدفوع الاجر اذا لزم الامر. يراعى دائماً ان يتم الاتصال مع اكثر اهل المتوفي قرابة سواء أكان داخل او خارج السودان وقبل ان يبلغهم خبر الوفاة عبر الاذاعة او الصحف والاصدقاء والمعارف اذا تم انجاز كل تلك المهام في الساعات الاولى من الوفاة انتقلت تلك المجموعة تلقائياً من عتبة الاعلان والاعلام الى الرصد الخفي لكل دقائق وقائع تفاصيل مجرى العزاء مثلاً اول من لبى نداء الوفاة من خارج العائلة والاسرة التراتب الزماني في وصول المعزين وحدانا وزرافات، لا يكتفي الرصد بالتسجيل غير المكتوب للحضور والغياب الخاص والعام ولكنه يمتد ايضا لرصد درجات التفاعل الوجداني للمعزين على كل المستويات ابتداءً من الاقارب والجيران سكان الحي الاصدقاء المعارف زملاء العمل ابناء البلد والقبيلة. حينما تنقضي ايام العزاء الثلاثة ويرفع الفراش تتداول المجموعات المختلفة المعلومات التي تجمعت اثناء العزاء ويتم النظر فيها بكثير من الحيدة التي تمليها التجربة وعلى ضوئها تعيد العائلة والاسرة حساباتها وتصوراتها لنفسها ومحيطها في الحاضر والمستقبل. 2- المحفظة: لما كانت نفقات بيت العزاء مفتوحة ولا بد من مقابلة كل المصروفات الجارية على مدى ثلاثة ايام دون عجز او تناقص في السيولة تخلق نظام منذ امد بعيد ما يمكن ان نطلق عليه المحفظة. تختار رئاسة عائلة المتوفي بالتشاور مع اكثر الاصدقاء والجيران التصاقا نخبة جد محدودة من ذوي الكفاءة والامانة والدراية ببواطن الصرف المالي في بيوت العزاء لتصب لديهم كل ما يمكن توفره من مال نقدي «قد يأتي الى المسؤولين من المحفظة من يعدون في السابق من الاباعد ويبذلون بسخاء مالا وفيرا وبذلك يدخلون عن جدارة انهم اقل بعدا» السيولة النقدية التي تتدفق من اثرياء العائلة والقائمين على صيانة صورتها وذوي الشهامة ومن اولئك الذين يتصرفون دائما بكياسة في مثل هذه الاحوال العصيبة فينساب المال بين اصابعهم ليست باية حال تبرعا او صدقة او شيئاً من ضروب العون الذاتي انها اقرب الى الحساب المفتوح لمشروع مؤقت له توجهاته ومرامي ومقاصد مبرمجة والمحفظة التي من اهدافها المباشرة والعاجلة.. أ- مواجهة نفقات تجهيز الجنازة من اقمشة وصابون وعطور وصندل وبخور. ب- مواجهة نفقات القبر من طوب وماء ومواصلات وآليات قد لا تتوفر لدى الجيران او في الحي. ج- مواجهة نفقات اقامة الصيوان وايجار البسط والسجاجيد والكراسي ومعدات الشاي والقهوة والثلج والمرطبات كل ذلك تخفيفا على نساء البيت من اعباء اعداد الطعام وادارة شؤون العزاء في الطرف الآخر الاكثر مشقة وتعقيداً. د- مواجهة نفقات الطعام والمشارب من لحوم وسكر وخبز وخضروات وفواكه وحلويات وعلى وجه خاص الذبائح اليومية على مدى ثلاثة ايام وما تسمى بالكرامة. ه - مواجهة نفقات الاعلام والمواصلات وشبكة الاتصالات في داخل السودان وخارجه. لا يحدث عادة ثمة تداخل او مزج او دمج بين نخبة المحفظة التي تباشر مهامها قبيل الوفاة حينما يتكشف لمن يهمهم الامر ان الروح في طريقها الى هجرة البدن وبين الجماعة التي تنهض بنهاية يوم العزاء الاول او بداية اليوم الثاني في موضوع الكشف الذي لا يتصدى له الاصدقاء والجيران والاباعد من الاقارب. قد اضحى الكشف المالي الذي يجري في خط موازي للمحفظة من اعراف المآتم الثابتة تعبيراً عن التضامن والتعاضد في العزاء لمساندة عائلة المتوفي في النفقات والتكاليف التي يقتضيها العزاء. لا يقتصر التضامن والتعاضد مع اسرة المتوفي على الكشف وحده اذ لا يتخلف الجيران عن توفير كل ما هو مطلوب من اواني وبسط وآليات هدم الجدار «الحيشان» بطيب خاطر ليكون بيت الجيران امتدادا في كل شيء لبيت العزاء. يتمثل الاختلاف الجوهري بين المحفظة والكشف ان الاخير يبين الشعبية التي تتمتع بها عائلة المتوفي في وسطها الجغرافي والاجتماعي اما المحفظة فتعكس التعاضد الداخلي للعائلة ووقوفها صفا واحدا في كل العوادي التي تلم بهم وليس من الضرورة ان يكون ثمة تطابق بين التلاحم القوي داخل العائلة «حيث تتوفر في المحفظة بعد سويعات من الوفاة ما يغطي نفقات بيت العزاء الاساسي منها والكماليات منها ثم يبقى الكثير من الفائض» وبين شعبية او عزلة عائلة المتوفي في محيطها السكاني كما يجسدها بما لا يقبل الشك او الدحض وفير الكشف او بؤسه الى حد الادقاع اذا كانت عائلة المتوفي وثيقة الاواصر بالجيران وسكان الحي تشارك بأريحية وسخاء في كل ما يعرض لهم من احن ومباهج.. يهب عادة المحيط الاجتماعي والوظيفي لنجدتهم والتلاحم معهم. وتضحى الوفاة اكثر من الاعراس والتوجهات السياسية والدينية الرمز المكثف للتسائد والتلاحم الاجتماعي ثم يأتي الكشف المالي لدعم ذلك التعاضد حينما يرفع الفراش وتجلس العائلة الاسرة لمراجعة وتقويم ما الم بها وتتدفق العيون في ارقام الكشف يتجلى لهم عما اذا كان وارد الكشف قد زاد واربى على مجمل محصلة المحفظة آنئذ يرد لكل من اسهم في تلك المحفظة على دائر المليم ما قد قدمه اما اذا تبقى ثمة نقد بعد كل ذلك فسيعود الى رئاسة الاسرة لمواجهة تداعيات الوفاة التي ستمتد الى امد غير قصير، اما اذا كانت عائلة المتوفي رغم تلاحمها الداخلي ووجاهتها المالية ومكانتها السياسية والدينية - لا تشارك محيطها السكاني في احزانهم عاملهم الناس بالمثل دون زيادة او نقصان ويأتي - الكشف - قليل المال والاسماء وتذهب المحفظة لسداد نفقات المآتم. 11- آلية الموت لإعادة أنتاج الحياة: انه اشبه ببيت نمل وخلية ومحفل عرس وتتويج لسلطان واستقبال ووداع الاحزان - هذا في عالم الرجال - اما في عالم النساء فهو لهادس جحيم العالم السفلى بيت اشباع وطقس لحبس وفصل وتعذيب لجنس النساء ومحفل لهستيريا مقدسة بموسيقى التشنج والنواح ومتحف متنقل لتآلف كل الاديان السماوية والارضية. اذا كان خبر فراق الروح للجسد يعني لاذن الثقافة السودانية التقليدية فناء كل العالم فان وظيفة النشاط الذي تفجر كعواصف الهبباى في بيت العزاء ان يعيد تخليق العالم من جديد ليعود السودانيون الى سابق منوالهم واسلوبهم في ادارة شؤون حياتهم بآلية البطء والتثاقل والتشاغل بالفرعيات والتقدم الى الخلف والدوران في حلقة المجالات والمناسبات الاجتماعية ،لانهم يدرون ان الدنيا ما فاتت كسلان وما لحقا 21- هل انجزت الآيديولوجية السودانية ما وعدت به: اذا كانت ساقية الحياة السودانية في الحواجز الكبرى لا تدور حول العمل المنتج والتنمية المتواصلة لليد والعقل والوجدان، ولكنها تدور برتابة حول العلاقات الاجتماعية وتداعياتها في الحياة والموت فلا عجب ان يبدو ايقاع الحياة السودانية بطيئاً تحكمها - المحركة.