(إلى عبيد ود الزين) مرةً أخرى على شوك الليالي الماطرة ينفلت القطارُ على ضلوع الذاكرة . أسكب نشيدك في وعاء الدائرة . .... هذا الأسى فوق التمرحل والوقوف أهبط برجلك واعتمر دفء المجامر في مدارات الصفوف حتماً نضئُ الجرحَ من شمع الظروف . كانت الأغصان تصدر أصواتاً مثل (الخشخشه) بفعل الريح ، ريح باردة تهدأ قليلاً ثم تعود تعربد في الأغصان ، تصفر في الآذان ، وتسري في مسام الجلد تشتل فيها خدراً بهيجاً . كانت ليلة ماطرة من ليالي سبتمبر ، فتحت السماء باب سيلها فحمل (لحافه) وهرول الى داخل الغرفة . وبعد توقف المطر بعد فترة حمل (لحافه) مرة أخرى وعاد الى سريره في (الحوش) وتمدد عليه ولا زالت بعض قطرات المطر تتساقط على وجهه فيشرق على اكتئاب روحه احساس جميل ومتوتر. - كم أكره النوم داخل الغرف تذكر رهق النوم في ليالي الشتاء داخل غرفة في (كرينتينه جيم) داخل أسوار ذلك المعتقل الشهير الكئيب ، شعر فجأة بغصة تمشي على حلقه مثل حشرة سامة ولكن طردتها بسرعة الريح الباردة ، توهج احساس روحه المفعم بحب المطر والفضاء الرحب . استعاد توتر روحه البهيج ، ودفع برجليه على (اللحاف) الى الأمام ، وعقد يديه على صدره وأغمض عينيه للحظات ثم فتحهما على السماء المظلمة الملبدة بالغيوم وهو يسترخي بجسده أكثر على اللحاف البارد . بعد أن توقف المطر تماماً أرخت الريح لايقاعها العنان ، وأصبحت الشجرة الكبيرة في فناء المنزل تدوزن أغصانها ، تفور مثل لُجة البحر ، تشرئب نحو السماء ، وتميل يمنة ويسرة في ايقاعات سريعة متنوعة مثل (غجرية) ترفض رقصة عاصفة. أحس بلسع الريح البارد على وجهه وجسده ، ولكن ذلك أطربه ، ولم يحاول أن يشد الغطاء حول جسده . مد يده تحت الوسادة وأخرج علبة السجائر «والزناد» ثم جلس من رقدته وأخرج سيجارة وحركها تحت أنفه ببطء وهو يشتنشق رائحة التبغ بتلذذ ومتعة جعلته يغمض عينيه للحظات ، ثم وضعها على فمه وغطى طرفها بكفه ليحمي شعلة (الزناد) من الريح ، حاول مرة وأخرى ولكن الريح كانت تخنق الشعلة ، وبعد أن استمات على المحاولة استطاع أن يشعل السيجارة أخيراً . أخذ نفساً عميقاً وهو يستشرف سحر التبغ يسري الى خلايا الروح والجسد . - اوف ... اوف ... واحد ... اتنين ... تلاته كان صوت (المايكروفون) يمزق استار السكون . تذكر أن هناك حفل زواج في الحي ... وقد توقف الغناء بعد هطول المطر ، لا بد أنهم يعيدون ترتيب الأوضاع من جديد في هذا الجو الصحو الرائع . تمدد على السرير من جديد ، أخذ نفساُ عميقاً من سيجارته حتى احدثت أنفاسه صوتاً وكأنه غريق ، يجاهد الأنفاس وسط لُجة البحر ، سرى التبغ الى دمه ، والهواء البارد يشقشق أذنيه الإثنين ، وأخذت دقات قلبه تتسارع ، وانتابه احساس عجيب ، مزيج من الحزن والنشوة ، رغبة عارمة في التحليق الى سحابة ذكرى ماطرة . سرح الى تجربة (المعتقل) الذي خرج منه قبل شهرين ، وعادت تلك الغصة من جديد تمشي على حلقه مثل حشرة سامة ، وقبل أن تستغرقه التجربة رفرف طيف سلوى فوقه ، عيناها الواسعتان الفصيحتان ، فمها القروي الباسم الخجول ، دفء حضورها ، بلاغة صمتها ، صبرها الخرافي على احتمال غيابه خلف الأسوار . لم تسأله يوماً لماذا ؟ وكيف ؟! بل لم تقل له في يوم من الأيام متى ينتهي كل ذلك . كانت صابرة وصامدة ، تبتسم في وجهه ابتسامتها الطيبة المشرقة في كل مرة تزوره فيها في المعتقل ، ثم وتطلق ضحكتها الفرحة البريئة وهي تراه في صحن بيته يشقشق للحرية ... و... - اوف ... اوف ... ون ... تو ... ثري ... ون .... تو ... ثري - لقد عاد صوت المايكرفون يزأر من جديد ولكن الأرقام هذه المرة يرددها صاحبها بصوت ثمل باللغة الإنجليزية - سيداتي ... آنساتي ... سادتي ...نحن ... وانتابت صاحب الصوت فجأة نوبة سعال ، استدرك بعدها ليعتذر لجمهور الحفل باللغة الإنجليزية أيضاً - ديبلي سوري Deeply Sorry ... عفواً سيداتي سادتي ... نحن في حضرة الفرح الوردي القسمات ، توقف المطر ، والجو صحو ، والليل لازال طفلاً يحبو ... و... ضحك لنفسه على ذكر الليل الطفل الذي يحبو ، ومنذ أن ارتاد أول حفل تفتحت عيناه عليه والليل لا زال الطفل الذي يحبو ، لازال يذكر زواج ابنة عمته منذ سنوات طويلة ، كان المؤذن يرفع صوته بآذان الفجر واحد شباب العائلة يعلن في (المايكرفون) ويؤكد بصوت ثمل (أن الليل لازال طفلاً يحبو) . شع فجأة البرق ، وومض للحظات وانتبه لقبة السماء التي لازالت ملبدة بالغيوم . استنشق بعمق النسيم البارد ، وزفر زفرة وكأنه يبث السماء لواعجه - سلوى الأن استقر الرأي على عقد القران ، شهر واحد ونكون تحت سقف واحد ، عدت الى عملي بعد اطلاق سراحي وسراح جميع المعتقلين في مناخ الإنفراج السياسي بعد المصالحة الوطنية ، لا أصدق أني .... - قصف الرعد بصورة خلعت قلبه ، وارتفع صوت جمهور الحفل وهم يصرخون فزعاً من صوت الرعد ، وانتبه لصوت عزف الفرقة الذي اختلط ببقية أصوات صراخ الجمهور . أرخى سمعه بتركيز للحن الأغنية ، للحظات ثم انتابه احساس بالرغبة في البكاء وهو يتبين أخيراً اللحن . كانت أغنية يغنيها أحد كبار الفنانين الشعبيين ، يحبها كثيراً ، وارتبط بها في فترات وجوده بالمعتقل . ولكن اللحن تعزفه الأوركسترا الآن . هل هو المطرب الشعبي أم أحد الذين يقلدونه ؟! وانطلق صوت أحد المقلدين الشباب بعذوبة شدت انتباه الليل . - ما تهتموا للأيام ... ظروف وتعدي ... طبيعة الدنيا ذي الموج تشيل وتودي . الله عليك أيها الشاعر الشفيف عوض جبريل ، أشعل سيجارة أخرى ولم يتمالك نفسه ... ياإلهي ... الجو الصحو ... واحساس الحرية ... ووجه سلوى وحضورها القوي ... وشجن الغناء العذب ... ولذة التبغ الفرجيني و... كان هناك صوت سيارة يتوقف أمام الباب ، وصوت أبواب السيارة تفتح وتغلق ، ثم لحظات ونقر خفيف على الباب . أخذ قلبه يخفق بعنف وصوت الفنان يعود ليردد مطلع الأغنية . - ما تهتموا للأيام ... ظروف وتعدي ... طبيعة الدنيا زي الموج تشيل وتودي . ارتفعت أكثر ضربات قلبه مع ارتفاع صوت الطرق على الباب . امتدت يده المتوترة الى الباب وفتحته . كان هناك ثلاثة أشخاص يقفون بالقرب من عربة (موتورها) يدور في صوت رتيب . والإضاءة الأمامية للعربة تسطع وكأن المشهد مشهداً مسرحياً ليس له علاقة بالواقع . تبين ملامح أحدهم ، لم تكن تلك المرة الأولى التي يطرق فيها باب منزله بعد منتصف الليل بادره الرجل بالتحية بصوت جاف . - السلام عليكم - وعليكم السلام وبعد لحظات صمت سأل بصوت متوجس - نعم ... إن شاءالله مافي عوجه - اعتقال تحفظي ... تعال معانا .