الكتاب الموسوم بالعنوان أعلاه من إصدارات سلسلة عالم المعرفة الكويتية (يناير 2012م) لمؤلفه الدكتور شاكر عبد الحميد أستاذ علم نفس الإبداع في أكاديمية الفنون المصرية ووزير الثقافة الحالي بجمهورية مصر العربية. يحتوي فهرس المحتويات على توطئة وتسعة فصول ، فضلاً عن الهوامش (359 صفحة). تضمنت التوطئة تعريفاً عاماً لمعنى «الغرابة» والتي جعلها المؤلف عنواناً لكتابه. وأبان أن الغرابة ضد الألفة ، فهي ? كما يرى- نوع من القلق المقيم، حاله بين الحياة والموت ، التباس بين الوعي وغياب الوعي، حضور خاص للماضي في الحاضر، وحضور خاص للآخر في الذات، قلق غير مستقر بين الزمان والمكان ، إقامة عند التخوم، تخوم الوعي والوجدان؛ إنها نوع من الخيال ، لكنه الخيال المرتبط بالخوف وإنعدام الأمن، إنها باختصار خيال الوحشة. ويكمن جوهر الغرابة في الحياة ، وفي الفن ، وفي الأدب في تلك العلاقة التي توجد بين الحياة والموت، وكذلك في آلية التكرار. والغرابة حياتيه وإبداعية. وقد تتجاوز الغرابة الحياتية فعلاً الغرابة الفنية والأدبية. والغرابة الأدبية-والفنية ? نوعان: غرابة غير المألوف ، وغرابة المألوف. وتطرق الفصل الأول لمعنى الغرابة لدى علماء اللغة والفلاسفة وإختصاصي علم النفس. ووفقاً لما جاء في قاموس أكسفورد الإنجليزي، فإن أول تسجيل للكلمة بمعنى «ليس آمناً كي تتم الثقة به» قد ظهر العام 1773م. وفي العام 1785م كانت الكلمة تعني «المكان الخطير وغير الآمن». كما حدد لويس بورخس أول ظهور لهذه الكلمة في القصة والرواية في عمل كتبه وليم بيكفورد يسمى «فاتك ? Vattek» : حيث جاء الحديث فيه عن ذلك «القوطي الشرقي الغريب» العام 1784م. وقد تكرر ظهور المصطلح مرات عديدة خلال القرن التاسع عشر لدى العديد من الكتاب. فلدى الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر «الغرابة» : تعني كل ما يدفعنا ويلقي بنا بعيداً عن بيوتنا، بعيداً عن عالمنا، بعيداً عن كل ما هو مألوف ومعتاد وآمن. أما عالم النفس المعروف سيجموند فرويد فيعرف «الغرابة» بأنها تشير إلى «الغريب الأجنبي» عن البلد. وفي الدراسات العربية القديمة والحديثة ، هناك إهتمام بغريب الألفاظ ، و «غريب القرآن الكريم» و «غريب الحديث». ولدى إبن منظور في «لسان العرب» : الغريب هو البعيد عن أرضه وعن ناسه. وقد قالت العرب «قذفته نوى غربة، أي بعيدة» وأصابه سهم غرّب ، أي لا يدري راميه، واغترب فلان : أي تزوج من غير أقاربه . وقالوا: وجه كمرآة الغريبة، لأنها في غير قومها. فمرآتها أبداً مجلوة : لأنها ناصح لها في وجهها. وقالوا : «وخد كمرآة الغريبة» ، والغريبة هنا هي المرأة التي لم تتزوج في قومها. فلا تجد من نساء الحي من يعنى بها، ويبين لها ما تحتاج إلى إصلاحه من عيب ونحوه؛ فهي محتاجة إلى مرآتها التي ترى فيها من ينكره من رآها، فمرآتها دائماً مجلوة. وأفرد الفصل الثاني للحديث عن «الغرابة والأدب» من خلال إيراد العديد من الأمثلة منها بعض روايات ? الكاتب المصري صنع الله إبراهيم مثل «تلك الرائحة» و «شرف» و «اللجنة» والتي تكمن الغرابة فيها من خلال التكرار والعدم والموت المحيط بكل شيء كان ينبغي أن يكون حياً ، ومن ثم فإن الموت لديه موت الروح قبل أن يكون موتاً للجسد. وهناك تجليات أخرى للغرابة نجدها لدى كتاب عرب وغربيين كثيرين، تحتاج إلى بسط القول فيها في حيز آخر. وخصص الفصل الثالث للغرابة وسرديات الخوف والظلام مبتدراً حديثه بإيراد مقولة الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت في خطابه الرئاسي الأول الذي قال فيه : «أن الشيء الوحيد الذي ينبغي أن نخاف منه هو الخوف نفسه!» . وتطرق المؤلف للخوف باعتباره أحد الانفعالات الأساسية الكبرى والتي تشتمل أيضاً على: السرور والغضب والحزن. ويشير الخوف بوجه عام إلى أخطار واقعية مدركة أو متخيلة. وأبان أن الدراسات النقدية حول أدب الخوف والظلام تظهر تمييزات مماثلة ، فمثلاً الناقد ديفيد بونتر ميز بين إنفعالي الذعر والرعب على أساس أن الذعر يشير إلى نوع من الرعدة التي تصيب عتبة الوعي ، إحساس بالترقب والإنتظار . أما الرعب فهو نوع من التحديق التام المتخشب كالأموات ، والذي يشّل الحركة ويذودنا بالصدمة والدهشة. وسرد الكاتب من خلال العديد من الأمثلة كيف أن العديد من الأعمال الأدبية المخيفة تشتمل على مزيج وتفاعل لانفعالات عدة ترتبط بالألم والخوف والمتعة المرتبطة بالرهبة والرعب والسرور والإلتباس الذي يحدث نتيجة للتأمل والإنغماس وفقدان الذات القارئة في الموضوع المقروء. وقدم الفصل الرابع عرضاً لتعريفات بعض المفكرين والعلماء للغرابة وتفكك الذات. وأشار على - على سبيل المثال ? إلى أن الذات ? في نظرية يونغ- هي نمط أولي أو نموذج بدائي من بين أنماط كثيرة، كالحياة والموت والليل والنهار والرجل والمرأة والجنة والجحيم. وتدل هذه الذات أيضاً على ذلك الكل المتكامل الذي يوحد بين العقل الشعوري والعقل اللاشعوري للشخص. وتتحقق الذات نتيجة لعملية التفرد، تلك العملية الدينامية التي تسعى دوماً إلى إنجاز التكامل والتميز في الشخصية. وتناول الفصل الخامس إزدواج الذات وانقسامها من خلال إيراد بعض النماذج ، نذكر منها مقطع من رواية «الحكاية الغريبة للدكتور جيكل والمستر هايد» للكاتب الإنجليزي روبرت لويس ستيفنسون ، يجسد من خلال ذلك الوعي بالإزدواج وانقسام الشخصية الذي كان لدى جيكل ذاته حيث يقول: «ولما بلغت من العمر سن الرشد، وطفقت أرقب ما حولي ، وأتملى مسيرتي ومكانتي في العالم، كنت محكوماً سلفاً بإزدواج عميق في الحياة . وكم من إنسان تدّرع من قبل اتقاء لمثل هذه المعاصي التي بت مذنباً بإقترانها: لكني من المنظور العام الذي رفعته نصب عيني ، تدبرت الأمور وأخفيتها، ولدي إحساس مرهق بالعار يكاد يجللني، ولهذا السبب، فإن الطبيعة الرهيبة لتطلعاتي ، أكثر من أي إنحطاط آخر في مثالبي ………الخ» . فكيف حدث الإختراق بين الشخصيتين؟. لقد حدث من خلال وصوله مصادفة إلى ذلك المركب الكيميائي الذي يحول الشخصية الخيرة إلى شريرة ، والشريرة إلى خيرة. أما موضوع الفصل السادس فهو «الغرابة والقرين» وأورد فيه المؤلف قصيدة غنائية موسيقية موجزة للموسيقي الشهير فرانز شوبرت بعنوان «القرين». يتذكر فيها العاشق ذلك المنزل الذي عاشت فيه محبوبته التي فقدها. وعندما يعاود زيارتها من خلال تجولاته الليلية ، يجد نفسه لا يزال واقفاً هناك، حيث يضئ نور القمر وجهه، ويجد ذاته الأخرى (القرين) تحاكي حركاته على نحو واضح، أي أنها تمظهرت على هيئة شبح لحالة داخلية تحدث انقساماً داخل الذات، وفي الوقت نفسه تحدث التكامل الخاص بهذه الذات، على الأقل أمام نفسها، من خلال هذا الإنقسام ذاته، بأن تبعد عن نفسها ذلك الجانب السلبي الغامض المخيف المرفوض منها، وتوسطه على صورة أخرى لها، هي القرين بعينه. وأبان في الفصل السابع: (روح هائمة في المكان) كيف أن الأعمال الأدبية العجائبية والغرائبية من خلال الحركة في المكان تجعل المرء يدور في متاهة لا يعرف خلالها متى يخرج، إنه يقع ويقع قارئه معه، أسير التكرار ، هنا قد يكون المكان واقعياً ثم أنه يصبح فجأة، أو تدريجياً غير واقعي ، مثلما عليه الحال في أعمال كافكاً مثلاً. هنا حركة من المكان الواقعي إلى المكان غير الواقعي. هنا الدخول إلى العالم الحلمي والكابوسي والغريب. هنا يحدث إختلال الشعور بالواقع وإختلال الشعور بالذات. ناقش الكاتب في الفصل الثامن الموسوم ب (نص واحد غريب) بعض الروايات القصيرة والقصص للكاتب الألماني الشهير إرنست هوفمان (1676-1822م). وقد اتسمت كتابات هوفمان بالقصص الخيالية وقصص الرعب. وضم هذا الفصل ترجمة لقصته «رجل الرمال» (التي نشرها هوفمان 1816م) التي تناولها عالم النفس الألماني إرنست ينتشل بالدراسة وأوضح علاقتها بعوامل مثل الاعتقاد بوجود الأشباح ، ظاهرة القرين والازدواج ، وغيرها. وقد إستفاد فرويد من أفكار ينتش، وبدأ كما لو كان مضطراً إلى أن يذكر ما قام به ينتش قبله، على مضض: لأنه كان يحب أن يكون الرائد والأول دائماً. وخُتم كتاب «الغرابة» بالفصل التاسع». «رؤى نقدية متعددة» لدراسات نقدية حديثة لبعض الأدباء والنقاد على القصة الطويلة المسماه «رجل الرمال» ، إضافة إلى قراءة سيجموند فرويد التحيليلة لها. وأوضح نفر من النقاد أن مقال فرويد عن قصة «رجل الرمال» تحاكي قصة هوفمان ، بما فيها من تردد وشك والتباس وتفكك وتداخل بين مستويات السرد، وربما كان ذلك راجعاً - في المقام الأول - إلى أن فرويد كان يرى نفسه داخل القصة، وإنه لم يستطع أن يبعد أو يستبعد نفسه عن ذلك السرد المنطقي الذي كان هوفمان يقدمه، أو عن نفوذه الساحر الذي هيمن من خلاله على أحد كبار مفكري القرن العشرين بواسطة شخصيات خيالية تنتمي إلى قرن قبله، انتابت عقله وسكنت مقاله. وسُطر الكتاب بلغة عربية قشيبة . ولا ريب أن محتوياته هامة للغاية للناقد وباحث علم النفس المتخصص وللقارئ العادي الشغوف بالأدب والنقد والجوانب السيكولوجية «الغرابة مثلاً» التي تعتور هذه الأجناس الإبداعية. 1- عميد كلية الآداب بجامعة بحري.