مع تقدم الزمن تندثر مهن وتبقى أخرى، فالتقدم قد يكون أحد عوامل اندثار تلك المهن التى كانت الى وقت قريب من اشهر الحرف فى الشارع السودانى، إلا أن المدنية قضت عليها، فهناك مهن اندثرت ولم يعد لها وجود سوى على صفحات كتب التراث، وأخرى قاربت على اللحاق بها بعد اختفاء محترفيها وضعف الاقبال عليها من قبل الزبائن. وهذه المهن رسمت ملامح مراحل تاريخية فى حياة الشعب السودانى والتطور الذى شهدته تلك الفترات، فمن السمكري إلى مبيض النحاس والداية مروراً بصانع الفوانيس والداية وحلاق القرية. العم عباس كودى تجاوز السبعين من العمر يعمل «مكوجي»، امتهن تلك المهنة وهو فى العاشرة من العمر، وتعلم اصولها على يد والده، وله معها ذكريات ستين عاماً جعلته لا يستطيع تركها او استخدام مكواة كهربائية، وقال انه بات يهوى هذه الحرفة التى تتطلب لياقة بدنية وقوة عضلية لكى يستطيع التحكم فى المكواة التى تزن عدة كيلوجرامات، بالاضافة الى كيفية ضبط درجة الحرارة لتتناسب مع انواع الملابس المختلفة. ويضيف العم عباس قائلاً إن الشباب ليست لديهم المقدرة على شقاء المكواة، فهى مهنه مرهقة للغاية، وهو ما جعلنى ادرك ان تلك المهنة سوف تنقرض من سجلات الحرف السودانية بعد وفاتى، لذلك رفضت تعلم ابنى هذه المهنة لانها باتت بلا مستقبل سوى سنوات معدودة، خاصة بعد انتشار الكى بالمكواة الكهربائية والبخار، وزمان كان الزبائن من طراز خاص يقتصر على المشايخ والافندية، اما الآن فيقتصر الأمر على كي ملابس بعض الجيران. وفى سوق ابو جهل وسوق ود عكيفة وهى اسواق تاريخية بالابيض، هناك مهن اخرى تأثرت بالتطور وقاربت على الاندثار منها «مبيض النحاس» ويعد العم محمود محمد أبرز العاملين بهذه المهنة، ويقول ان المهنة قاربت على الانقراض بعد ان احتل الالمونيوم والاستيل مكان النحاس، فقد كانت لتلك المهن شهرة قديماً، وينتشر العاملون بها فى كافة ربوع كردفان، ويطوف البعض منهم الحوارى والازقة لتبييض الأواني النحاسية، ويضيف أن تلك المهنة تعتمد على عناصر خطرة مثل ماء النار والقصدير والنار، اضافة الى الرمل، وهو ما يجعلها ذات مخاطر عالية لا تتناسب مع العائد منها، إضافةً الى ندرة الزبائن، كما ان بعض المواد الكيميائية التى تباع فى المحال التجارية اصبحت تقوم بهذ الدور بسهولة. ويضيف العم محمود أن النحاس كانت السيدات تتفاخر به بين جاراتها، وكان احد اهم مكونات جهاز العروس، وقد كانت له قيمة كبيرة داخل المجتمع، ويعد إحدى علامات الغنى والكرم، أما الآن فلا يوجد زبائن، وأظل جالساً فى دكانى استرجع زكريات الزمن الجميل. وبالقرب من العم محمود هناك دكان العم إبراهيم حسن الذى تجاوز السبعين من العمر، وبدأ حديثه معنا عن مهنته التى انقرضت قائلاً: كنت أنا وأولادى لا نهدأ من كثرة العمل، فمنذ نعومة اظافرى وانا امتهن هذه المهنة وهى صيانة بوابير الجاز التى كان لا غنى عنها داخل البيوت، اما الآن فالبتوجازات حلت محل «الوابور»، لكن مازال البعض يحتفظ به، والآن انتهت هذه الحرفة تماماً وقد كانت تملأ الازقة والحوارى، وكان صوت اصحاب المهنة يملأ الشوارع لإصلاح «بوابير الجاز» أما الآن فقد غابت تماماً. وعلى مقربة من دكان العم إبراهيم هناك دكان صالح السمكرى صانع الفوانيس التى كانت تستخدم فى اضاءة المنازل، وقد توارث المهنة عن اجداده، وكانت ذات شأن خلال القرن الماضى، وبعد التطور واستخدام الكهرباء ومولدات الكهرباء فى الريف تبدل الحال، واصبحت المهنة تصارع من أجل البقاء، خاصة بعد انتشار الفوانيس الصينية التى تضاء بواسطة النضائد، كما أن عدد الحرفيين قد اصبح قليلاً، ولا أحد الآن يقبل على هذه المهنة، وهو ما ساهم فى انقراضها. ومع انتشار أماكن الحلاقة بمختلف أشكالها اختفى الحلاق الذى كان يحمل شنطته ويجوب الاسواق والاحياء والقرى، وكذلك «الداية» فتلك المهنة قد قاربت على الاندثار بسبب الوعى الصحى والتقدم، ووجود المراكز الصحية فى أغلب بقاع كردفان.