ما بيدي أن أرفعكْ ولا بها أن أضعكْ أنت أليمٌ وأنا أحملُ آلامي معكْ وجائعٌ ومُهجتي جوَّعها من جوَّعكْ وأنت عارٍ وأنا ها أنذا عارٍ معكْ يا شعبيَ التائه ما أضيعني وأضيعكْ «الفيتوري» تمضي الأيّام والسنون، وها هي الذكرى السابعة والعشرون لانتفاضة أبريل المجيدة تهلُّ علينا بينما نمضي نحن إلى حزننا وفجيعتنا، حزننا على حلمٍ تلاشى وفجيعتنا فى وطنٍ رائعٍ أشبعه الحكام ودهاقنة القرار، منذ فجر الإستقلال، وعوداً وخذلاناً وحوَّلوا أحلام شعبه في الحياة الكريمة التي يستحقها إلى أضغاث عبر متوالية خرقاء من العجز والفشل والتعامل الخامل مع كلِّ القضايا حتى المصيري منها، استمدَّ العجز والفشل شرعيتهما من التكرار والأُلفة، وكل من زودناهم وأسلمناهم الأمر أعادونا حفاةً بعد أن أضاعوا منا حتى الخُفَّين، ما يزيد على خمسة عقود من عمر الوطن المنكوب ساد فيها خليطٌ من غشاوة الرؤية وانعطاب البوصلة والجمود والركون للمصادفة والإرتهان للمصالح الفورية الصغيرة في محورٍ بئيس يأتلف تلقائياً كلما شرعت الحياة في إنتاج شروط الوجود الكريم ،، يأتلف ليغتال هذه الشروط، لكنه سرعان ما يتنافر عند توزيع الكسب والغنيمة، تماماً كما حدث بعد الإستقلال وأكتوبر وأبريل، ثم يظل متمترساً خلف المأساة/الملهاة التي صنعها يوظف الصراع العبثي وأدواته لخدمة مصالحه الضيقة، لتدور الحلقة الشريرة بين ديمقراطية شكلية عرجاء وسُلطوية شُمولية بغيضة، مَنْ مِنَّا لا يغمر الحزن قلبه وروحه وهو يعيش هذه اللحظة الهزائمية، ويستذكر تلك الأيّام الوضيئة من مارس/أبريل 1985، لم يكن حدثاً عفوياً عابراً ما وقع في تلك الأيّام، وإنما كان ثمرة تراكم نوعي وكمي للمقاومة الباسلة ضد نظام مايو، كان المشهد أُسطورياً لشعبٍ يصنع مجداً ويكتب تاريخاً و»يشرئب إلى السماء لينتقي صدر النجوم»، بعد أن امتلكت مجموعة من مؤسساته المدنية زمام المبادرة عبر تخطيطٍ وإعدادٍ مُحكمَين لتحويل الغضب الشعبي المكظوم إلى فعل سياسي مباشر في مواجهة الشرعية الزائفة والفساد والإستبداد والإحتقان السياسي والإقتصادي والحقوقي والتنمية المُعاقة والدستور القاصر والقوانين القمعية والحاكم الفرد والحزب الواحد، لتتوالى الأحداث عاصفة بشكل دراماتيكي متواتر ومنطقي في الوقت نفسه، فهي إرادة الشعب وكفى ،، جموعٌ من الرجال والنساء - شيباً وشباباً - تخرج إلى الشوارع في أعدادٍ تسدُّ عين الشمس، تواجه آلة القمع بالصدور المكشوفة وقبضات الأيدي العارية وملءُ الأفواه هتافٌ نبيل يُعبِّر عن توقٍ إلى الحرية وإلى وطنٍ تسود فيه المساواة والعدالة والسلام والرخاء واحترام حقوق الإنسان وكل شروط الوجود الكريم، تتصدى الأجهزة الأمنية للثوار العزّل بالرصاص الحي والهرّاوت والعصيِّ الكهربائية والغاز المسيل للدموع، يسقط شهداء وجرحى وتضيق السجون بالمعتقلين، فيزداد الثوار عدداً وصموداً وتصميماً وتوحداً حول هدفهم، بينما أجهزة الإعلام الحكومية تختزل الحراك الجماهيري غير المسبوق في مجرد «غوغاء ومتسكعين وفلول أحزاب عقائدية يُحدثون بعض الشغب والتخريب»، وسط هذه الأجواء وفي ظلِّ المراقبة والملاحقة الأمنية، ينجح قادة التجمع النقابي في عقد إجتماعات يومية متنقلة من موقعٍ لآخر يواصلون فيها الرصد والتحليل والتنسيق ويعرضون مسودة الميثاق على ممثلي الأحزاب السياسية للإتفاق النهائي عليه ويصدرون بيانات التعبئة استعداداً لإعلان الإضراب العام والعصيان المدني، سلاح الشعب الحاسم والمجرب، وهو ما تمّ مع فوران التنور في شارع القصر صباح الثالث من أبريل لينكسر القيد وينجلي الليل وتظهر نجمة الحرية، تلك النجمة اليتيمة في مجرة الدم والدموع، فضلاً عن إعجازيتها وعظمتها ونُبلها وبرغم الحزن الذي يغمر القلوب والأرواح على إجهاضها، تظلُّ ذكرى الإنتفاضة بلسماً ضد كلِّ أشكال العجز واليأس والتردد وبؤس الثرثرة والتنظير وتظلُّ نبراساً وزاداً لكلِّ الذين يؤمنون أن جذوة الحق والحرية لا تنطفيء وإن تراكم عليها الرماد. دعونا، في عزِّ الهزيمة، نحتفل بانتصارنا على اليأس وشلل الروح، فما يهجع زمناً تحت الرماد لا بد أن يومض في لحظةٍ ما.