شيطان التفاصيل لم يهزم اتفاق نيفاشا فحسب، بل أحاله الى كارثة ودفعت البلاد ثمنه اذ اقتطعت مساحتها وسكانها ونقصا في الأنفس والأموال والثمرات،ورغم ذلك اندلعت الحرب وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا،واشتعلت الأوضاع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الازرق بوتيرة لم تشهدها مرحلة الحرب الأهلية، فازداد النزيف الوطني،وصارت المواجهات بالأصالة تارة وبالوكالة تارة أخرى. مأساة نأمل أن تتصافى النفوس وتتوحد الارادة لطي صفحتها سريعا فما عاد المواطن يحتمل مزيدا من المتاعب النفسية والأعباء الاقتصادية والمعيشية. ويبدو أن المواطن صار محروما حتى من الاخبار السعيدة التي تعطيه أملا وضوءا ولو في آخر النفق نحو غد أفضل،فبعد حرب الجنوب،وقضية أبيي المجمدة،والولايتين المتوترتين ،ما تزال دارفور في وضع مستقر نسبيا مقارنة بالأعوام السابقة،لكنه هش وقابل للتراجع والانتكاسة، بل والتفجر كما يجري حاليا في ولاية جنوب دارفور وجزء من شرقها . وبعد تشييع اتفاق ابوجا، كان المأمول أن يحقق اتفاق الدوحة خطوات عملية تنقل دارفور الى وضع جديد لتطبيع الحياة العامة ،غير أن رئيس السلطة الانتقالية الدكتور التجاني السيسي يبدو متشائما فقال أمام البرلمان أمس ان تلكؤ الحكومة في الايفاء بتعهداتها في صندوق اعمار دارفور ( 200 مليون دولار)، والتباطؤ في تنفيذ الترتيبات الامنية يجعلان اتفاق الدوحة في مهب الريح،ويرى السيسي الاتفاق ليس مثاليا ولكن البديل قاتم ومخيف، ويرمي حجرا صغيرا في البركة عندما قال إن نقص المال يعطل انطلاقة السلطة الانتقالية..إنه أمر جد خطير حذرنا منه في أول أسبوع من توقيع اتفاق الدوحة حيث إن الظروف الدولية والمحلية ليست مواتية للحصول على تمويل للمشروعات،وبلغت الأوضاع مرحلة صار حتى تسيير السلطة الانتقالية ليس ميسورا. أدركوا اتفاق الدوحة ،فهو على المحك ومصداقية الشركاء الجدد وهما حزب المؤتمر الوطني و"حركة التحرير والعدالة" محل اختبار حقيقي،فإما ان يتعاونا لتغيير الأوضاع في دارفور ،أو يستعدا لصيف ساخن وخيارات معقدة ومفتوحة ،وبالطبع لن تكون سعيدة.! وحديث السيسي عن الغذاء في ولايات دارفور أكثر خطورة من مستقبل اتفاق الدوحة، حيث حذر من أن الأوضاع هناك تنذر بفجوة غذائية حادة، وقد تصبح كارثية إذا لم يتم تداركها، ويزيد الوضع تعقيدا ضعف الانتاج في ولاية القضارف وخروج ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق من الموسم الزراعي لظروفهما الأمنية،وشح الأمطار في شمال كردفان التي تعاني هي الأخرى من فجوة تطال نحو 40% من سكانها. وكشفت تقارير حديثة عن ولايات دارفور الأسبوع الماضي عن نقص كبير في المواد الغذائية ، تأثرت به معكسرات النازحين خصوصا أن المنظمات قلصت ما تقدمه بنسبة 50%، ما أدي الى ارتفاع أسعار الذرة والدخن بشكل كبير جعلها بعيدة عن متناول يد الموطن، وتفشت حالات سوء تغذية في بعض المعسكرات،وقد تطابقت مسوحات قامت بها جهات وطنية مع تقرير منظمة الزراعة والاغذية العالمية الفاو" في هذا الشأن. وما تشهده دارفور، تعانيه ولاية شمال كردفان بسبب التغيرات المناخية ما أدى لتذبذب الأمطار، بالإضافة للآفات الزراعية وقلة الأيدي العاملة التي هجرت الزراعة لتعدين الذهب في شمال الولاية التي لم تنتج محصولات تكفي نفسها من الحبوب نحو ثلاثة عقود. ولا يزال أمام المواطن ستة أشهر على الأقل حتى يبدأ انتاج الموسم الزراعي الجديد في حال هطول أمطار بمعدلات جيدة،مما يتطلب تدخلاً عاجلاً لاحتواء آثار نقص الغذاء قبل تفاقم الأزمة، عبر طرح كميات من المخزون الاستراتيجي في الأسواق بأسعار مدعومة لاحتواء تصاعد الأسعار، وتفعيل برنامج الغذاء من أجل العمل بالتعاون مع المنظمات العاملة في هذا الاتجاه، وتحريك ديوان الزكاة لتوفير الغذاء للفقراء والمساكين مع اتساق هذه الشريحة التي لا تسطيع شراء الذرة بالسعر الحالي. أهلنا في كردفان،وأهلك في دارفور يا وزير المالية لحسن الحظ، يعتمدون في غذائهم على الكسرة والعصيدة، أي يحتاجون الى الذرة والدخن ولديهم اللحم وإن استعصم بالبعد عن سكان المدن،فلا تنسوهم ولا تتجاهلوهم،وان رفضوا استغلال المتاجرة بقضيتهم تحت شعار "التهميش" فإنهم ظلوا متقشفين يشدون الأحزمة على بطونهم الخاوية حتى لم تعد الأحزمة تجد ما تشده،وظلت أياديهم ممتدة ترفد الخزينة العامة بعائدات المحاصيل النقدية والثروة الحيوانية.