إن أوبة هجليج إلى حضن الوطن الحبيب بعد غيبة امتدت لعشرة أيام يجب ألا تختزل دلالاتها فقط في قدرات قواتنا المسلحة العالية المطمئنة، وشجاعة أبنائها الأشاوس، والتفاف شعب السودان المعلم بكافة أطيافه وميوله ومناحيه حول قيادته، وتوحده بصلابة متى تعلق الأمر بتراب الوطن الغالي وكرامة شعبه الأبي. لقد قدمت قواتنا المسلحة عبر ملحمة هجليج من الدروس العسكرية ما يمكن أن يضمن في مناهج أرقى الكليات العسكرية والمخابراتية العالمية، وذلك من خلال انتهاجها لتكتيكات ذكية كان نتاجها إنهاء المعارك العسكرية في هجليج لصالحها في وقت قياسي، مع تكبيدها العدو خسائر بالغة الفداحة مقابل خسائر قليلة في الأرواح والعتاد. وبنفس القدر أكد شعبنا السوداني أنه معلم بحق وحقيقة، حيث قدم أبناؤه كعادتهم دروساً قيمة في الوطنية وحب الوطن، فدفعوا أبنائهم إلى الخطوط الأمامية للقتال، واقتطعوا من قوتهم لتزويد المقاتلين بكل ما تطلبه دحر العدوان وجعله أمراً مقضياً. لقد ثبت تماماً أن سلسلة التحركات المشبوهة من زيارات وتصريحات التي كان يقوم بها الحاقد الماكر الشرير باقان أموم وتابعوه من صفوة دينكا نقوك النافذين في الحركة الشعبية تحت ستار التفاوض مع السودان حول المواضيع العالقة، لم تعد أن تكون أكثر من مجرد غطاء لإزاغة الأبصار عن خطة تهدف إلى الزج بالسودان في فوضى عارمة وضائقة اقتصادية تلهي المواطنين عن الالتفات إلى الدفاع عن قيمهم الحيوية العليا، ومن بعد ذلك يتأتى لهم فرض ما يسمونه السودان الجديد، وذلك عبر تمكين حاملي السلاح في النيل الأزرق وجنوب كردفان ومتمردي دارفور من السيطرة على البلاد. ويبدو أن إلغاء زيارة الرئيس التي كان يزمع القيام بها إلى جوبا بسبب الغزو الأول المندحر لهجليج، قد هدمت الركن السياسي الرئيس لتلك الخطة التي كانت تتطلب اعتقال الرئيس لإدخال البلاد في صدمة سياسية تتطلب الكثير من الوقت لامتصاصها، وفي أثنائها يمكن أن تعم الفوضى، مما يسهل تمرير المخططات الخبيثة بمساعدة بعض القوى الخارجية على المستويين الإقليمي والعالمي، وفي الوقت نفسه يتم احتلال هجليج للف الحبل قوياً حول عنق الاقتصاد السوداني بالتزامن مع فتح جبهات قتال شرس في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، وتحريك المواطنين في المدن الكبرى بحجة الضائقة المعيشية، ومن ثم يفقد النظام قدرته على بسط سلطته على البلاد فيسقط، ويكون ذلك السقوط نقطة البداية لتنفيذ حلم زعيمهم جون قرنق بإعادة صياغة نهج الحكم في السودان، بحيث تكون المليون ميل مربع تحت حكم أهل الهامش كشاكلتهم والمتمردين من أبناء جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور. وأحسب أن مخطط اعتقال الرئيس بجوبا أصبح الآن واضحاً بيِّناً، ولم تعد مسألة تأكيد إمكانية حدوثه في حالة أن تمت الزيارة حسبما كان مخططاً لها تحتاج إلى أدنى قدر من الذكاء. فالسلام الحقيقي كما تأكد للجميع الآن لم يكن في يوم من الأيام غاية وهدفاً للحركة الشعبية، بل ونستطيع القول إن اتفاقية السلام نفسها كانت في نظرهم وسيلةً لتقويض نظام الحكم في البلاد والانقضاض على السودان بأكمله. ونحمد الله كثيراً أن تلك الزيارة لم تتم حسبما كان مخططاً لها. ولكن يبدو أن بعض المتآمرين من قيادات الحركة آثروا أن يستمروا في مخططهم عبر تنفيذ الشق الخاص بوقف إمدادات البترول لخنق الاقتصاد السوداني، وذلك عبر تحريك جحافل من مقاتلي الحركة الشعبية وأحدث آلياتها، وذلك بالتزامن مع فتح جبهات قتال شرس مع القوات المسلحة في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، هادفين من ذلك لخلق مواقع متقدمة لقوات الحركة قطاع الشمال ومتمردي دارفور باعتبار ذلك خطوة مقبولة في سبيل تحقيق ما يسمونه السودان الجديد، وفي الوقت نفسه تحسين موقفهم التفاوضي بخصوص القضايا العالقة عبر احتلالهم هجليج وإضعاف قواتنا المسلحة عبر فتح العديد من الجبهات في المواقع المهمة، حتى لا تتمكن من استردادها والاستفادة منها لفتح مزيدٍ من الجبهات مع السودان. وفي اعتقادي أنه بنظرة سريعة إلى تاريخ علاقات طرفي السلام من قبل التوقيع على اتفاقية السلام الشامل والى ما بعد توقيعها وحتى الانفصال، يمكن الخلوص إلى أن الحركة الشعبية طيلة هذه الفترات لم يقيض لها الله التخلص من عدائها لشمال السودان وأهل شمال السودان، وإنما فقط بدلت لبوس العداء بآخر خداع، وغيرت تكتيكاته بحيث يظهرها للعالم بمظهر الحريص على السلام وأهل الشمال على غير ذلك، عبر مفردات فضفاضة وهلامية كالوحدة الجاذبة. لذلك فإن اتخاذ مشرعينا لذلك القرار الذي يقضي باتخاذ الجنوب الذي تحكمه الحركة الشعبية عدواً لأهل السودان هو عين الصواب والحق. والحقيقة البديهية لكل متابع لمسار العلاقات بين دولة جنوب السودان والسودان تتمثل في أن تحقيق السلام يمكن له أن يتم في حالات ثلاث فقط: أولاها أن تتخلى الحركة الشعبية عن فكرة السودان الجديد حسب مفهوم جون قرنق، وثانيها إقامة السودان الجديد عبر إزاحة نظام الحكم القائم الآن، وثالثها تفكيك قبضة الحركة الشعبية على الحكم في جنوب السودان. وفي ظني أن الحالة الأولى يصعب تحقيقها إذ لا أعتقد أن الحركة سوف تقبل تغيير اسمها من الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى اسم آخر، على الرغم من أن هذا الاسم لوحده يكفي أن يكون شاهداً لعدائها على السودان. وحقيقة هناك شواهد كثيرة على ما تضمره الحركة الشعبية لشمال السودان وأهله، وعلى سبيل المثال وليس الحصر يتخذ تلفزيون جنوب السودان خريطة السودان بحدود ما قبل الانفصال شعاراً لنشرة أخباره، وكذلك تسمية الدولة الوليدة بجنوب السودان. كذلك فإن مسألة فرض قيام ما يسمى السودان الجديد وتمكين فئة من عبر قوة الحديد والنار من حكم البلاد أمر لا أحسب أنه يروق حتى لغالبية من يطلقون عليهم لفظ مهمشين، ولا أحسب أن شعباً في مستوى ثقافة السودانيين ورقيهم ووعيهم السياسي العالي يمكن أن يقبل بهكذا أساليب صفتها الهمجية والتخلف بأن تكون وسيلة لاختيار حكامه الذين يرغب في أن يسيروا شؤونه الحياتية. وهكذا يبقى هنالك خيار وحيد لجلب السلام والاستقرار لشقي البلاد، وهو ذهاب الحركة الشعبية عن حكم دولة الجنوب غير مأسوف عليها لا سيما أنها فشلت في أن تعي مسؤوليتها القاضية بوضع الركائز الأساسية التي يتطلبها بناء أية دولة جديدة من بنيات أساسية وتقديم خدمات العلاج والتعليم لمواطنيها ووضع الخطط لتحقيق التنمية المستدامة، وبدلاً من ذلك آثرت أن توجه نصف ثروات دولتها الوليدة إلى جيوب مسؤوليها والنصف الآخر إلى شراء السلاح لمحاربة أكبر جارة لها دون سبب يمكن أن يكون مقنعاً لمواطنيها الذين ازدادت معانتهم أكثر مما كانوا عليه أيام الحرب، حيث كانوا كانوا ينعمون بكافة الخدمات في أماكن نزوحهم ولجوئهم بصورة لا تتوفر لهم الآن في دولتهم التي تتمتع بكافة الموارد والثروات الطبيعية، إذن فإن ذهاب الحركة الشعبية عن حكم الجنوب يعني بسط السلام والاستقرار في أرجاء البلدين ورفاهية مواطنيه.