إن الناظر الى الأمم من حولنا أوربية كانت، آسيوية، او حتى عربية ، يجد كيف انها علمت أن إرث المعارك التي خاضتها جيوشها في العصر الحديث على مختلف الجبهات إنما هي كنز تستنهض به الأمة عند الضرورة لتصل بتعبئتها عند الملمات الى الحد الأقصى، فقط حين تحسن حكومات هذه الدول استغلال هذا الارث استغلالا صحيحا»...ولعل احد صور هذا التطويع هو المناهج الدراسية التي تحتوي على شرح تفصيلي و «ممل» أحيانا للطالب وهو يقرأ عن معارك خاضها جيش بلده في عصرها الحديث او القديم ، فيقرأ الطالب ليصل في آخر عامه الدراسي الى خلاصة تقول ب «مالي ومال هذا الحشو..انا اعيش لزماني وقد عاش غيري في زمنه»، وربما في كثير من الأحيان لاتجد طالبا يقول لك بأني «أي هو» قد تأثرث بالبطل فلان أو الخطة العسكرية للمعركة العلانية ولربما نسي ما قرأه وساهر عليه بمجرد وضعه القلم مع نهاية امتحان المادة سواء كانت «تأريخ، تربية وطنية، أو تربية عسكرية « سمها ماشئت. ولكن ..ودائما هنالك «لكن»، رأيت ان بعض الدول احسنت استخدام إرث جيشها في بعض معاركه الخالدة في العصر الحديث للتأثير على مواطنيها وتعبئتهم للمجهود الحربي متى مادعت الضرورة الى ذلك عن طريق السينما، ولعل الولاياتالمتحدة هي السباقة في هذا التطويع، فكم عدد الأفلام التي انتجتها هوليوود عن الحرب الامريكية في فيتنام وهي تحكي اصرار وعزيمة وشجاعة و نزاهة و انسانية الجندي الامريكي «طبعا بحسب وجهة النظر الامريكية، لأن معظم العالم قد يأتي بمتضادات كلمات هذه الاوصاف الجميلة للجندي الامريكي» ولكن الشاهد في الامر هو كيف تستخدم السينما في التأثير على الرأي العام في بلدك أو حتى في العالم عن «جيشك وجنديك»، ففلم امريكي يروي قصة حقيقية مثل فلم»كنا جنودا we were soldiers « الذي قام بأداء دور البطولة فيه الممثل الامريكي «ميل غيبسون» في دور الكولونيل «هال مور» العقيد والحاصل على الماجستير من جامعة هارفارد وهو يقود سرية من الجيش في معارك طاحنة بفيتنام الشمالية الشيوعية «بحسب الاعلام الامريكي» لهو تقدير كبير من الحكومة الامريكية وهوليوود لهذا الضابط وهؤلاء الجنود وهم يخوضون معاركهم المباركة «بحسب وجهة النظر الامريكية» ضد المد الشيوعي الصيني في فيتنام. وكذلك فلم save the private Ryan والمروي هو ايضا عن قصة حقيقة لأم تفجع في عدد من ابنائها الجنود موتى في الحرب العالمية الثانية فيقوم الجيش الامريكي بإرسال فريق خاص لأبنها الاخير والوحيد و الجندي ايضا في الجيش لاعادته لأمه سالما...هذا الفلم بالرغم من قصته الرائعة فقد تعرض ايضا الى دور الجيش الامريكي في تحرير النورماندي الفرنسية من الاحتلال النازي وذلك بتصوير مبدع للمعارك تجعل المشاهد يعيش جو الحرب التي خاضها الجنود حينها وانتصاراتهم وخسائرهم وفرحهم وبكائهم وذلك الخليط غير المفهوم والمتشابك من المشاعر التي تنتاب الجندي اثناء المعركة والتي تنتاب المشاهد «وفي هذه الحالة الرأي العام» اثناء مشاهدته انتصارات جيش بلده في قالب درامي لايتعدى زمنه الساعتين. ولكن اذا ذهبنا الى الشرق «منا» والغرب «بالنسبة للولايات المتحدة» نجد أن دولة مثل كوريا الجنوبية قامت بعمل غاية في الإبداع عندما خلدت احدى المعارك التي كانت مفصلية في حربها مع كوريا الشمالية في العام 1950 والتي كان ابطالها 71 طالبا من طلاب مدرسة قاموا بتأخير تقدم جحافل من القوات الكورية الشمالية بأوامر من الجيش الكوري الجنوبي مما ادى لقلب ميزان الغلبة في الحرب لصالح كوريا الجنوبية بالرغم من فقدان كل الطلاب المدافعين تقريبا لأرواحهم ، كل ذلك في فلم - 71-into the fire- ذو التصوير والأخراج الرائع والممتع ويبدو ان الفلم ممنتج ومخرج محليا وباللغة الكورية ، الا أنه نافس هوليوود في التصوير والإخراج الممتع للمعارك. مثل هكذا فلم والذي يحكي قصة حقيقية تمجد الطلاب والجيش معا ، يلاحظ فيه الحياد الذي تم الباسه للطلاب من الانتماءلأي حزب او طائفة كان واضحا، كيف لا ومثل هذه الأفلام يقصد منها استنهاض الهمم عند الملمات في الشعب كافة بدون نظر الى طائفة او عرق او دين، فالولاء عند الحروب للوطن..والوطن فقط. أما الحديث عن عديد الافلام المصرية التي تمجد حرب القوات المسلحة المصرية ضد عدوها وعدو الامة الاسلامية اللدود «الكيان الصهيوني اللقيط» كحرب اكتوبر «حرب يوم كيبور بحسب الرواية الاسرائيلية» او مايعرف ايضا بحرب رمضان والذي يعكس بطولة الجندي المصري «بالرغم من عدم التركيز على دور القوى العربية الأخرى في الحرب» الا أن الآلة الاعلامية المصرية نجحت في تسويق انتصارها في حرب أكتوبر وفي عمليات نوعية قام بها الجيش المصري كما تم عكسه في فيلم «الطريق الى ايلات» والملاحظ في هذه الافلام سواء كانت المصرية او الامريكية يجد أنها تركز بشكل اساسي على «قومية» الجنود والضباط وحتى القاعدة الشعبية الداعمة للحرب بدون التطرق الى الإشارة بشكل سافر الى الاختلافات العقدية أو العرقية فيها لتضمن بذلك التأثير الإيجابي المرجو على جميع مواطني الدولة عند استنفارهم في الحروب. غير أن الملاحظ أن للتصوير والإخراج دوره في جعل المشاهد في قلب الحدث وبالتالي ضمان استيعاب جل مايشاهده بسبب بعد الفلم عن الرتابة والملل والذي يصرف تركيز المشاهد عن الفلم وأحداثه. هذه المقدمة السريعة قصدت منها أن أوجه الأنظار الى تراث القوات المسلحة السودانية الضائع منذ الحرب العالمية الثانية وهي حينها جزء من قوات الحلفاء في مواجهة المحور بمسماها القديم «قوة دفاع السودان»..ومعارك مثل معركة كرن ضد الطليان في ارتريا والتي ابلى فيها الجندي السوداني بلاء حسنا وجب ان تخلد في ذاكرة التأريخ بفلم سينمائي جيد السيناريو والاخراج يجعل الأمة تفتخر بأجدادها المقاتلين سيما وأن بعض الجنود الذين شاركوا في قوة دفاع السودان مع الحلفاء لازالوا احياء يرزقون وبذاكرة قوية بالرغم من تقدم اعمارهم وهزال اجسادهم. و دور القوات المسلحة الباسلة «قوات المظلات» بقيادة اللواء حينها مصطفى الزين صغيرون في تأمين العاصمة اللبنانية بيروت في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي اثناء الهدنة بين الفصائل اللبنانية المتحاربة إبان الحرب الاهلية اللبنانية. هذا التأمين الذي اشاد به القاصي والداني يصلح لإنتاج فلم سينمائي يعكس شجاعة ضباط وضباط صف وجنود قوات المظلات وهم يزجون انفسهم في اتون حرب أهلية ويضربون مثلا رائعا للجندي السوداني المقاتل. وغير هكذا امثلة كثير. أما وقد اصبح الجنوب دولة، وأن الحركة الشعبية لتحرير السودان اثناء الحرب يعرف أي طفل انها كانت مدعومة من دول لاتريد الاستقرار للسودان مثل بعض دول الجوار الافريقي واسرائيل والكثير من المنظمات الامريكية واليهودية المشبوهة، فإن انتاج افلام سينمائية تمجد بطولات «القوات المسلحة» في جنوب السودان ذات سيناريو وتصوير واخراج عالي «حتى لو اضطررنا الى الاستعانة بالأجنبي « ولكن من دون التطرق الى قطاعات تتبنى نهجا عقديا او فكريا معينا كمجاهدين او يساريين ماركسيين او مسيحيين والتي من المستحسن تلغى هذه الاختلافات في هكذا فلم، او يتم التطرق اليها ولأدوارها في حماية الوطن بصورة متساوية في الفلم، فسلسلة الحلقات المشهورة «في ساحات الفداء» كانت جيدة الاعداد والتقديم الا انها اهملت تماما الدور المحترم للقوات المسلحة في حرب الجنوب مقابل التسويق لفكر الانقاذ الاسلامي، لذلك نجد انها ضمنيا استبعدت فئة كبيرة من الشباب السوداني ربما تماشيا مع مقولة جورج دبليو بوش الحديثة بعد احداث ايلول/سبتمبر 2001 «اما ان تكون معنا أو مع الارهاب» طبعا مع اختلاف الصياغة والمنطلق الفكري. لذلك فالمعارك التي قد يكتب على الامة السودانية خوضها لن تستطيع ببرنامج مثل «في ساحات الفداء» ان تستنفر الكثير من الشباب ذوي التوجهات القومية كالناصريين والبعثيين وشباب اليسار الشيوعي فقط لأن منطلقهم الفكري مختلف «بالرغم من ان معظمهم تجدهم في المساجد قبل من ينتمون او يدعون الانتماء الى تيار الاسلام السياسي». وبالرغم من انهم قد يبلون في المعارك بلاء حسنا ..ففي النهاية الوطن يريد جنودا يدافعون عنه..جندي شاب متطوع يحمل السلاح ويطلق النار..وكفى.. لذلك ظهرت السينما والتي يمكن بفلم واحد يستحسن ان يكون مدعوما من وزارة الدفاع السودانية لإمكانياتها المادية، أن يستنهض الروح الوطنية من وجدان الشعب السوداني عند الضرورة....والسعيد من اتعظ بغيره... * اختصاصي أول التشخيص بالموجات فوق الصوتية