لقد تحدثت في المقال السابق بصحيفة «الصحافة» «25/6/2012م» عن الاجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة أخيراً والتي كان لها الأثر الكبير على المواطن والأثر الأكبر على الشرائح الضعيفة في المجتمع. وفي هذا المقال نتناول التعديل الذي تم في السياسة النقدية التي أعلنت من قِبل بنك السودان، مع التركيز على أثرها على القطاع المصرفي. أهم إصلاح في السياسة النقدية هو الرجوع إلى سياسة سعر الصرف المرن المدار: «أ» بسعر تأشيري يحدد من قِبَل بنك السودان المركزي من وقت لآخر، وقد تم تحديده عند 4.4 جنيه للدولار ابتداءً من 24 يونيو 2012م. «ب» تطبيق حافز على كل مشتريات النقد الأجنبي يتم تحديده من وقت لآخر على أن يكون 15% في تاريخ 24 يونيو 2012م. «ج» بنطاق حول السعر التأشيري 4% اعتباراً من 24 يونيو 2012م. إذاً فسعر الدولار قد قفز من 2.78 جنيه للدولار إلى 5.26 جنيه للدولار أي بزيادة 89%. ويعتبر هذا الإصلاح من الضرورات بمكان، إذ أن السعر الرسمي كان بعيداً كل البُعد عن الواقع. فكانت كل المعاملات بالنقد الأجنبي «ما عدا تلك المتعلقة بالحكومة» خارج القطاع المصرفي لكبر الفجوة بين السعر الموازي والرسمي. ومع أهمية وضرورة الاصلاح أعلاه في سياسة سعر الصرف، إلا أن له مدلولات كبيرة على مجمل الاقتصاد، ومن أهمها آثاره على المصارف التي أصلاً تعاني ضعف مراكزها المالية من الديون المتعثرة وارتفاع مُعدل التضخم...إلخ. إذ أن سعر الدولار مقابل الجنيه سيؤدي إلى ما يقارب الضعف في التزامات المصارف بالنقد الأجنبي مما سيُصعب على المصارف سدادها. ومما يزيد في الإشكالية أن كل هذه المصارف لديها دفعيات قد تراكمت بالنقد الأجنبي عند البنك المركزي نتيجة للشح في الفترة الأخيرة. ومن المتوقع أن يتخذ البنك المركزي بعض الإجراءات هنا وهناك لتخفيض الضرر الناجم من الإصلاح في سياسة سعر الصرف، إلا أنه ليس بالإمكان تلافي كل المخاطر المتفاقمة جراء الوضع المالي المتردي في البلاد. فقد اضطر البنك المركزي إلى رفع الاحتياطي القانوني النقدي ثلاث مرات في الستة أشهر الماضية، أولاً من 11% إلى 13% ثم إلى 15% وأخيراً إلى 18% أي بزيادة 45% في فترة وجيزة، وذلك لامتصاص فائض السيولة الناتجة عن الصرف الحكومي بموارد غير حقيقية. ومما لا شك فيه أن ذلك الارتفاع الكبير في الاحتياطي خلال فترة وجيزة سيدخل المصارف في مصاعب وإضعاف أكثر للمراكز المالية. كما أن الديون المتعسرة لدى المصارف في زيادة نتيجة لعدم التزام وزارة المالية بدفع مستحقات المقاولين، وإعادة جدولة تلك المستحقات «كما ذكر في تعديل موازنة 2012م»، ستزيد من الصعوبات على القطاع المصرفي. ومن المتوقع أيضاً أن ترتفع الديون المتعسرة لدى البنوك نتيجة للصعوبات الاقتصادية التي تواجه القطاع الخاص من تضخم الاعتمادات القائمة والمؤجلة بالنقد الأجنبي. وسيصعب على القطاع الخاص الوفاء بتلك الالتزامات مع الركود السائد. كما أن ارتفاع معدل التضخم نتيجة لمجمل الإجراءات المالية التي اتخذت أخيراً من زيادة الضرائب ورفع الدولار الجمركي ورفع الدعم عن المحروقات، سيفاقم من الإشكاليات التي تواجه المصارف، إذ أنها ستؤدي إلى تآكل المدخرات والأرصدة وتقلل العائد من الصكوك التي تمثل نسبة مقدرة من استثمارات هذه المصارف. أضف إلى ذلك زيادة ضريبة أرباح الأعمال على المصارف بنسبة 100% «15% إلى 30%» وضريبة دمغة المعاملات المالية وسحب إيداعات البنك المركزي من البنوك وتحويل الحسابات الحكومية «إلى البنك المركزي». أضف إلى ذلك عمليات السوق المفتوحة، وهي السياسة النقدية الأكثر فاعلية لامتصاص السيولة الفائضة، ولكنها تضيق الخناق على المصارف والقطاع الخاص. كل ذلك ستنتج عنه صعوبات جمة لا نتوقع أن ينفذ منها القطاع المصرفي، إذ أننا نتوقع انهيار عدد مقدر من هذه المصارف. وسيضطر البنك المركزي للتدخل لإنقاذ الأهم منها ليترك الآخرون يلاقون حتفهم. ولكن من أين للبنك المركزي الموارد ليقوم بذلك سوى طباعة المزيد من النقود المحلية، مما سيدخلنا في حلقة مفرغة من زيادة السيولة وارتفاع معدلات التضخم.. إلخ. لذلك نرجع ونقول إن الاصلاحات أو الإجراءات الاقتصادية المُتخذة أخيراً لا تجدي سوى تمكين الحكومة لتمضي في ما هي عليه بأقل تغيير ممكن، بينما يدفع المواطن والاقتصاد ككل الثمن الباهظ.