لا يتصف الاديب بالشاعرية حتى يمتلك ادوات التعبير عن مختلف المكونات الجمالية القادرة على سبر اغوار عواطف المتلقي. والمتلقي السوداني الغارق في همومه المعاصرة لشعوره بذل الانكسار والخوف من المجهول، لم تعد تحركه ارقى الاشكال الجمالية المصطنعة لشاعر هامشي من شعراء الهروب. فماذا يهم ذلك المتلقي من قصيدة تنضح بالحنين لملامح الجمال في ليلى واخواتها، او تفجر مكبوت الهوى من تباريح الهجر والحرمان. إنها قد تسليه وقد تضحكه وقد تعزله عن هموم امته، فيكون متلقيا هامشيا كما كان الشاعر هامشيا. والشاعر لا ينال التكريم من أمته بمحضية الادب، بل لابد أن يسأله التاريخ عن آثاره في البناء الاجتماعي سلوكا وفكرا، والمجتمع قد يقبل الشاعر مطربا وقد لا يقبله الا حاديا، فبالأمس القريب كان الشاعر بيننا قمة الالتزام بالمعنى اللغوي لا بالمصطلح السارتري، لهموم امته، فقد هش مجتمعنا في فترات التحول الصعبة وبش للعديد من الشعراء الملتزمين بالمعنى سالف الذكر، وذلك لأن تاريخنا كان في اوج عزه ومجده، وكانت محضية الادب في مجاله كاستراحة الفارس المترجل عن جواده. اما لحظتنا الراهنة فلا تقبل شاعرا يبني اهرامات من الاماني، وهو لا يزال في الصفحة الأولى من الشعور بالمسؤولية. إن أمتنا في حاجة الى حادٍ يرفق بالقوارير، فالشاعر الذي تفرح به الأمة لا بد أن يكون شاعرا له أثره في التعبير عن السيئ والحسن. وطلائع الامة الملتزمة بقضاياها من رجال الفكر والعلم يكون مستوى تأثيرها بمقدار حذقها لحرفتها والتزامها برسالتها، فالخطيب من مقوماته المباشرة الحماس والرنين، والباحث والعالم والكاتب يشتركون في مقومات من أهمها المنطق والوضوح، والشاعر قبل أن تفرح به الأمة حادياً، لا بد أن تكون عنده مقومات الشاعرية الملتزمة بقضايا مجتمعه، وأن يكون عنده الإحساس بمختلف مكونات الجمال التي تأسر المتلقي. فهو حين يكون غامضاً فهو لا يريد أن يعبث وألا يعني شيئا، وانما يشوق الى المراد ويبعد مناله بالقدر الذي يظل فيه الغموض جمالا فنيا او ضرورة تاريخية. وهو حينما يمل من دلالة أسماء الأشياء القاموسية ويستنطق الاشياء ذاتها ليكون لها مدلول في صفاتها ورموزها واقترانها بالزمان والمكان، لا يكره لغته وانما يريد إثراء دلالتها الأدبية، كما يريد التخلص من الملل والرتابة، لأن الحس الجمالي يهرب من الملل. والشاعر قبل أن تفرح به أمته ملتزما، لا بد أن يكون قادرا على صنع النموذج الشعري الذي يجعله جماليا محضيا ان شاء، ويجعله جماليا ملتزما ان شاء. ولا بد أن يكون ذا شاعرية، ثم بيده بعد ذلك أن يكون مطربا او حاديا، فالجمال شرط لفاعلية الشعر الملتزم. وهنا ننادي بضرورة الفصل بين الشكل والمضمون للقصيدة في رؤية الناقد الادبي، فحينما تفرح الامة بالشاعر ملتزما يتجه النقد لدراسة انتاجه شكلا ومضمونا، ليس من ناحية كونه جميلا فحسب، بل باعتبار أن ذلك المضمون يمثل حقا وخيرا، وفي هذا أود القول بأن الشعر يتوجه من النقد احيانا، ويكون موجها له احيان اخرى. فالنقد مجرد اقتراح نظري، ولا يكون حساً جمالياً حتى يوجد شاهده الادبي، والشعر الملتزم بقضايا الانسان هم جمالي وهم حياتي، فالهم الجمالي هو الذي تبنى عليه النظرية الادبية، اما الهم الحياتي فلكل همه، ولامتنا همومها، ولن يكون الأدب رابطة إنسانية في مضمونه ما دام كل من الهم الحياتي والجمالي يسيران في طرق متوازية. وللكثير من أشعار اللحظة الراهنة منابع فنية يمكن ان تبنى عليها نظرية ادبية وتصطفى من نميرها، مما يجعل القصيدة حسب معايير تلك النظرية جميلة مؤثرة ساحرة مقنعة بمضمونها، فمعاييرها في الغالب أحاسيس جمالية لغوية فحسب، ولا دخل لقيمتي الحق والخير في بناء معمارية تلك القصيدة على الرمز والصور والتفعيلة واستيحاء البحر الصارم والقافية الواحدة، وهي منابع يعتقد البعض جازما أنها توجه مضمون الشعر سلبا فتحوله الى عبث وتدمير. فاللغة الرصينة ضرورة وكيان، وتحطيم قوانين اللغة او الغاء دلالتها غير محبب، لانه يلغي الضرورات، وقيمة الحق والخير مقدمتان على الاحساس الجمالي النسبي. وكلها قضايا ينبغي أن يكون الحوار حولها بفكر ومنهج وعلم ومنطق، أما إدخالها في التنظير الأدبي والنقدي والترويج لها من خلال قصيدة تلاقي نجاحا لسبب من الاسباب غير المرئية، فهو تضليل وإغواء فكري. يقال إن سيزيف معذب جسديا دوما برفع وحمل صخرة لا تستقر، اما المتلقي السوداني المستسلم لسياط المنعطفات الادبية المعاصرة فمعذب فكريا ووجدانيا، يحمل اعباء غائب لا ينكشف، ومرغوب لا يتحدد ولا يتحقق. وبما أن الماضي هو حاضر مضى قبل كل شيء، وان المستقبل هو حاضر سيأتي، فان الغائب الذي يتوق إليه المتلقي هو غائب لا شكل له، يمكن اضافته الى اي شيء واضافة اي شيء له، وكلما ازداد بعداً ازداد ضبابية.