باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    العربي يكسب الاتفاق في دورة الفقيد معاوية الجميعابي بالإنقاذ    قوات الدعم السريع تطلق سراح اثنين من أبناء شقيقة البشير اعتقلتهم من قرية صراصر    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفاهم النفط في ذمة الصقور.. السيناريو المسكوت عنه
نشر في الصحافة يوم 12 - 08 - 2012

نموذج مثالي لسوء إدارة الصراع وأهم من ذلك دليل آخر على غياب الرؤية الإستراتيجية للعلاقة بين شطري السودان الكبير، وانعدام الإرادة السياسية عند الحزبين الحاكمين في الخرطوم وجوبا لرعاية المصالح الحيوية المشتركة للشعبين، جرى تقديم فصل منه على لسان صقور في الطرفين بعد ساعات فقط وقبل ان تبرد حرارة الكلمات التي أعلن بها التوصل إلى تفاهم أديس أبابا بشأن صفقة النفط بين البلدين في الساعة الخامسة والعشرين من موعد انتهاء أجل المهلة الدولية للقرار الأممي 2046 القاضي بضرورة تسوية الملفات العالقة بعد تقسيم السودان تحت طائلة العقوبات.
لقد شكل التفاهم على صفقة النفط اختراقاً مهماً للغاية في جدار المفاوضات المصمت، بما من شأنه أن يسهم في كسر حالة الجمود التي رانت على محاولات تسوية إرث تركة السودان المقسم المستمرة بعد أكثر من عام من انفصال الجنوب في مفاوضات ظلت تدور في حلقة مفرغة ما تكاد تصل إلى نتيجة حتى يعيدها حدث طارئ يتعمده الفرقاء المتشاكسون في كلا المعسكرين إلى نقطة الصفر وهكذا دواليك.
أهمية "صفقة النفط"، وهذا بالطبع يعتمد على تنفيذها في نهاية الأمر على أرض الواقع بلا عراقيل أو إلتفاف وهو استدراك مهم على خلفية كثرة العهود المنقوضة والاتفاقيات المنقلب عليها مما بات معلوماً في سيرة العلاقة بين الطرفين، تنبع من أنها وضعت العربة أمام الحصان بمعنى أنها أعادت ترتيب الأولويات على اعتبارات مصالح حقيقية وفق تسلسل منطقي من شأنه أن يقود الأمور إلى الأمام. وليس سراً أن الصراع على النفط الذي ظل يشكل العمود الفقري لاقتصاد السودان الكبير، قبل وبعد التقسيم، وأدى إلى وقف إنتاجه بردة فعل لم تخلو من التهور من قبل جوبا أدى إلى تركيع حكومتي السودان الكبير اقتصادياً في غضون أشهر قليلة حتى بلغا حافة الإفلاس، ودفع المواطنون ثمناً باهظاً للسيناريو الانتحاري الذي أدير به ملف أزمة النفط.
لم تحمل "صفقة النفط" شيئاً جديداً مفاجئاً، ربما باستثناء توقيت إعلان التفاهم بشأنها الذي تم في الساعات الأخيرة لانقضاء أجل المهلة الأممية، فما تم التوصل إليه من مساومات لتمرير الصفقة بتنازلات متبادلة لم تكن بعيدة من العروض الواقعية التي كانت مطروحة أصلاً على طاولة التفاوض منذ بدء بحث المسألة العام الماضي. ولذلك لم يجد الوسيط الإفريقي ثابو إمبيكي صعوبة في التوفيق بينهما وإبرام التفاهم حين لم يكن من ذلك بد مع توفر عامل عنصر الوقت الحاسم، وعوامل الضغط الذاتية والخارجية الأخرى الواقعة على الطرفين.
وبعيداً عن العروض البهلوانية التي حاول كل طرف استخدامها بعد الإعلان عن التفاهم حول الصفقة بالتلاعب بالأرقام في محاولة لكسب الرأي العام الذي يليه لصالحه وتصوير جانبه بأنه المنتصر في معركة التفاوض حول النفط بإظهار أرقام في التسوية أو إخفاء أخرى أو تجييرها بطريقة معينة بحيث يبدو أنه تمسك بمواقفه المعلنة وأنه أجبر الطرف الآخر على التنازل، فإن الحسابات الموضوعية تشير إلى أن الصيغة النهائية للتفاهم حول الصفقة والذي لايزال ينتظر التوقيع عليه من الطرفين ليغدو اتفاقاً موثقاً قابلاً للتنفيذ، اتسمت بقدر كبير من المعقولية في مساومة فاز فيها الكل، لا غالب فيها ولا مغلوب. إذ أن فجوة الموقف الحقيقي للطرفين لم تكن شاسعة، ولعبة التفاوض تحتمل الإعلان عن مواقف متطرفة لا تتحقق عادة في نهاية الأمر.
والواقع أن أزمة القضايا العالقة بشأن إنهاء إرث تركة السودان الكبير بما يمهد لعلاقة سلمية تحقق المصالح الحيوية المشتركة بديلاً عن الصراع والاحتراب لم تكن متعلقة بملف النفط في حد ذاته، أو كانت هناك استحالة للتوصل لمساومة بشأنه، ولكن بحكم قوة وزن ورقة النفط فقد استخدمها كل طرف كرتاً للضغط في المفاوضات للحصول على مكاسب في القضايا الخلافية الأخرى، لا سيما أبيي،و الحدود والملفات الأمنية.
لكن ورقة "النفط" على قوة وزنها فقد كان لمدى استخدامها حدوداً بفعل عوامل متعددة داخلية وخارجية، ومثلما حاول طرف استخدامها ككرت ضغط ضد الطرف الآخر إلا أنها في الوقت نفسه مثلت عامل ضغط عليهما معاً ولذلك أمكن التوصل إلى التفاهم حول الصفقة الحالية التي قد لا تصمد بفعل تفاعلات الصراع الداخلي في معسكري الحزبين الحاكمين في جوبا والخرطوم.
فالعوامل الداخلية التي حدت من فاعلية "ورقة النفط" تعود بالأساس للتبعات الاقتصادية الكارثية على الطرفين جراء الاستخدام المتهور لها، وبدا كل طرف كمن يحاول إطلاق النار على قدمه وهو يظن أنه يؤذي الطرف الآخر، فالنفط أثبت أنه ولسنوات قادمة سيظل الشريان الوحيد الذي يحمل بلسم الحياة للنظامين الحاكمين، والاستمرار في التلاعب المتسم برعونة بهذه الورقة في غياب بدائل حقيقية سريعة لتعويض مداخيله الحيوية لن يلبث أن تؤدي تداعياته إلى خنق النظامين والإطاحة بهما. ولذلك فالتوصل إلى تفاهم حول هذا الملف لم يكن محل خيار أمام الطرفين، فالخرطوم تئن أمام أزمة اقتصادية طاحنة أودت بكل مكاسب النظام وجعلت مسألة استمراريته في السلطة على المحك ما لم تحصل على قبلة حياة من نفط الجنوب. وأما جوبا المتفاجئة من قلة التعاطف الغربي معها لا سيما التقريع الأمريكي لإقدامها على إغلاق الإنتاج النفطي وهو شريان حياتها شبه الوحيد ثم البحث عن تعويض له من مساعدات ضن بها حلفاؤها جعلها تحت ضغوط أمريكية عنيفة أرغمتها على التراجع عن موقفها بالاستمرار في وقف ضخ النفط، فضلاً عن حاجتها العاجلة لتدارك الانهيار الوشيك لاقتصادها الذي حذر منه صندوق النقد الدولي وتوقع حدوثه في مثل هذه الأيام.
وثمة عامل خارجي مهم يغفل عادة في موضوع النفط أنه ليس ورقة "سودانية" خالصة، فالشركاء الآسيويون في الكونسورتيوم الصيني الهندي الماليزي فهم طرف أساس في اللعبة وأصحاب "وجعة" أصيلون في صناعة النفط السودانية، فهم من طورها واستثمر فيها مليارات الدولارات، كما أن الصين أكبر هؤلاء الشركاء، والمستفيد الأكبر من استمرار تدفق النفط منها حيث تستورد غالبيته بما يوفر لها نحو سبعة بالمائة من استهلاكها اليومي، ظلت هي المتضرر الأكبر من توقف إنتاج النفط. وهي وإن تدثرت بالصمت غالباً أو مارست دبلوماسية ناعمة لحث الطرفين على التفاهم، إلا أنها نوفمبر خرجت عن طورها ذات مرة حين انتقد السفير الصيني بالخرطوم في الماضي الحكومة السودانية علانية في سابقة حين كشفت عن نيتها وقف ضخ النفط مما اضطرها للتراجع عن ذلك في اقل من أربعة وعشرين ساعة، ويبدو أن بكين لم تغفر للخرطوم تجرؤها على استخدام كرت النفط الذي تعلم حجم مصالحها فيه في إطار صراعها مع جوبا، ولذلك تخلت عن حيادها الإيجابي في مجلس الأمن الدولي الذي ظلت تمارسه لصالح الخرطوم عن طريق امتناعها عن التصويت في القرارات الدولية التي تمس الحكومة السودانية حتى بعد أن تتدخل لتخفيفها، فقد تخلت بكين عن تلك السياسة حين صوتت لأول مرة لصالح القرار 2046 على الرغم من رفض الخرطوم العارم له قبل أن تجد نفسها لاحقاً مضطرة للخضوع له، وصوتت بكين كذلك الأسبوع الماضي أيضاً لصالح القرار 2063 الذي وسع تفويض بعثة يوناميد في دارفور لتساعد بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان فيما يختص بتنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية القبض على المتمرد اليوغندي جوزيف كوني قائد جيش المقاومة الرباني وعدد من رفاقه وهو قرار كانت الخرطوم أعلنت أيضاً رفضها حين طرح لأول مرة قبل بضعة أشهر. وهو قرار خطير لا تخفى دلالته وعواقبه المستقبلية على بلد قيادته خاضعة لقرارات توقيف دولية مماثلة.
أما العامل الأمريكي في معادلة صفقة النفط السودانية فتقوم على حسابات معقدة ومتداخلة، فإستراتيجية أوباما تجاه السودان المعلنة في أكتوبر 2010 تقوم على فرضية أساسية هي ضمان حصول جنوب السودان على استقلاله، وفي الوقت نفسه ضمان قيام دولتين قابلتين للحياة سياسياً واقتصادياً بما لا يزعزع استقرار هذه المنطقة من العالم التي تحتفظ فيها الولايات المتحدة بمصالح حيوية تتجاوز حدود السودان الكبير، وقد شكل قرار جوبا وقف تدفق النفط ضربة قوية لحسابات استراتيجية أوباما ولذلك عارضت إدارته القرار بشدة خشية أن تؤدي عواقبه الوخيمة إلى انفراط عقد الاستقرار ببروز دولتين فاشلتين في المنطقة التي لا تنقصها القلاقل، ولذلك مارست ضغوطاً جدية على حكومة الجنوب، بما في ذلك رفضها القاطع تقديم أية مساعدات تعويضية لها عن النفط المتوقف، لتحملها على العودة عن قرارها، ولملمة أطراف الأزمة بما لا يؤدي إلى إفشال إستراتيجية أوباما خاصة في عام انتخابي لا يحتمل أية مغامرات غير محسوبة تفتح عليه أبواب جماعات الضغط الجهنمية قد تهدد فرص إعادة انتخابه.
والمعطى الثاني في حسابات واشنطن يمليه موقف ظل يكرر التأكيد عليه المبعوث الرئاسي الأمريكي للسودان السفير (برينستون لايمان) أن سياسة بلاده لا تريد إسقاط النظام في الخرطوم، ولكنها تعمل من أجل تغيير مدروس ومحسوب تتحكم في مخرجاته عبر "إصلاحه" وفق صفقة جديدة تعيد تركيبه بمشاركة أوسع من جماعات المعارضة السياسية والعسكرية، وعبر معالجة صراع المراكز والأطراف وفق صيغة تتضمن توازن مصالح الأطراف الفاعلة في المعادلة السودانية.
ومثلما عارضت واشنطن العمل المسلح الذي تبنته الجبهة الثورية لإسقاط النظام بالقوة، فقد عارضت كذلك توجه جوبا لإسقاط حكم المؤتمر الوطني عبر خنقه اقتصادياً، ولذلك تمسكت بأهمية استعادة اسئتناف إنتاج النفط لإيقاف عملية الانهيار المتسارع للاقتصاد السوداني خشية أن تؤدي تبعات ذلك إلى سقوط النظام. وعلى الرغم مما يبدو من عداء بين الخرطوم وواشنطن، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تبقى حريصة على بقاء نظام الإنقاذ الذي وجدت فيه "حليفاً" من نوع خاص، فقد ظل يخدم أجندتها في السودان وفي المنطقة من دون أن يكلفها شيئاً، من انخراطه حتى النخاع وبلا سقف في حرب واشنطن ضد "الإرهاب" بلا مقابل وحتى توفيره مظلة شرعية لتقسيم البلاد وتمرير الانفصال بلا عراقيل وأيضاً مجاناً بدون مقابل، وكذلك إخضاع البلاد لشبه حالة وصاية دولية، وهي تنازلات لم يجرؤ أي نظام حكَمَ السودان من قبل على تقديمها، ولذلك فقد كان من المنطقي لواشنطن ان تحافظ على هذا التحالف "الأرخص كلفة" ما دام محققاً لمصالحها، وقد تمرست واشنطن في لعبة الإغواء السياسي مع الخرطوم بترك الحزب الحاكم معلقاً بين الرجاء واليأس في شأن علاقتها معه، بين الحرص الدفين على استمراره وبين التهديد الأجوف بإسقاطه، تلوح بآمال التطبيع تارة، ثم لا تلبث تمارس ضغوطاً محسوبة يساعدها في ذلك رعونة الفعل السياسي للحكم الذي لم ينجح حتى بعد أكثر من عقدين في السلطة من التعلم من أخطائه والتمرس في فن الحكم بلا خسائر أتت على رصيده الأخلاقي ومشروعيته السياسية.
والمعطى الثالث في ضغوط واشنطن لإبرام صفقة عاجلة حول النفط يتعلق بحسابات إستراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط، وإدارة ملف علاقاتها المتوترة مع الصين على أكثر من صعيد لا سيما مسألة العقوبات الغربية التي تقودها الولايات المتحدة على النفط الإيراني على خلفية أزمة الملف النووي، وعلى الرغم من استثناء الصين ودول أخرى من التقيد بهذه العقوبات النفطية إلا أنها تعرقل بالفعل سهولة حصول الصين على النفط الذي تستورده من إيران، فإذا أضفنا لذلك الضرر الصيني البالغ جراء وقف إنتاج النفط السوداني الذي يمثل أيضاً حصة مهمة لوارداتها النفطية فإنه من الصعب تصور تحمل بكين لحرمانها من موردين نفطيين مهمين، وهو ما يؤدي بالطبع إلى رفع درجة التوتر في العلاقة بين البلدين، ولذلك رغبة من واشنطن في إعادة قدر من التوازن لعلاقاتها مع الصين وتخفيف التصعيد الذي تشهده هذه الأيام فقد حرصت على إعادة الحياة لأنابيب النفط السوداني المتوقف المستفيدة منه بكين بالأساس من أجل بث بعض الدفء في العلاقات بين البلدين، وربما للتخفيف من مواقف الصين المتشددة حيال السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط مما هو حادث في المسألتين الإيرانية والسورية.
لقد جاء الإعلان عن التفاهم حول صفقة النفط في الساعة الأخيرة، والاتفاق حول عملية الإغاثة الإنسانية في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بمثابة طوق نجاة للجميع، ومخرجاً من حرج انتهاء المهلة الدولية بدون إحراز تقدم حقيقي في المفاوضات، فالوسيط إمبيكي لم يكمن يريد أن يرى جهوده تنتهي بالفشل مما يلقي بظلال سالبة على سمعته ودوره ولذلك قاتل من أجل التوصل إلى أي قدر من التفاهم حول أي من القضايا المطروحة حتى يستطيع تسويقه لمجلس السلم الإفريقي، ومن ثم مجلس الأمن الدولي عن وجود بصيص أمل للتفاوض يبرر تمديد المهلة، وفي الواقع فإن المجتمع الدولي نفسه كان يبحث عن مخرج من مأزق المهلة التي حددها القرار 2046، فالأزمة السودانية أكثر تعقيداً مما يمكن أن تحل بحزمة عقوبات هناك أو هناك، فالبلدان بائسان إلى درجة تجعل أية عقوبات ذات أثر معنوي أكثر منها مؤثراً فعلياً في تغيير موازين القوى الراهنة، خاصة وأن واشنطن ليست متحمسة للمضي قدماً في تغيير جذري للمعادلة السياسية الراهنة في الخرطوم وجوبا، وتفضل تغييراً محدوداً ومحسوباً يؤمن لها التحكم في مساراته.
ويراهن المجتمع الدولي والوسطاء والعقلاء في الحزبين الحاكمين في الخرطوم وجوبا على أن تساعد انفراجة التفاهم حول صفقة النفط على توفير زخم يدفع باتجاه تسوية شاملة لكل الملفات العالقة في ما تبقى من مفاوضات، وهو احتمال ممكن ووارد إذا سادت روح تحقيق المصالح المشتركة وأهمية ضمان استدامة السلام لمواطني السودان الكبير، ولكن من قال إن العقلاء دائماً يكسبون أو أنهم يملكون كل أوراق اللعبة؟.
الملاحظة الجلية أنه ما أن بدأت تباشير الخروج من دائرة التفاوض المفرغة بتفاهم النفط حتى علت أصوات الجماعات المتشددة في الطرفين، وللمفارقة بعضهم من مفاوضي الجانبين، في استعادة الأجواء الصراعية وطرح مواقف وشروط تفاوضية تعجيزية والتسابق في الإدلاء بالتصريحات العدائية الخارجة من سياق أجواء تصالحية يفترض أن التفاهمات الأخيرة أنتجتها، وما ذلك إلا دليل على أن غياب الرؤية الإستراتيجية والإرادة السياسية لا يزال سائداً عند أطراف فاعلة على الجانبين وهو من شأنه تسميم الأجواء والحد من فرص التوصل إلى تسوية نهائية شاملة في الجولة المقبلة، وأن التقدم المحرز الآن على ضبابيته ومحدوديته لا يلبث ان يعيد إنتاج ما هو معروف من سلسلة العهود المنقوضة من الطرفين، وهكذا فليس من المستبعد من عودة الأمور إلى نقطة الصفر مع كل الآمال المعقودة الآن.
إذن ما الحل والمخرج؟. من الصعب رؤية تحول جذري في العقلية الاستئصالية التي تتحكم في صنع القرار عند الطرفين، وهي الذهنية نفسها التي بددت الفرص التي أتاحتها المساومة التاريخية في صفقة السلام الشامل وقادت في نهاية الأمر إلى تحقق السيناريو الأسوأ: تقسيم البلاد، وخسارة وحدتها, وفقدان السلام وعودة الحرب.
والحال هذه ربما لن يرى السودان الكبير سبيلاً لحل جذري لأزمته سوى ما أعلنه الرئيس البشير ذات يوم في خضم معركة هجليج الأخيرة أن لا حل إلا بذهاب أحد النظامين في الخرطوم أو جوبا، أو بالطبع ذهابهما معاً، صحيح أن البشير أعلن ذلك في فورة خطب حماسية، لكن واقع الحال وتجريب المجرب يشير إلى أنه يكمن في تلك الوصفة فعلاً العلاج الناجع للخروج من مأزق الأزمة السودانية المتطاولة التي حار فيها الخلق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.