٭ عرف ابن القيم القبض بأنه اسم يشار به الى مقام الضنائن الذين ادخرهم الحق اصطناعاً لنفسه والقبض نقيض البسط أى هو الجذب والامساك وفي الآية الكريمة ( وقبضناها الينا قبضاً يسيراً) أى امسكناه وجذبناه وبهذا التعريف يكون الصمت داخل في تجاويف القبض وليس العكس فالصمت اذا عرفناه بأنه حضور الذات العميق لدى الصامت وبالتالي عزوفه عن الكلام، مما يجعل الصمت متعلقاً بالنطق اما القبض فقد يكون قبض اللسان الذي هو الصمت وقد يكون قبض الحال والذي هو دثار شفيف يلم بالنفوس فيحجبها عن وسطها. ثم أن قبض الصمت قد يقع باختيار الصامت عينه وارادته أما الحال فهو امر لا مشيئة للمقبوض فيه فانما هو شعور يهجم عليه هجوم الوحش الكاسر على فريسته. والقبض الذي نحن بصدده هو القبض المتعلق بالتجربة الدينية فهنالك قبض خارج هذا الاطار وهو لا حكم عليه فحسنه حسن وقبيحه قبيح، فأما قبض الحال المذموم هو شعور بالضيق ويحسه المقبوض تجاه غيره ولا يمت بصلة الى تجربة دينية وإنما تأففاً وتجافياً، وأما قبض اللسان المذموم فقد ذمت الشرائع الصمت عن مقال الحق وفي الاثر (الصامت عن الحق شيطان اخرس) أما القبض بالتجربة الدينية فقد برع فيه المتصوفة وعشقوه حتى أنهم اعتسفوه ومعلوم من الدين بالضرورة ان مخالطة الناس ومعايشتهم ومناصحتهم افضل من اجتنابهم والابتعاد عنهم وهم في اسوأ حال وذلك بغية اصلاحهم وتربيتهم وان تعذر ذلك فتكون المراوحة والتوسط امراً مسلماً به فجل الفضائل الدينية قامت على المراوحة وعدم التطرف والغلو وابلغ ما يستدل به على هذه المراوحة قول احد الصحابة رضى الله عنهم عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم (ما احببنا ان نراه صايماً الا ورأيناه ولا احببنا ان نراه فاطراً إلا ورأيناه). أما القبض الذي حدثنا عنه ابن القيم في فاتحة هذا المقال فهو قبض لا حيلة للمرء معه فهو قبض هابط عليه من ذات عليه ضناً به وغيره. والضنّ هو عدم مطاوعة النفس لفعل البذل لنفاسة المبذول فالمقبوض ليس مالك زمام أمره في ذلك الامر إنما ذلك الامر انما هو امر واقع عليه لا اختياراً. وقد يصعب على المرء ان يتصور وجود شخص صالح يمكن ان ينفع الناس بحضوره الذكي ولكن يحال بينه وبين ذاك الحضور ولكن اذا نظرنا الى السيرة فانه امر متصور وجائز في حقه تعالى وما قصة سيدنا موسى والخضر عليهم السلام إلا مثالا جلياً فالخضر عليه السلام رجل صالح وعالم فاق علمه موسى عليه السلام ومع ذلك ليس له اتباع ولا تلاميذ ولا يجلس للعامة فيذكرهم ويمنحهم من علمه وبالتالي فهو مضنون به على الخلق وقد استوقفتني تلك العبارة التي قالها الخضر لموسى وفتاه حينما القيا عليه السلام وهو مسجى بثوبه ولم يرهما بعد فقال لموسى ( وأني على ارضك السلام)؟ فأفاد انه لو كان على هذه الارض سلام واطمئنان لما ضُن علينا بمثل الخضر عليه السلام ونجد قريباً من هذا المعنى في القرآن الكريم (قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً) الاسراء الآية 59، اذا فالخضر عليه السلام مضنون به علينا وكذلك الملائكة فالعالم العلوي جميعه داخل تحت هذا الضن الالهي والغيرة. أما القبض من حيث كيفيته فقد يكون قبضاً حسياً أو قبضاً معنوياً وقد يجمع الاثنين معاً فأما القبض الحسي فهو الذي يتملقه المتصوفه احتساباً فيتوارون عن الانظار ويجوثون في الفلوات اجتناء لرحيق الكشف وقد قرأت في احد الكتب ولعله (الاستقامة لابن تيميه) قدس الله سره انه كان رجلاً صالحاً بجبل لبنان يتوارى عن الانظار ولا يظهر للعامة إلا في يوم واحد في السنة فكان الناس يهرعون اليه يلتمسون منه الدعاء والمناصحة ففي مرة من المرات وبعد ان رجع الناس واراد الدخول في خلوته تشبث به احدهم والح عليه ان يفض له بسره فلما الح قال الرجل (خلي عني فانه غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه). أما القبض المعنوي فانهم اناس يتزيون بزي الناس ويخالطونهم بأجسادهم ويلبسون عليهم ما يلبسون وما هم منهم ولا يشغلهم ليس اختياراً ولكني شغف الوارد. خلاصة القول ان القبض وارد يرد على حفنة من الناس يجذبهم عن الاخلاط فيجلسهم مجلس الكرامة ويدير عليهم كأس انس بلا انيس. ونختم بقول الشافعي: وجدت سكوتي متجراً فلزمته إذ لم اجد ربحاً فلست بخاسر وما الصمت إلا في الرجال متاجر وتاجره يعلو على كل تاجر وقول الآخر:(ان لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وعابوا الفتنا) والله نسأله السداد والتوفيق * مؤسسة الرشاد العوض