تنشغل القوى السياسية وبعض مراكز الدراسات في هذه الايام بقضية مهمة الا وهي وضع دستور "عادل" للبلاد حتى يكون دستورا "دائما" للبلاد، والذى عجز السودانيون حتي الان من إكمال هذه المهمة «العادلة» ، والتي تعتبر «أو من المفترض أن تكون » حجر الاساس للاستقرار السياسي ووحدة البلاد . هناك اسباب كثيرة أدت الى هذا العجز ، اهمها في نظري إنشغال الاحزاب المركزية « التي سادت في المركز » بعد الاستقلال، بالصراع حول سيادة المركز دون اعطاء قضية حقوق الانسان السوداني ، بكل مكوناته الجهوية والثقافية والدينية و السياسية ،سواء كان فى المركز او الاطراف، الاهتمام او الاولوية . هذا ادى الي رفع درجة الاحباط عند معظم قطاعات الشعب وخاصة القوي الطرفية او ما يعرف الان بالمهمشة ذلك ان الظلم الان يمارسه ابناء الوطن و ليس المستعمر . هذا التباين في المنطلقات والاهداف بين المركز والاطراف منذ فجر الاستقلال لا زال هو العامل الاساسي في تعطيل وضع الدستور وبالتالي استقرار البلاد بل كان سببا في الانفصال الاخير «الجنوب والشمال» و سيكون سببا في مزيد من التفتيت اذا استمر هذا التباين . لهذا كانت عملية وضع الدستور " الدائم " للبلاد، في كل مرحلة ، دون تحقيق شروط "العدالة" مسبقا كان سبباً من اسباب التوتر السياسي في المركز والاطراف معا، ذلك ان الشعور السائد عند القوى الطرفية او المهمشة او المعارضة هو ان الاحزاب الكبيرة « والتي كانت تمثل غالبيتها التوجه الاسلامي / العروبي » يسعي عن طريق الدستور لالغاء تعددية الهوية السودانية و بالتالي الغاء حقوق المجموعات غير الاسلامية او العربية ، وبالتالي احتكار السلطة عند فئة معينة ،وهو ماعرف فيما بعد بصراع " الهوية " في السودان . بينما المبررات من الطرف الآخر الاسلامي العروبي كان يعتقد ان توحيد الهوية السودانية هي من دواعي الوحدة وبالتالي الاستقرار السياسي . لكن التجارب اثبتت أنه حتى القوى المركزية ذات التوجه الواحد كانت متصارعة فيما بينها حول السيادة على المركز اكثر من اهتمامها بقضية الوحدة ولهذا كان الاسلوب السائد بين هذه الاحزاب هو اما احتكار السلطة أو الانقلاب عليها، وبالتالي الانقلاب على الديمقراطية و علي التعددية و علي الدستور وعلى الشرعية وعلى الخصوم السياسيين ، فيزداد المركز تأزماً وتزداد الاطراف توجساً و تمردا، و ينتفي الاستقرار، فتصل البلاد الى طريق مسدود ويحاول المصلحون عن طريق الثورات الشعبية إعادة البلاد الى جادة الطريق مرة أخرى وهو ماعرف في الادب السياسي السوداني بالدورة الخبيثة . إختصاراً ، نقول أنه الآن ،وبعد ان جربت كل الاحزاب المركزية هذا المنهج الاقصائي بكل درجاته « السلمية والدموية » وبكل ايدلوجياته المختلفة « الطائفية الليبرالية والشيوعية والاسلامية » فالنتيجة التي وصلت اليها الاحزاب واحدة الا وهي ان الاختلاف و " التعددية " سنة من سنن الله في خلقه وحكمة من حكم الله الباقية « فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا » . "ففهمت " هذه الاحزاب "اخيرا" انه لامناص من التسليم بامر الله وحكمته في خلقه «و لوشاء ربك لجعل الناس امة واحدة و لا يزالون مختلفين ». اذن "التعددية المطلقة " «السياسية، الجهوية، الثقافية، الدينية الخ » كواقع منطقي ومشيئة الهية لايمكن القضاء عليها مهما اوتيت الاحزاب من القوة والمكر والدهاء السياسي. رغم ان هذا الوعي قد جاء متأخرا وكانت الكلفة عالية « ارواح ودماء كثيرة ازهقت » وتمزقت البلاد بسبب غيابه ، الا ان يأتي الوعي متأخرا خيرا من الا يأتي ابداً . حتى نواسي السودانيين في مصائبهم ، نقول ان مامر به السودان من تجارب مريرة في قضية "التعددية المطلقة " لاينفصل عن تاريخ البشرية في كل مكان و زمان، فقد اشكلت قضية " التعددية المطلقة " هذه على كل مراكز القوى السياسية في العالم بكل مسمياتها منذ عصر الاقطاعيين و مرورا بعصور التحرر الليبرالي ام الشيوعي وحتى عصور الخلافة الاسلامية « اموية ، عباسية ، عثمانية ، و تجارب بعض الدول الاسلامية المعاصرة بما فيها التجربة السودانية » . فكل هذه القوي المركزية سعت بكل ما تملك من قوة ودهاء لتصفية الخصوم سياسيا و جسديا. ولعل اشرس الصراعات السياسية والمحاولة الشرسة في تصفية الخصوم في تاريخنا المعاصر ما كان بين المعسكرين الرأسالمالي والشيوعي ، اذ كان يرى كل معسكر ان لاتعايش سلميا بينهما وان وجود احدهما يجب ان يكون على حساب الاخر ، ولهذا ذهب كل معسكر يتسلح بكل اسلحة الدمار الشاملة لتصفيه خصمه اذا استدعي الامر . بل كان كل معسكر مستعدا ، بما يملكه من اسلحه نووية ، لتدمير العالم اكثر من مرة « عشر مرات » ولا ان يسمح للخصم الاخر ان يهدد مصالحه السياسية اوالاقتصادية سواء كانت الوطنية او العالمية؟! هذا يكشف الى اي مدى يمكن ان يكون الانسان انانيا ومدمرا ! رغم انف المعسكرين وقوتهما التدميرية ، فقد انتصرت "التعددية " في معسكريهما بدرجات متفاوته ، بينما استطاع المعسكر الليبرالي الراسمالي ان يستوعب "التعددية المقيدة" داخل الاطار الليبرالي الراسمالي «كالاشتراكيين و الدينيين» ، وبذلك اصبح اكثر مرونة من المعسكر الشيوعي ، والذي كان اكثر تصلبا وتطرفا في قضية "التعددية" وقبول الاخر . لهذا استمر المعسكر الليبرالي اكثر تماسكا الي يومنا هذا بينما انهار المعسكر الشيوعي تماما عند اول هبة لرياح الحريات والتعددية " الجلاسنوست " و "البريستريوكا" ، لانه لم يك مستعدا لا فكريا او مؤسسيا لمثل هذا النوع من الانفتاح . ولازالت روسيا « الوريث الشرعي للمعسكر الشيوعي» حتي الان ، كذلك معها الدول الليبرالية، مواجهة بتحديات "التعددية المطلقة " والتي لم تطبق بعد بصورة عادلة ، سواء كان على المستوى الداخلي او العالمي. واحدة من هذه التحديات ، علي سبيل المثال، الهجرات المتزايدة من المسلمين لتلك البلاد ومما يتطلبه ذلك من حقوق دينية وثقافية قد تهدد العلمانية المتطرفة في تلك البلاد . اضف الى ذلك الان التداعيات الاقتصادية للازمات الاقتصادية التي تمر بها الدول الغربية و الولاياتالمتحدة اخيرا ، والتي ساعدت في تنشيط الحركات العمالية والطبقات الوسطى والضعيفة من جديد مما قد يقود الى صراع مرتقب بين هذه الطبقات والمؤسسات الرسالمالية السائدة و بالتالي عودة الحركات الاشتراكية من جديد بعد ان تضاءل دورها في العهود الاخيرة .اما على مستوى العلاقات الدولية فان " التعددية القطبية " بدأت تطل برأسها من جديد مع نمو القوة الاقتصادية لبعض الدول الطرفية كالصين و بعض دول امريكيا الوسطى من ناحية ،ومن ناحية اخرى عادت الاقطاب القديمة « روسيا و بعض الدول الاوربية » ترسم لها ادوار بعيدة عن النفوذ الامريكي في المشكلات الدولية. اما اذا اضفنا الى الصور السابقة ما يحدث من ثورات في الاقليم العربي مما ادى الى سقوط انظمة ديكاتورية حاربت" التعددية المطلقة " بشراسة، فيمكن القول بان العالم كله باسره يشهد نهاية تاريخ وبداية تاريخ انساني جديد ، وأولى تحديات هذا العهد الجديد سيكون هو الاعتراف بحقيقة "التعددية المطلقة " للمجتمعات البشرية وكيفية التعامل مع هذه الحقيقة بفكر مختلف تماما عما كان سائدا في العهود السابقة « الانكار، التصفية، الاستيعاب المقيد». وكذلك كيفية تطوير المؤسسات والنظم التي تستوعب هذه "التعددية المطلقة" ، اي مقابلة هذه التحديات فكريا وتطبيقيا. يجب ان نعترف بان هناك قصورا في هذا الجانب مرده ان الفكر السياسي لم يتطور كثيرا في مجال" القيم المطلقة " والتي كانت تنادي بها المدرسة المثالية او "الافلاطونية " منذ العصر اليوناني. المعروف تاريخيا انه عندما عجز المفكرون "المثاليون" منذ ذلك العصر ، في كيفية انزال" القيم المطلقة "«كالعدل والحق» على الواقع النسبي «المحدود بالزمان والمكان» ، انتصرت المدرسة "النسبية" او "الواقعية" بقيادة ارسطو ، والذي استبدل " الاطلاق" ب "الوسطية " كاعلي قيمة اخلاقية يمكن ان تبلغها الانسانية «المحدودة بالزمان والمكان» في بحثها عن العدالة و الحق. كالعادة انقسمت المدرسة الوسطية الي تيارات متطرفة و معتدلة في التعامل مع النسبية و الواقعية . بعض التيارات المتطرفة رفضت او انكرت وجود "الاطلاق" من حيث المبدأ ، على اعتبار انها حقائق غير ملموسة ولايمكن التحقق منها تجريبيا «التيارات المادية التجريبية » والتي سادت في العصور الحديثة المعاصرة . خطورة هذا الانكار او رفض المبدأ أن اصبح "المثل الاعلي" ليس متفقا عليه و هو قابل للنسبية و التعريف الذاتي، مما جعل بعض المدارس الايدلوجية تعتقد ان تجربتها تمثل نهاية التاريخ او " المثل الاعلي". الان هذه المدارس الفكرية ،وخاصة تياراتها المتطرفة ، ستواجه تحديات كبيرة مع تزايد الحاجة الى الحقوق المطلقة "كالعدالة" و"التعددية المطلقة" وما يتبعها من حقوق قانونية وتطبيقية .هذا ينفي زعمها انها وصلت حد الكمال في تجربتها .هذا القصور الذي تعاني منه هذه المدارس السائدة الان ، وغياب الفكر وتخلفه عن الواقع الاجتماعي و السياسي المتحرك و المتمرد الان علي الاوضاع السائدة داخل الدول و علي المستوي العالمي، سيؤدي الى فوضي فكرية و سياسية ، ذلك ان هذا الفراغ سيملأه الجهلاء بجهالتهم بحيث ستنقلب نعمة الحرية والتعددية الى غوغائية والعدالة المطلقة الى ظلم مطلق . لابد ان تنشط دوائر الفكر العالمي والمحلي في تطوير المفاهيم السائدة لمقابلة التطورات السريعة و المذهلة حول العالم لتحقيق السلام الاجتماعي و العالمي . اذ سيظل حلم الانسان دائما في الماضي والحاضر هو السلام و الامن، من اجل هذه القيم ضحت المجتمعات الاولية «ما قبل ظهور الدول المركزية» بكثير من الحريات الفردية و الجماعية من اجل الخروج من حالة الفوضي و الاحتراب التي سادت المجتمعات البدائية الى السلام المنشود تحت السلطة المركزية محليا أو عالميا. اذا فشلت الدولة المركزية «بدرجاتها المتعددة من المركزية» في تحقيق هذا الهدف المنشود محليا و عالميا هل ستعود المجتمعات الي ولاءتها الاولية و البدائية «كالاسرة والعشيرة و القبيلة»؟ المؤشرات العالمية و المحلية تقول ان الدولة المركزية بفشلها في تحقيق هذه الاهداف ربما تعيش اخر مراحلها الحياتية «او انتهاء عمرها الافتراضي» ذلك انها تتحمل الان الوزر الاكبر من هذا الفشل والاحباط الاجتماعي و السياسي ، وأن ما يطلب منها من عدالة و حقوق مطلقة قد يفوق طاقتها التقليدية. قد تكون هي كبش الفداء المنتظر في اى تغيير راديكالي وثوري للخروج من عنق الزجاجة والبحث عن السلام و العدالة بعيدا عنها . اضمحلال ظاهرة الدولة أو زوالها كانت قد تنبأت بها بعض المدارس الايدلوجية المعروفة مثل الليبرالية والشيوعية ، فقد ذهبت المدرستان الي القول بان ظاهرة الدولة المركزية القابضة ستضمحل او تزول في نهاية مرحلة " النضوج" الليبرالي او الشيوعي _ أى في نهاية التاريخ . الفرضية في الحالتين ان الانسانية « الافراد و الجماعات» ستصل درجة من الوعي والمسؤولية ما يجعلها قادرة علي ادارة شئونها دون وصايا من سلطة مركزية. هل وصلت الانسانية هذه المرحلة بعد ام ان ما يحدث الان عالميا و اقليميا هى بداية التاريخ الانساني الاخير ؟! اذا رجعنا الى اوضاعنا في السودان، وهو المفروض ان يكون موضوع هذا المقال الاساسي، نقول ان التطور السياسي والدستوري في البلاد وصل مرحلة حرجة لانستطيع ان نتجاهل هذا التحدي المائل امامنا الان الا وهو أن الجميع يطالب الان بتعددية مطلقة وعدالة مطلقة ، و الاغلبية الان تبحث عن كيفية الخروج سلميا من عنق الزجاجة؟ و لكن البعض قد لا يتورع في كسر الزجاجة للخروج منها ، فكل الاحتمالات واردة . صحيح ان احزابنا السياسية الان الحاكمة والمعارضة تبنت «على الاقل ظاهريا» شعار التعددية المطلقة"و بالتالي العدالة المطلقة بما في ذلك حاملي للسلاح ! طبعا الايام وحدها هي التي ستكشف عن النوايا الحقيقية لهذه الاحزاب ، كما نتوقع انه سيكون هناك احزاب او تيارات ستعارض التعددية المطلقة من حيث المبدأ، و هذا طبيعي وكذلك ستكون هناك تيارات صامتة او مترقبة في الساحة و لم تحسم قرارها بعد، لا احد يدري ماذا سيكون ردود افعالها اذا تحركت الامور ضد رغبتها . اذا صح الافتراض ان الاحزاب المركزية بايدلوجياتها المختلفة «الطائفية والليبرالية والشيوعية والاسلامية» الان، و بعد تجاربها المريرة مع التعددية المطلقة ، قد وصلت الى تبني هذا المبدأ «التعددية و العدالة المطلقة» ، فان هذه الاحزاب مطالبة بترجمة هذا المبدأ الى" ميثاق لحقوق الانسان السوداني " ومتفق عليه من الجميع « تأكيدا لصدق النوايا » بحيث يكون هاديا في وضع الدستور" العادل" القادم ، ويكون هو المعيار الرئيس لشرعية اي دستور واي قانون يسن في البلاد فيما بعد. إذ لم يعد مقنعا للشعب السوداني المسميات السابقة للدستور« ديمقراطي ، اشتراكي ، اسلامي» . المطلوب هو ان يري الشعب السوداني بكل تكويناته حقوقه مفصلة في ميثاق ومصانة بضمانات حقيقية قانونية وشعبية . هذا يستدعي، من ناحية ،استقلال القضاء في ظل حكومة ديمقراطية تؤمن بهذه المبادئ ، و من ناحية اخري، منظمات مدنية تتكون من اصحاب المصلحة الحقيقية تقوم بحراسة هذه الحقوق بطريقة دائمة و لصيقة. عليه نرى انه من الاوفق الان ان تتجه الجهود السياسية والشعبية و القانونية الى صياغة واعلان هذا الميثاق في البدء، و يسمي " بميثاق حقوق الانسان السوداني " قبل ان يشرع المشرعون في صياغة الدستور القادم بحيث لايكون بند الحقوق الاساسية في الدستور بندا مبهما قابل للتأويل الذاتي او الحزبي وبدون ضمانات قانونية وشعبية حقيقية.