لا يمضي يوم دون أن نسمع من زعيم سياسي عن الدعوة لمؤتمر جامع يضم كافة القوى السياسية أو الدعوة لتحالف قومي عريض يخرجنا من أزمتنا الحالية...لذا اسمحوا لي أن احكي قصتي مع هذه الصورة. . "تكسّرني" صورة مأساوية...تكسر الأربعة وعشرين ضلعا في صدري... صورة جسي جاكسون والقس ابرناثي على شرفة فندق يشيرون إلى دخان طلق ناري، وعلى الأرض المبجل مارتن لوثر كنق طريح رصاصة قاتلة اخترقت فكه مواصلة رحلتها المميتة نحو عموده الفقري ممزقة في طريقها شرايين قلبه . غريب؟ أليس كذلك؟ قد تثير الصورة الأسى ، الحنق، اليأس من انسانية البشر ، أما حالة التوله هذه فسببها ما وراء هذه الصورة التي التقطت عام 1968 بممفيس بولاية تينيسي في الجنوب الغربي القاسي للولايات المتحدةالأمريكية. في زيارة خصّ بها المبجل كنق هذه المدينة لظرف خاص جدا، وسط أجواء عصيبة. قبل أربعة أعوام من سقوطه على شرفة فندق اللورين مقتولا، وقف المبجل كنق على منصة التكريم في السويد، متسلما جائزة نوبل للسلام لجهوده العظيمة في حركة الحقوق المدنية وتقديرا لالتزامه السلم واللاعنف في كفاحه.(كان وقتها أصغر من يتسلم جائزة نوبل في تاريخ الجائزة في الخامسة و الثلاثين من عمره ). ورغم أن الكثيرين يرون ان تسلم جائزة كهذه لهي أعظم تشريف يمكن أن يناله ناشط حقوقي وانها تتويج لجهوده العظيمة، إلا أن كينق رأى أنها كانت أهم تحول يمكن أن يحدث في مسار عمله ، فقد استخدم منصة الجائزة ليدفع بقضية المهمشين ودعوته للسلام إلى الأمام، مستغلا الواجهات الإعلامية التي أصبحت أكثر انجذابا له، وألجم بها مكاتب رجال الدولة العلويين الذين أصبحوا أكثر تلهفا لفتح الأبواب لاستقباله. كل سكناته وحركاته أصبح لها وقع مدوي يسمعه كل ركن في العالم. أصبح قائدا وزعيما رقما لا يمكن ان تتجاوزه أمريكا رغم أنفها. كنق - في ذلك اليوم من العام 68- كان منهمكا في التحضير لأكبر مسيرة تشهدها الولاياتالمتحدةالأمريكية، مسيرة من كافة أنحاء البلاد نحو واشنطون، مسيرة الفقراء المنددة بجشع أمريكا و سفهها بتكريسها الأموال لشن حروب الغطرسة بينما الملايين يرزحون في فقر مدقع في مدنها وضواحيها. الإعلام العالمي كان يترقب هذه المسيرة، المسئولون بالكونقرس ومجلس الشيوخ يترقبونها بحنق ، المخابرات الأمريكية كانت تترقبها. كان العالم المبجل كنق يسير على وتر مشدود. وفي تلك الأثناء- في بلدة ممفيس البعيدة- حدث تافه- تافه بمقاييس ما يجري في أوساط حركة الحقوق المدنية وزخمها. سئم عمال النظافة بالمدينة وضعهم. كانوا يجمعون القمامة في أوضاع بالغة السوء، بأجور مزرية، معرضين أنفسهم للأوبئة ولمخاطر العمل. عمل -على أهميته- لا يمنحهم اي ميزة، لا عطلات، لا تأمين صحي، لا أجر لساعات العمل الزائدة، لا عقود عمل تحميهم غدر الزمن ومزاج أرباب العمل أو مخاطر العمل اليومية. يقول أحد العمال: "كنا حين نعود إلى منازلنا في المساء، نخلع ملابسنا على قارعة الطريق ، فقد كانت ملابسنا وأحذيتنا تعج بالديدان التي كنا نخشى من جرها إلى أطفالنا في البيت" . سئم أحد عمال النظافة "ت.جونز" هذا الوضع مخاطرا بعمله بعد أن طالب برفع الأجور وتحسين ظروف العمل، ناجحا في أن يجمع حوله قلة من عمال النظافة ليتحدث باسمهم. إلا أن عمدة المدينة الصلف رفض حتى أن يستقبلهم ، رافضا حقهم في التفاوض لأنه ليس لهم الحق في تكوين نقابة بموجب وضعهم كعمال تعاقد. وفي فجر يوم ممطر، انهمك عاملو نظافة في تكديس براميل الوساخة في احدى الشاحنات، سرت شحنة كهربية خفيفة في الشاحنة لتسحب العاملين وتدهسهما تحت مكنتها الجبارة .سرى الذعر بين عمال النظافة، ومن كان منهم مترددا في بادئ الأمر خوفا على الرزق، ساقه ذات الخوف ليتجمع مع بقية رفاقه أمام مكتب نقابة العاملين بالخدمة العامة الف وثلاثمائة عامل نظافة بالعدد يجتمعون ، وأمام صلف البلدية وتعنتها، يعلنون اضرابهم عن العمل، تاركين المدينة غارقة في قذارتها. تسير الامور على غير ما يشتهي العمال لتجاهل الحكومة المحلية لهم. فيتصل أحد المنظمين لحملات التضامن مع العمال بالمبجل كنق ليحضر إلى المدينة المنسية ويحرك البركة الساكنة. يستجيب المبجل على الفور، وينحرف برحلته المتوجهة إلى العاصمة الامريكية واشنطون صوب مدينة ممفيس ليشارك في مسيرة شعبية متضامنة مع العمال. يتوجه من المطار إلى الشارع وهو يغالب ارهاق أسابيع من الارق والتعب في التحضير المحموم للمسيرة العظيمة في واشنطن، ومع ذلك يتحامل على نفسه ليشارك عمال النظافة في تظاهرتهم السلمية، يسنده اتباعه على جانبيه حتى لا يسقط من الإعياء. شاءت الأقدار أن لا تتم المسيرة كما كان مخططا لها ، تخللتها أعمال عنف وشغب أتاحت للشرطة أن تتدخل بكل قوتها وجبروتها مفرقة للتظاهرة. ويخشى أتباع كنق عليه فيحملوه برغم اعتراضه إلى طائرة تقله خارج المدينة. وعمدة المدينة يستغل الأحداث فيعلن حالة الطوارئ بالمدينة ويفرض حظر التجوال ويضرب العزلة على عمال النظافة البؤساء. سرت صحف البلاد بالشماتة على الرجل الذي جاء ليحرك البركة الساكنة فهرب منها تاركا المدينة غارقة في الفوضى.هكذا شمتت الصحف. نبهه رفاقه لمخاطرته الغبية، لأنه ترك حدثا هاما كمسيرة واشنطن العظيمة كي يركز على حدث تافه في مدينة منسية ليتضامن مع عمال نظافة، هل نسي المبجل المتوج بأرفع جائزة عالمية مكانته؟ لكن كنق ظل باله مشغولا مع عمال النظافة يقول: أما ان نسير سوية ، او نسقط سوية...ليس السؤال ما الذي سيحدث لي إن وقفت مع عمال النظافة، بل السؤال...ما الذي سيحدث لعمال النظافة إن لم أقف معهم" ويعود كنق من جديد إلى ممفيس مخططا للمسيرة التضامنية بنفسه هذه المرة. متحديا أمرا قضائيا يحظره من المشاركة بأي عمل شعبي بالمدينة. وكان قد أعد كل شيء. وفي الليلة السابقة للمسيرة ...ليلة ممطرة...تخللتها الرعود والبروق، يخطب كنق في الكنيسة. آخر خطبة له. يتجلى فيها المبجل كما لم يتجلَّ من قبل . يقول احد رفاقه: كان المبجل يؤمن أن نهايته ستكون في واشنطن في خضم المسيرة العظيمة، لكن لسبب ما ، منذ تصاعد احداث مدينة ممفيس، رأى أن نهايته ستكون في ممفيس "لقد صعدت إلى الجبل وأراني الرب أرض الميعاد.ورغم اني قد لا أعبر معكم إليها. لكنكم ستصلون إليها" صبيحة اليوم التالي...اغتيل على الشرفة. ماذا حدث؟ ماذا حدث للمدينة المصعوقة من جراء ما حدث؟ كأن أحدهم هزها؟ كأن أحدهم فتح قفل قلبها؟ يتقاطر أنصار كينق من كافة أرجاء البلاد،يخرجون في مسيرة صامتة ، بلافتات فصيحة كتب عليها سطر واحد : انا انسان.. وترضخ المدينة المتعنتة أخيرا. ترفع أجور عمال النظافة، يسمح لهم بتكوين نقابة، تعدل عقود عملهم، يمنحون امتيازات، ويتم اصلاح ظروف عملهم، وتصلهم برقية تهنئة من نائب رئيس الولاياتالمتحدةالامريكية على تكوين نقابة من ألف عامل في مدينة بعيدة. بس! أنا تكسرت لهذا السبب. لإلتفاتة كنق لعمال نظافة بمدينة صغيرة. عزيزي القارئ إني ادعو فآمن : اللهم افتح بصيرة زعمائنا وقادتنا السياسيين وهم ينادون بمؤتمر دستوري جامع هنا، وتحالف قومي هناك، وحلف صلح عريض في كل مكان وهم يصدرون بيانات التنديد للملمات العظيمة .. أن لا ينسوا في خضم هذه المهام القومية العظيمة ، لافتة فصيحة يقف خلفها : إنسان.... (اللهم آمين).