كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    تنويه هام من السفارة السودانية في القاهرة اليوم للمقيمين بمصر    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    نتنياهو يتهم مصر باحتجاز سكان غزة "رهائن" برفضها التعاون    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفكر والدعوة في مسيرة الحركة الإسلامية.. أزمة منهج أم شواغل السلطان؟
تأملات واعترافات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر ( 3- 5)
نشر في الصحافة يوم 17 - 11 - 2012

تأثرت الحركة الإسلامية السودانية بالأطروحات الفكرية لحركة الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية في الهند، وسواها من جماعات ورموز الفكر الإسلامي الحديث، فشاعت عندها رسائل الإمام البنا والشهيد سيد قطب، ومفكرين آخرين مثل محمد الغزالي والقرضاوي وسعيد حوي ومحمد قطب والمودودي، وبدرجة أقل مالك بن نبي وعلي شريعتي، وفتحي يكن والغنوشي ومحمد باقر الصدر وغيرهم، غير أن التأثر الأكبر كان بأطروحات زعيمها ومفكرها الدكتور حسن الترابي، الذي سعى لتمييزها فكرياً، بدعوته لتجديد الفكر الإسلامي لمواجهة أسئلة أسلمة الحياة باعتبار أن أكبر تحديات الدعوة والدعاة المسلمين هو إحياء الاجتهاد لتقديم إجابات اسلامية عن قضايا الحياة المستجدة في السياسة والحكم والاقتصاد والفن والمرأة، وقدم الرجل في بعض هذه القضايا أطروحات بدت صادمة للعقل المسلم الجامد على قوالبه التقليدية وتراثه القديم، وقد أثارت تلك الاجتهادات جدلاً وحيوية فكرية ساهمت في إثراء الفكر الإسلامي بمفاهيم ورؤي جديدة ومثيرة، تقبلها البعض بأثر قدرات الرجل الهائلة وبيانه الناصع وجرأته المعروفة في استخدام منهج الصدمة والإثارة في تحريك جمود العقل المسلم الكسول، ورفضها آخرون لما رأوا فيها خروجاً على ما ألفوه من قوالب الفكر والفقه.
والحق يقال إن إسهامات الدكتور الترابي ميزت الحركة بشخصيتها الفكرية على منهاج التجديد، وردت كثيراً من الشباب الى أمهات الكتب وأصول الفكر الإسلامي، وشجعت إعادة طرح الأسئلة والبحث عن إجابات جديدة، حتى أصبح عادياً أن تجد الطلاب في الجامعات وحتى «المدارس الثانوية» يقرأون ويتجادلون حول كتب «أصول الفقه الاسلامي» «ومصطلح الحديث» ومدارس التفسير، وامتد أثر هذه المدرسة الجديدة الى خارج السودان وتأثرت به حركات إسلامية خاصة التونسية، وكثير من الافراد والشخصيات المهتمة في العام الإسلامي، وكان ذلك مدخلهم للتأثر بالتجربة في أبعادها الأخرى.
ولم يبرز للحركة مفكر في حجم الترابي، وإن برز شراح وتلاميذ نجباء له مثل التيجاني عبد القادر وأمين حسن عمر والمحبوب عبد السلام وسيد الخطيب ومحمد وقيع الله والكرنكي، وعشرات الكتاب والمثقفين، ظلوا على وفاء وفهم وحماس وإضافات معتبرة لأطروحات مدرسة التجديد، الى أن فرقهم الإنشقاق الأخير الذي ضرب الحركة، ولم يضرب فقط تماسكها التنظيمي ولكنه مزقها على الصعيد الفكري والنفسي والاجتماعي أيضاً، ومضى كل منهم لما اختار إلا بقية من ود وذكريات مشتركة رعاها بعضهم وجفاها أكثرهم.
وكانت أهم اجتهادات الحركة التجديدية تخاطب القضايا العملية في العمل الإسلامي، مثل قضية المرأة وخروجها للحياة العامة ومشاركتها السياسية والاجتماعية، وقضية الثقافة والآداب والفنون والموسيقى والمسرح والاقتصاد الاسلامي، والمشاركة والمصالحة مع الأنظمة غير الاسلامية «النميري والمصالحة»، القوانين والتشريعات والمسألة الدستورية، إضافة الى قضايا نظرية أخرى مثل تجديد الفقه الاسلامي ومصطلح الحديث.
أما كسب الحركة في مجال الدعوة فقد كان مركزاً بشكل أساسي على عضويتها في الجوانب المعرفية والسلوكية، وكان الحرص أن ينال العضو جرعة مناسبة من التعرف على الفكر الإسلامي بما هو متاح، مع تشجيع وان كان غالبه خاضعاً للاجتهادات والاهتمامات الفردية للاقتراب والمدارسة في القرآن والفقه والحديث والسيرة والتجويد، وكانت الاسر التنظيمية هي الحاضن لكل هذه المناشط، ثم الخروج بهذه المعارف لدعوة الناس من خلال منابر المساجد على قلة المسموح للإخوان بالنشاط فيها، والجامعات والمدارس والقرى والأحياء، عبر وسائل المحاضرات والدروس وأحاديث المساجد، وحلقات التلاوة والحفظ والتجويد، والأسابيع والمواسم الثقافية بالجامعات والمدارس والأحياء، والمعسكرات الطويلة والقصيرة والجوالات، وبرامج الصيام الجماعي وقيام الليل، وتوزيع الكتيبات والنشرات والكاسيت، ولاحقاً عروض الفيديو، والقوافل الصيفية للأقاليم، والاحتفال بالمناسبات الدينية، و.. والخ
وكان تأثير هذا النشاط واضحاً في تثبيت وتعميق الفكر والقيم الحركية لدى الاعضاء والداخلين الجدد عبر «التجنيد الفردي والجماعي» وإشاعة التدين خاصة في أوساط الشباب والطلاب.. ولكن «وآه من لكن» أين هذا الآن؟!
ومن المؤكد إن تراجعاً كبيراً جداً قد حدث للحركة الاسلامية في مجمل إنتاجها الفكري والدعوي، فما عاد لها من جديد تضيفه الى ساحات الفكر الاسلامي، كأن ذلك المعين قد نضب، وعادت كسولة خاملة، كما كانت تنعي على المسلمين والحركات الأخرى، بل تراجعت حتى في أطروحاتها التجديدية، وتوزع بنوها بعضهم الى رحاب الفكر السلفي الذي كانوا أقرب اليه قبل دعوة الترابي التجديدية، وبعضهم الى حلقات وأوراد الصوفية قاعدة الاسلام الأولى في بلاد السودان، وصدق من قال إن الحركة الآن لايجمعها فكر واحد ولكنها عالة على مدارس اسلامية كانت تراها الى وقت قريب رمزاً لتخلف المسلمين وغربتهم الفكرية، ولكنها اليوم أقل منهم كسباً فكراً وعطاءً دعوياً.
اما سوح المساجد والمنابر والمناشط والإنتاج ذي الصفة الدعوية، فإن عهدها به ليس قريباً، حتى قالوا عن أنفسهم وقال عنهم الناس تلك العبارة الصادمة الأليمة التي تلخص حالنا وحالهم «لقد أدخلنا الإسلاميون المساجد ودخلوا هم في الأسواق»، والحقيقة المرة أن الحركة الآن لم تعد مقصداً للمتدينين ولا قبلة لطلاب الحق، ولا قدوة للشباب، ولا تحمل أشواق الجيل نحو مستقبل للإسلام والدعوة، وليس لديها ما يجذب قاصد تدين، أو يروي ظامئ هداية أو معرفة، وليس في كل أئمة وعلماء وخطباء الحركة من يقصده الناس لسماع ما يفتقدونه كما يحدث مع آخرين مثل الشيوخ: عبد الحي يوسف أو محمد عبد الكريم او أبو زيد محمد حمزة أو الصائم ديمة والسماني الشيخ سعد الدين أو علاء الدين عبد الله فقيه المالكية. ويستوي في هذا الحال شقا الحركة ومؤتمراها الوطني والشعبي.
السؤال المهم: ما سبب كل ذلك؟ وهل تملك الحركة رغبة وقدرة وإرادة للمراجعة الجادة الصادقة؟ وهل من سبيل للحركة لاستئناف رسالتها؟ وهل ترى أن الفكر والثقافة والدعوة أولويات وأموراً مصيرية ام إنها خطرفات مثقفين فارغة، و «تنظير» لا يعني اهل العمل كما يصرح بعضهم؟ والي أي مدى هو الاستعداد للمراجعات والأوبة الى رحاب الفكر والدعوة باعتبار ذلك أساساً لكل رسالة الحركة؟ وهل هي على استعداد لدفع ثمن هذه التوبة؟أم أن تلك محض أحلام لذيذة، ونجوى ذكريات تاجر غني ضربه الإفلاس واستبد به الحنين الى ماضيه الزاهر وأيامه الخوالي؟
لا أحد يدعي قدرة على إجابة شافية مانعة في مقال أو حتى كتاب واحد على مثل هذا السؤال، لتداخل وتشابك عناصر الاجابة عنه، ويتداخل في ذلك السياسي مع التنظيمي مع العالمي، ولكن دعونا نحاول تلمس بعض الطريق الى سبيل الرجعى أو الاعتبار أيهما شاء ربنا.
«1»
ظن كثير من أبناء الحركة «وبالطبع بناتها أيضاً» أن الدولة هي غاية الغايات ومنتهى الرجاء وسدرة المنتهى لمشروع التغيير والتحول بالمجتمع نحو الإسلام، وتوهمنا أن أدوات السلطان وحدها قادرة على إنجاز كل ما يراه الدعاة ضرورياً لتمكين الدين وقيمه في المجتمع، ومنشأ هذا الاعتقاد ما ساد في أدبياتنا من فهم قاصر لمقولة: «إن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن» ومفاهيم كثيرة مغلوطة حول الحاكمية والشريعة وطاعة الحاكم كون الناس على دين ملوكهم، ومقولات مبالغ فيها عن التبعية المطلقة لشعوب العالم الثالث لحكامهم، ونحو ذلك من المفاهيم غير الدقيقة.
كما أن الحركة دفعت بمعظم وخيرة كوادرها للدولة سياسيين وتنفيذيين وخدمة مدنية وعسكرية، وانشغلوا بمعارك تثبيتها في مواجهة أعاصير وحروب وتحديات داخلية وخارجية لا تنتهي، واستوعبت كل طاقتهم، واستنفذت كل جهودهم، وشكلت توجهاتهم واهتماماتهم وخبراتهم، وانفق في سبيل تلك المهام الحكومية المال والتركيز والإمكانات، وأصبح الفكر والثقافة والدعوة وعافية المجتمع في دينه وأخلاقه وقيمه محض نوافل وترف ليس له الا فضول الكادر والمال والاهتمام، وصادف ذلك هوى لدى الكادر الذي تجذبه الوظيفة السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية، اما الدعوة والفكر فلا تستهوي الا قلة لم تجد غيرها دوراً أو مجالاً للعطاء والوظيفة، في وقت برز فيه آخرون من الجماعات الإسلامية التي ملأت الساحة التي لا تحتمل بطبعها الفراغ بكوادرها المتميزة المهمومة بالعلوم الشرعية والدعوة على منهاجها، ووجد فيهم الناس بديلاً ملأ عليهم حياتهم.
«2»
تركت الحركة فراغاً فكرياً بعد أن توقفت اجتهاداتها في مسار الاقتصاد الاسلامي، بعد الدفقة الأولى التي أنجزت تجربة البنوك اللاربوية وشركات التأمين الإسلامية والزكاة، وهذه كلها اجتهادات وإنجازات جريئة وموفقة، كان الأمل أن تمضي لتكمل البدايات في طريق هداية الاقتصاد الى سبيل ومقاصد الشرع، ولكن تجمداً قد وقع على هذا الصعيد، ففترت التجربة، وأثيرت حولها الملاحظات والاستدراكات لجهة مدى تمثلها لهوادي الشريعة في الاقتصاد، وكان حال الحركة في ذلك كمن خطط لبناء شاهق من عدة طوابق ولكنه ولسنوات اكتفي بالطابق الأول، حتى أن محاولات الوزير عبد الرحيم حمدي رائد التحرير الاقتصادي في السودان بدت كأنها انحياز مطلق لنظريات الاقتصاد الرأسمالي ووصفات مؤسسات التمويل الدولية، فلم يسند التجربة الاقتصادية للإنقاذ اجتهاد متماسك يبني على سابق اجتهادها على هذا الصعيد حتى قبل وصولها للسلطة، حتى أسلمت البلاد للقروض الربوية لمشروعات التنمية الكبرى تحت دعاوى الضرورة، في زمن انهيار الاقتصاد العالمي الرأسمالي الفقير لهداية لقيم الاقتصاد الاسلامي فبدا جلياً «عجز القادرين على التمام»
«3»
تواضعت لحدٍ بعيد محاولات التأصيل في تجربتنا على صعيد التعليم ومناهجه رغم البدايات «المتحمسة» والتنمية الاجتماعية والثقافة والفنون والسياحة والعلاقات الخارجية والسياسة وأنظمة الحكم وحقوق الإنسان، وقد كان الرجاء أن تنهض سياسات الحركة والدولة على قاعدة تأصيلية تنجز إجابات وبرامج ناتجة عن اجتهاد عميق يقارب هدى الشرع في كل ذلك، ولكن تم الاكتفاء بما تنتجه الخدمة المدنية.
«4»
ضمرت حركة التأليف والنشر والإنتاج الفكري والعلمي والفني، مع استقبالنا لمعارض الكتاب العربية، والفنانين من كل حدب وصوب، ولكن أين كتابنا ومفكرونا وعلماؤنا، وشعراؤنا، وفنانونا ومسرحيونا؟ صحيح ان شعبنا بطبعه شفاهي الثقافة، ومبدعينا يغلب عليهم الكسل والإحباط والتثاؤب وضعف المبادرة، ولكن مع ذلك فإن مبادرات وسياسات الدولة وحركتها في ذلك جد متواضعة، ولا أعرف كيف نبني مشروعاً بسمات فكرية على كل هذا اليباس والجدب الثقافي القاحل، لقد تراجعت حتى حركة الفنون فصعد على السطح وغلب عليه فن وفنانون يلتف حولهم ملايين الشباب، ولكن للاستماع الى غناء هو بكل تأكيد يناسب عصراً آخر لا عصر ادعاء حاكمية حركة معنية بعقول وأفكار وأفئدة الناس.
اما أجهزة التوجيه والإعلام من إذاعات وصحافة وتلفزيون ومواقع الإنترنت والأندية ومراكز التوجيه، فهي مثال لحال الجدب والتصحر، غناء يمهد لغناء آخر، وطرب يسبقه ويعقبه طرب، حتى أشاع الأعداء أن الحكومة تقصد بذلك الهاء الجماهير عن القضايا الجادة وتعويضها عن بؤس عيشها طرب يخفف معاناتها الحياتية، حتى في امسيات شهر رمضان المبارك.
وليس مفيداً الاكتفاء بلوم هذا الطرف أو ذاك، او تبرير أمر والدفاع عنه أو نفيه، ولكن المطلوب مراجعة أسباب غياب الرؤية والبديل، فالحياة لا تحتمل الفراغ.
«5»
غلب على دولة الحركة الاسلامية المرجعية السلفية برموزها ذات الحضور الكثيف في أجهزة الإعلام وبرامج الفتوى والإرشاد فيها، والمساجد وكليات وأقسام الشريعة والأصول بالجامعات والمراكز والجمعيات النسوية والدعوية، وربما كان بعض ذلك بأثرٍ من خلفية سلفية راسخة في العديد من عناصر الحركة التي وجدت سبيلها ممهداً بعد الانشقاق الشهير وتراجع أطروحات الفكر التجديدي إثر الهوة النفسية مع رمزه الدكتور الترابي المناوئ للحكومة.
لقد غلب الفقه والنهج السلفي على اجهزة الإعلام والفتوى العامة التي كانت يغلب عليها فقهاء المالكية قبل الإنقاذ، وغالبهم من المتصوفة «الشيوخ عوض الله صالح، عبد الجبار المبارك ومجذوب مدثر الحجاز». ولكن قائمة الأسماء البارزة اليوم في هذا الجانب تؤشر إلى مقدار التحولات فيه، إذ تكاد الساحة تخلو من رموز دعوية محل ثقة الناس وإقبالهم من أبناء الحركة الإسلامية إلا استثناءً نادراً.
أما الطرق الصوفية فقد وقع اهتمام كبير بها من الإنقاذ غلب عليه هدف طلب النصرة السياسية لما لهم من عمق جماهيري معلوم، وإن بات واضحاً إقبال كثير من أبناء وبنات الحركة الإسلامية على التصوف بحثاً عن روح للتدين، خارج المتاح في حركتهم والحركة السلفية، وتلك ظاهرة لها دلالاتها التي يجب ان تكون محل تأمل من الجميع.
«6»
أما المساجد والمراكز والمعاهد الدعوية النسوية والعامة، فإنها تكاد تكون خارج اهتمامات وفعل الحركة الإسلامية مقارنةً بماضي عهدها فيها، والأسباب أوردنا بعضها في هذا المقال، وجوهرها الانشغال والاستغناء بالدولة عن الدعوة، وإعطاء الدعوة فضول الاهتمام والكادر والمال.
غير إن سبباً آخر لا يقل أهمية عن سابقاته ساهم في تراجع الوجود والفعل الدعوي المؤثر للحركة الإسلامية، وهو تآكل صدقيتها وسمعتها بفعل الدعاية الكثيفة ضدها واتهامها بالفشل والضعف والفساد والتهافت على السلطة على حساب قيم الشورى والحرية وإنتاج نموذج سلطوي أقرب للاستبداد، تلك الاتهامات يؤخذ منها ويرد، ومحل جدل وخلاف بين الحركة وخصومها، حول موضوعيتها ودرجتها والمبالغة في تضخيمها، ولكن المؤكد إن الأداء السياسي للحركة في الدولة رسم صورة سالبة وهز مصداقيتها كثيراً، «وما كسبت أيدينا» من السلوك والأداء محل اعترافنا كافٍ لينال من قدرة منتسبي الحركة على أن تكون لهم كلمة مسموعة، وقدوة مطاعةً تجعلهم محل إقبال الناس ليتلقوا على ايديهم العلم والموعظة أويأخذوا عنهم الفتوي، خاصةً الشباب الذين يجذبهم المثال والقدوة والأنموذج قبل العلم والفصاحة والمعرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم ما خاطب قومه بدعوة الله واستجابوا له إلا لأنه «الصادق الأمين».
تلك بعض شوارد رأي ليست بالتأكيد محل تنزيه أو اتفاق، ولكنها صرخة موجوع، وأنة مجروح، وصوت مشفق على حركة أودعناها الخصيب من سنوات عمرنا، فإن رأى فيها أهل الشأن بين يدي مؤتمر الحركة الثامن بعض صواب يعين على تصويب المسيرة على الصدق والوضوح، فذاك مبتغى كاتبها، وإن لم يروا فيها ذلك، فالخير في ما يختار السميع البصير، الذي نسأله أن يرنا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.