عرفته قبل فترة وجيزة، وكم تمنيت لو أنني عرفته قبل سنوات وسنوات.. فسيف الدولة عبد الرحمن الماحي الذي عرفته لم يكن إنسانا عاديا.. وإنما كان طاقة متفجرة وينبوع عطاء...قوي الشخصية والعزيمة...لا يخشى في الحق لومة لائم..يقول كلمة الحق ولو على نفسه أو عشيرته الأقربين... يتمتع بشهامة ومروءة... كثير التفكّر والتأمل... رحل عن ديارنا في عجالة وأخذ معه الكثير الكثير مما كان ينوي قوله وفعله .. ولم تتح له المنية متسعا من الوقت ليعبّر عن مكنونات نفسه المثقلة بالهموم والأفكار التي كان ينوي ترجمتها على أرض الواقع.. رحل عنا سيف الدولة كغيمة ضحى عجلى.. لم تمهلنا كثيرا لنمتع أنظارنا بها.. ورحل عن أسرته الصغيرة قبل أن ترتوي من فيض حنانه الدافق.. فحتى في حياته العامرة، قبل مماته، لم يكن سيف الدولة ليستقر في مكان واحد.. وإنما كان كالنحلة في الهمة والنشاط.. لم يكن لينام قبل أن يكمل مهمة قد بدأها.. ولم يكن ليجلس في مكان قبل أن يذهب لآخر لتكملة جوانب العمل الأخرى..وكان رحيله أيضا شبيها بمسيرة حياته..قضى اليوم السابق لوفاته في صلة الرحم.. إذ قام بزيارة كافة إخوته في منازلهم في ذلك اليوم في صحبة رفيق دربه حافظ الذي حدثني أنه كان قد أصرّ عليه أن يتفرغا لزيارة كل أهله في ذلك اليوم... وفي صبيحة اليوم التالي عاجله الداء وتخطفته يد المنون خلال ساعات فقط.. صحبته مؤخرا في رحلتين للعاصمة الأثيوبية أديس أبابا: إحداهما للإعداد لمشروع مدرسة الجالية السودانية هناك..والثانية لافتتاحها.. وجدت فيه الأخ والصديق والزميل (شيّال التقيل) الذي يسأل عن حالك قبل نفسه.. ووجدت فيه الشهامة والمروءة والانفاق بسخاء.. ووجدت فيه حسن التدبير وبعد النظر.. ووجدت فيه ربّ الأسرة المثالي الذي يتفقد أحوال أسرته ويتابعها بالهاتف ساعة بساعة..يتفقد حال ابنه الماحي وأخوته في السودان.. ويضع سماعة الهاتف ليتفقد حال عبد الرحمن ودراسته في ماليزيا.. ينام في الهزيع الأخير من الليل.. ويستيقظ في ساعات الفجر الأولى...يضع الخطط والبرامج ويبدي النظرة الثاقبة للمهمة التي ذهبنا من أجلها.. رحل عنا سيف الدولة.. ولا تزال كلماته ترن في مسمعي.. لن ننسى سيرته.. ولن ننسى صحبته.. ولن ننسى فصاحة لسانه وبيانه وخطابه الذي ينساب دررا وجواهر تسحر السامع.. لقد اجتمعنا أخوة في الله.. وافترقنا أخوة في الله.. فنسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا في الفردوس الأعلى.. "إنا لله وإنا إليه راجعون". والعزاء واجب لأسرة الفقيد ولأهله وعشيرته بالدروشاب والباوقة بنهر النيل، ولمنسوبي مؤسسة التأصيل التربوية التعليمية بشمال بحري، وهيئة تدريس وطلاب مدرسة الجالية السودانية بأديس أبابا، ومجلس إدارتها الذي فقد عضوا فاعلا ومؤثرا، وتضاعفت عليهم الأعباء حاليا، وعزاؤنا أن ذلك المجلس يضم الأستاذ الجليل والمعلم الفاضل كمال الدين المجذوب، ومحجوب عبد الرحمن الماحي اللذين لا يقلان عن الفقيد في تحمل المسئولية، وتضاعفت عليهما أعباء المدارس والأسرة ولكنهما أهل لها إن شاء الله، وسيحملان اللواء من بعده، ويضم المجلس أيضا حافظ عباس الذي عرف الفقيد عن قرب ولازمه كثيرا، ونتعاهد جميعا أن نكمل المسيرة من بعده: زائلة الفانية ..زي غيمة الضُحى الرحّالة كل صبحا جديد ..تصبح مَعَاك بحاله يوما تفرحك ..ويوما دموع بهّالة رحل الليلة سيف.. فارس البيلوي عَلاله مشعل نور سطع ..كم بيهدي جهالة يا بحر العلوم.. مُشْرَعْ ورودك دَالة في الجود والكرم قلبك حديد سندالة كفك يخجل الرَذَمَتْ نزل تَعّاله أصلو الموت مصير مهما العمر ما طالا سائلين الكريم سبحانه جلّ تعالى الفردوس سكونك في الجنان تتعالى الحور الحسان جنبك يمين وشمالا