٭ في تاريخنا الإسلامي جوانب مشرقة ومضيئة خاصة في العلاقة بين العلماء والحكام باعتبار أن العلماء هم السراج المضيء بالنسبة للحكام وأن الحاكم اذا كانت مجالس شوراه ومقربيه من العلماء فقلما يضل السبيل. والعكس صحيح، بمناسبة العام الجديد والعالم الإسلامي كله أو معظمه مضطرب واصبحت العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة تحيط بها كثير من الظنون والشكوك ، وانعدمت الثقة بين الاثنين تماماً ومرد ذلك كله في تقديرنا هو الظلم وعدم العدالة في توزيع الحقوق. لقد كان الامام العادل عمر بن العزيز من أكثر الحكام بعد الخلفاء الراشدين استماعاً للنصح والارشاد من العلماء وقد كان ذلك سبباً في نجاحه كحاكم عادل لم يتكرر مثله في تاريخ العالم الإسلامي. ان العدالة من المُثل الاساسية التي جاء الإسلام ليقررها بين بني الانسان فالعدالة ضرورية لاقامة الحق في كل مستوياته، وضمان العدل يشيع الطمأنينة وينشر الأمن، ويشد علاقات الافراد بعضهم ببعض، ويجعل الروابط بينهم قائمة على التوازن والانسجام والاخاء ولا يتحقق العدل في الحكم الا بايصال كل ذي حق حقه والحكم بمقتضى ما شرع الله من أحكام، فالله تعالى يأمر كل حاكم ان يحكم بين الناس بالعدل ولا يتبع الهوى فيضل عن سبيل الله القويم، ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العدالة تمكن للحاكم أمره، فاذا ما ترك العدل بين الناس اختل نظام الحكم وزالت الدولة «ان هذا الامر في قريش ما اذا استرحموا رحموا، واذا حكموا عدلوا واذا قسموا قسطوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين». نحن نريد من خلال هذا المقال أن نتعرف على صورة مثالية بين حاكم وعالم في رسالة ودية بينهما تحمل جملة من النصائح للحكام تعينهم في دينهم ودنياهم، فقد بعث الامام الحسن البصري رسالة الى أمير المؤمنين عمر بن العزيز، جاء فيها: اعلم يا أمير المؤمنين، أن الله جعل الامام العادل قوام كل مائل، ومصدر كل حائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصرة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والامام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحفي على ولده، يسعى لهم ويعلمهم كباراً، يكتسب لهم في حياته ويدخر لهم من بعد مماته، والامام العادل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة، الرحيمة بولدها حملته كُرهاً ووضعته كُرهاً وربته طفلاً، تسهر لسهره وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه تارة وتفرح بعافيته وتُغم بشكايته، والامام العادل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى وخازن المساكين، يربي صغيرهم ويمون كبيرهم، والامام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوارح تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده. والامام العادل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده يسمع كلام الله ويُسمعهم وينظر الى الله ويريهم، وينقاد الى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبدٍ ائتمنه سيده واستخلفه ماله وعياله فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله وفرق ماله، وأعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف اذا أتاها من يليها، وأن الله جعل القصاص لعباده فكيف اذا قتلهم من يقتص لهم، ولعل واقع الحال اليوم خير دليل على ذلك كما هو في سوريا وغيرها من العالم الإسلامي، في هذا الجزء من الرسالة يُذكر الامام الحسن البصري أمير المؤمنين بواجباته تجاه رعيته وشعبه بأسلوب رصين وسلس، فيه من الأدب الرفيع ما ينم عن فقه الامام ومعرفته بأحوال ومقامات الرجال فلا يتطاول على الحاكم بعلمه وانما يخاطبه بأسلوب عاطفي جذاب «يا أمير المؤمنين» وهذا النوع من الاسلوب الخطابي يمكن أن يكون منطلقاً لفقه يؤسس للعلاقة بين الحاكم والمحكوم من منظور إسلامي خالص حتى تكون العلاقة قائمة على النصح وليس على النقد غير المؤسس. الجزء الثاني من الرسالة من الأهمية بمكان فاذا كان الجزء الأول يعالج القضية بين الحاكم والمحكوم فان الجزء الثاني من الرسالة عبارة عن نصائح تربوية خاصة بالحاكم تعينه على أداء مهمته وتذكره بعدم التشبث بالحياة الدنيا الفانية، وهذا الحال ينطبق على معظم حكام المسلمين اليوم من الذين لا هم لهم سوى جمع المال وبناء القصور بينما شعوبهم يقتلها الجوع والمرض والحروب، فمما جاء في الجزء الثاني من الرسالة قوله: «وأذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه فتزود له وما بعده من الفزع الأكبر. وأعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه رقادك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قعره فريداً وحيداً، فتزود له ما يصحبك »يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه». وأذكر يا أمير المؤمنين وأنت في مهلٍ قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلية، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فانهم لا يرقبون في مؤمن الاً ولا ذمةً، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل اثقالك واثقالاً مع أثقالك، ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك ويأكلون الطيبات باذهاب طيباتك في اخرتك، ولا تنظر قدرتك اليوم ولكن أنظر الى قدرتك غداً وأنت مأسور في حبائل الموت وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين وقد عنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً. اني يا أمير المؤمنين وان لم أبلغك بعظتي ما بلغه أولى النُهى من قبلك فلم آلك شفقةً ونصحاً، فانزل كتابي عليك كمداوي محبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من الصحة والعافية والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. انتهى، معالم الثقافة الإسلامية.ص 81 و82. هذه الرسالة الهامة اردنا أن نهديها لحكام المسلمين بمناسبة العام الجديد وبمناسبة قدوم مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي وضعنا على المحجة البيضاء، وحقيقة نحن نتألم لواقع المسلمين وهم يموتون بالجملة ويسجنون بالجملة ويشردون من أوطانهم ويعانون كل ألوان الاذى ليس من العدو وانما من حكامهم الذين يقتلون ويذبحون أبناءهم من أجل أن يظل الحاكم حاكماً مدى الحياة دون مراعاة لأدنى الحقوق الانسانية فهل هؤلاء مسلمون حقاً؟. لقد ابتلانا في اخر هذا الزمان بحكام لهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بها ولهم عقول لا يفقهون بها، ولهم رعية لا يهتمون بأمرها وشأنها كأن الواحد منهم يرعى قطيعا من الحيوان، حتى أبسط القيم الانسانية فقدوها فأين العدالة لتقرير الحقوق والواجبات ، وفي اقامة العدالة الاجتماعية، فالإسلام الذي ينتمي اليه هؤلاء الحكام ينظر الى الناس بنظرة العدل والتساوي، لأنهم من أصل واحد فليس لاحد حق مكتسب منذ الولادة، كما هو الحال لدى أبناء الملوك والأمراء حماة العقيدة والدين- كما يزعمون- فالفرص في الحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية في الإسلام متكافئة أمام الجميع دون تمييز لأحد بسبب جنسه أو لونه أو طبقته، فحق التعليم لجميع المواطنين، وحق الحياة للجميع لأن الدم البشري محرم لكل حال ولا يجوز سفكه الا بالحق، وحق التملك ما دام يتم بالطرق الشرعية المعروفة، وحق حرية التصرف في الحدود الشرعية، وحق حرية الفكر فيما لا يخالف مقاصد الشريعة الإسلامية، كل هذه الحقوق تكاد تكون منعدمة تماماً وان وجدت تكون في شكل منةً من الحاكم الذي يعطي من يشاء ويمنع من يشاء. هذه الرسالة البليغة تعكس لنا مدى سعة صدور الحكام المسلمين الاوائل الذين لا يضيقون ذرعاً بنصائح الناصحين من العلماء وأُولو الفكر، لكن للأسف خلف من بعدهم خلف أضاعوا كل القيم الجميلة والمُثل والأخلاق في مجال الحكم والسياسة والعدالة الاجتماعية، أصبح الحاكم في عصرنا هذا يلتف حوله البلطجية وأصحاب المصلحة والهوى، ولو قدر لعالم من العلماء أن يتقدم بنصح لحاكم في البلاد الإسلامية فجزاؤه الصاق تهمة التطرف والارهاب والانتماء للقاعدة، وماذا بعد الانتماء للقاعدة كلكم تعلمون، فبالله عليكم كيف لأمة لا تحترم علماءها ولا تأخذ بنصائحهم أن تتقدم خطوة واحدة الى الأمام، ومما لا ريب فيه أن واقع الأمة الإسلامية المعاصرة يمثل منعطفاً تاريخياً لم يحدث أن عاشته الأمة من قبل، تفرقاً في الرأي والهدف، واختلاف في الأهواء والانتماءات، وبالتالي تحزباً وتعصباً، ولا شك أن هذا الواقع المؤلم يقود الى أسئلة هامة كيف ولماذا وصل الأمر بالأمة الإسلامية الى هذا الواقع المتردي مع أنها تملك وسائل النهوض التي حُرم منها الكثير من البلاد الأخرى، فالأمة الإسلامية تملك الأرض والماء وتملك الثروة والطاقة، وتملك العقول وأصحاب الرأي- الذين لا تقيم لهم وزناً- ولذلك فان معظم البلاد الإسلامية تأكل مما يزرع غيرها، وتلبس مما يصنع غيرها، وتستعمل الآلات التي صنعها غيرها كذلك، فأين الخلل اذاً؟ ولماذا والى متى سيظل العالم الإسلامي يحيا على هامش التاريخ بعد أن كان صانعاً له، ولعل من أهم الأسباب التي أوصلت الأمة الى هذا الواقع المؤلم افتقاد الأنسان لارادته وذاتيته في ظل الاوضاع الاستبدادية، وخاصة أهل الرأي والفكر في معظم البلاد الإسلامية، ان ارادة النهضة لا يجسدها في الواقع الا عقول هؤلاء العلماء والمفكرين، والسؤال الذي يطرح نفسه هل هيأت الأمة الإسلامية لعلمائها ومفكريها البيئة النفسية والمناخ الفكري الصالح لكي ينشغلوا بقضاية الأمة كما تفعل الأمم الناهضة مع علمائها ومفكريها وقضايا البحث العلمي. ان كثيرا من البلاد الإسلامية تملك من الثروة ما لا تملكه البلاد الناهضة ولكن تذهب ثروات البلاد الإسلامية في النزوات والأهواء الشخصية والصرف على اللهو واللعب بينما العلم والعلماء في مؤخرة اهتماماتهم. ان ظاهرة الاستبداد في العالم الإسلامي قد أثر في نهضة الأمة تأثيراً سلبياً، لقد قتل الهمة والارادة والعزيمة في الانسان، والانسان حين يخالجه الاحساس بضياع حقوقه وامتهان كرامته ومحاصرة عقله وفكره ورأيه واستلابه حق التعبير والمشاركة في تدبير شؤون وطنه فان ذلك كله ينعكس على الأمة حيث ينسحب المفكر وصاحب الرأي من ساحة العمل الوطني، وقيادة الأمة ليحل مكانه صاحب الهوى، وذوو الثقة لدى الحُكام فيسند الأمر الى غير أهله ، والويل كل الويل لأمة أُسند الأمر فيها الى غير أهله، عند ذلك تسود النزعات الفردية ويحل الظلم والطغيان محل العدل والمساواة وهذا هو النذير العريان في خراب العمران وسقوط الدول كما يقول الدكتور محمد السيد في كتابه قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، ص 287 و288، هذا الواقع الأليم جعل المسلم المعاصر يعيش حالة انهزامية نفسية يستشعر خلالها نوعاً من الاحساس بالدونية اذا ما قارن واقعه المعاصر بواقع الأمم الناهضة شرقاً وغرباً. ان النهضة الإسلامية الاولى لهذه الامة كانت بالعلم والعلماء، وتراجع دور الأمة تماماً عندما أتبع الحكام أهواءهم بغير علم، فرسالة الامام الحسن البصري يا امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يحتاجها كل حاكم مسلم في عصرنا هذا لأن ما جاء في هذه الرسالة من نصائح يشكل منهجاً ودستوراً ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم والتابع والمتبوع، بالاضافة الى هذا فان أية عبارة من هذه الرسالة تعتبر موجهاً وتخطيطاً لسياسة ما، سواء في الجانب الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي فهذه هديتنا لحكامنا المسلمين بمناسبة العام الجديد 2013م ومولد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فاعتبروا يا أولي الأبصار.