للتاريخ والتطور التنموي والسياسي دور رئيس في حدم الجدل حول مفهوم «الشعبوية»، وبخاصة حول دلالاتها الاصطلاحية، التي ذهبت بها بعيداً عن أصلها اللغوي في النسبة إلى «الشعب». وكان هذا الكاتب قد حاول المساهمة في العودة بمفهوم «الشعبوية» إلى البيت اللغوي، ومن ثم تطويره في هذا المسار، المبرر والمسنود، نحو آفاق أخرى قد تكون اصطلاحية لكنها لا تنبَتّ أو تنفك في معناها عن الجذر اللغوي، وصولاً إلى نسق متجانس بين اللغة والاصطلاح والمدلول، وخدمة لقضايا ذات أثر بارز في النهضة عموماً وفي التنمية السياسية بوجه خاص. ولا بد من تسجيل الفضل، في استفزاز عودة هذا الكاتب من بعد عقدين انصرما لمفهوم «الشعبوية»، إلى نخبة واعية من الكتاب الأصدقاء يلتقون ويتحاورون عبر الأثير الالكتروني.. وكان مفهوم الشعبوية مادة لحوار حديث الابتداء والنشأة. إن التعقيد الذي شاب معنى هذه الكلمة «الشعبوية» قد يكون هو السبب وراء احتدام الجدل حول معانيها، لكن قد يكون الجدل هو الذي أسهم في تعقيد هذه المعاني وتداخلها.. لهذا ربما كان الأفضل البدء بشيء من التحرير الضروري لمدلول «الشعبوية». لنبدأ إذاً، بأكثر التعاريف وسطية واعتدالاً، وهو التعريف الوارد في موقع «ويردنت» الالكتروني، الذي يعرف «الشعبوية» (Populism) بأنها تعني «المبدأ السياسي الذي يدعم حقوق العامة وسلطانهم في مواجهة الصفوة». Populism is the political doctrine that supports the rights and powers of the common people in their struggle with the privileged elite. ومع اعتداله وموضوعيته فإن هذا التعريف فاروق وفارز بين أخطر قسمين ذوي علاقة بمفهوم «الشعبوية»: الصفوة السياسية الثقافية الفكرية من جهة، والعامة من الناس من جهة أخرى. وتكمن هذه الخطورة في إمكان الاستقطاب السياسي في حال المواجهة بين الفئتين، لكنه استقطاب تمنعه حاجة الصفوة إلى العامة وأكثريتها في دعم مشروعاتها السياسية، بسبب ضرورة ومشروعية الاحتكام إلى رأي الأغلبية، كما هو الحال في مبدأ الديمقراطية، وهي ضرورة ومشروعية تحتمان احترام الناس، الأكثر عدداً في مقابل الأقل عدداً، متى ما تساوت المعايير الأخرى ولم يبق إلا التفضيل بين الأمزجة والرؤى المتجانسة مع ثوابت المجتمع السياسي، مثل قانونه ودستوره وأعرافه والقيم. وفي هذه الحالة يقتضي هذا الاحترام أن يسود رأي الأغلبية على رأي الأقلية، مع احترام حقوق الأقلية الأساسية من الانتهاك في مواجهة التمييز السالب أو السطوة الرقمية للأغلبية. وثمة تعريف آخر، لا يخلو من انحياز واضح ضد «الشعبوية» بالمعنى المتقدم، يرى أن «الشعبوية يمكن تعريفها بوصفها آيديولوجية أو فلسفة سياسية، أو نوعاً من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير غير المثقفة بالحجاج الجماهيري لتحييد القوى العكسية، حيث يعتمد بعض المسؤولين على الشعوبية لكسب تأييد الناس والمجتمعات لما ينفذونه ويعلنونه من السياسات، وللحفاظ على نسبة جماهيرية معينة تعطيهم مصداقية وشرعية». هذا التعريف مأخوذ بحرفه من موقع «اليوم دوت كوم» وهي مجلة إلكترونية يرأس تحريرها محمد القبي، إلا أنه معتمد لدى الفئات المناهضة للشعبوية بوجه عام، أو الناقلة لمثل هذا التعريف المتداول دون التمحيص فيه، وهو قريب جداً من التعريف الوارد في موقع ويكيبيديا التفاعلي الذي يجيز للقراء الإسهام في نشر المعاني والوقائع والأفكار أو تعديل ما ينشر بكل حرية، بناءً على فرضية عدم الاجتماع على خطأ. ومن عيوب هذا التعريف الأخير أنه يرتكز، ليس على «ماهية» الكلمة المراد تعريفها، بل إلى «الاستخدام» الذي يمارسه البعض، والسياسيون خاصة، توظيفاً للشعبوية في خدمة أغرضهم السياسية أو الفكرية. وبهذا يكون التعريف قد حاد عن غرضه الموضوعي، إن كان ثمة غرض موضوعي لمصدر التعريف، منحدفاً إلى غرض آخر يخدم مصلحة مصدر التعريف. والطريف أن هذا الانحراف يطول مبادئ أخرى، مثل الدين، فلا يفرق البعض بين ماهية «الدين» وفق مصادره الموثقة، وبين «استخدام» الدين لدى البعض لخدمة الأغراض السياسية أو الفكرية، التي كثيراً ما تكون منبتّة عن الدين ومفارقة له ولقيمه. ولعل هذا الإشكال هو سبب الحديث اللانهائي عن العلاقة بين الدين والدولة، إلا أن تفصيل ذلك يستحق أن يفرد له مقال بحاله. فلا اختلاف إذاً في «احتمال» استخدام الشعبوية بصورة ديماجوجية تدغدغ مشاعر الجماهير من العامة غير المثقفة من أجل تحييد الصفوة، أو «القوى العكسية» كما جاء في التعريف الأخير. لكن إلى حين ذلك «الاستخدام» الانتهازي لمفهوم الشعبوية يجب منطقياً الوقوف عند أصل المفهوم وماهيته فحسب.. كونه يعبر، في ميدان السياسة، عن هموم العامة وحقوقهم وسلطتهم المجتمعية في مواجهة دعاوى الفئة الصفوية. ويبدو حينئذٍ أن «أصل» الشعبوية ليس مرتبطاً، ولا ينبغي له أن يكون مرتبطاً، بسلبيات الممارسة، التي قد تطول هذا المفهوم، من قبل الانتهازيين والوصوليين السياسيين، الذين يسيئون استخدام العواطف الجماهيرية لتحقيق أغراضهم في الكسب السياسي الدنيوي، كما يظهر أيضاً أن الشعبوية مفهوم محايد تماماً، إلى حين ذلك الاستخدام الانتهازي. بل يظل «المفهوم» نظيفاً حتى بعد هذا الاستخدام، ولا يطول الاتساخ إلا هؤلاء المستخدمين الانتهازيين، لا مفهوم الشعبوية نفسه. ومن هذا المنطلق يمكن أن يكون للشعبوية استخدام حق، وتطبيق فاضل ومثمر، خدمة للجماهير، وتعبيراً أميناً عن همومها وقضاياها الجامعة للغالب من أفرادها في إطار المجتمع السياسي الواحد. ومتى صدق هذا التعبير، مثل ما صدق ضمن أمثلة عديدة في تاريخ البشرية، كانت الشعبوية نظاماً صالحاً من حيث المفهوم ومن حيث التطبيق. ويذكر من هذه التجارب التجربة الأمريكية إبان حروب التحرير، والتجربة الغاندية، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال وصفها بالصفوية حتى وإن كان قائدها متعلماً ومثقفاً.. طالما كان قادراً على تجسيد رؤى عامة الناس، وتصعيد السلطة الشعبوية من أجل رفع الظلم الواقع على الشعب، وهذا في تقديرنا استخدام أمين لسلطان الشعب، طالما أن ثمرته تعود للشعب نفسه، ولا يقدح في ذلك اشتمال التصعيد الشعبوي على استنهاض للضمير الجمعي للشعب، ولذات القيم التي يؤمن بها، بل إنه من المعلوم أن الأعداد الكبيرة لا تجتمع على باطل في أغلب الأحوال، ومعلوم بالمقابل أن جل المؤامرات الدنيئة إنما تحاك في غياب الشفافية وغياب الرأي العام وسلطان الجماهير. إن الأساس الفكري للسلطان الشعبوي يكمن في حرص الأعداد الكبيرة على اتباع العرف السائد والقيم السائدة والمبادئ المتوارثة، وهو ما قد لا يروق بعض النهضويين، بمختلف منطلقاتهم. فدعاة النهضة، بمختلف مدارسهم ومشاربهم الفكرية، هم أيضاً دعاة تغيير، وبعضهم رواد له، وهذه الريادة نعترف بأنها لا تأتي بطبيعة الحال من العوام، بل تأتي من أهل العلم والثقافة، وهذه من محامد الصفوة في أي مجتمع، بل هي استجابة لمسؤوليتهم التي تطولهم بحكم نعمة العلم والثقافة. إلا أن خطاً أحمر يجبُ أن يكون قائماً بين مثل هذه الريادة، المفترض فيها أن تكون أمينة وموجهة لخير المجتمع كله، وبين السعي، مثلاً، لهدم «المؤسسات المجتمعية التقليدية» كما هو شعار بعض التوجهات اليسارية. إن الحكم بأن المؤسسات «مفهومية كانت أو هيكلية» هي مؤسسات بالية، وسيئة، أو رجعية، يُقتضي فيه مراجعة جميع فئات الشعب، للتعبير عن رغائبهم وتوجهاتهم وأشواقهم، والتعبير عن الأشواق والرغبات لا يحتاج لكثير علم أو ثقافة، فضلاً عن أن العوام وهذا جد مهم ليسوا عاطلين عن الثقافة والعلم، اللهم إلا إذا حصرنا العلم في دائرة التعليم النظامي الرسمي المؤسسي، وهذا انحراف عن جادة التعريف الحق للعلم، والذي يجب ألا تُحصر مصادره في المؤسسة النظامية وحدها، خاصة في أمة ترى في الوحي مصدراً من مصادر العلم، سواء أكانت تلك الأمة مسيحية أو مسلمة أو غير ذلك من الأمم المتدينة في غالبها. أما في حال المسلمين فقائدهم الفكري الأول لم يكن متعلماً نظامياً، بل كان أمياً، لكنه كان ينبوعاً للحكمة، مهما أساء أتباعه النهل والتطبيق بشأن تلك الحكمة الهادية إلى الصراط المستقيم. لما تقدم، فالأصوبُ، عند التعامل مع مفهوم الشعبوية، التفريق بين أصل المفهوم، وبين سوء استخدامه واستغلاله، خاصة أن مسيئي استخدام المصطلح هم غالباً من فئة الصفوة لا من فئة العامة.. أي أن الشعبوية مفهوم نظيف، وأن اتسخ فالمسؤول عن ذلك آخرون، لا الشعبويون. والأجدر أيضاً ألا يستحي الشعبويون أمثال هذا الكاتب من الانتماء للشعبوية، التي هي مجرد أسلوب في التعبير عن حق جمعي في المجتمع، تعبيراً أميناً خالياً من الانحراف أو الانتهازية أو الفوقية أو القعود عن النهضة في جميع ميادين الحياة العامة.. والشعبوية الحق تستصحب معها الأمناء المخلصين من أهل الصفوة «الثقافية والسياسية والفكرية»، ممن هم قمينون بتحقيق الريادة النهضوية في المجتمع من خلال قدرتهم على سبر أغوار المعرفة الداعمة لسلطان الشعوب.