من الطبيعي أن يثير موقف الولاياتالمتحدة من نتائج الانتخابات دهشة الجميع، السودانيين وغير السودانيين، إذ يأتي مخالفا للفكرة السائدة بأن أمريكا دولة ديمقراطية لا تعشق إلا الديمقراطيين، ودولة حقوق إنسان لا تحترم إلا من يحترم حقوق الإنسان، ودولة تخطئ ولكنها تكره الكذب. فرئيسها الأسبق بيل كلينتون ارتكب حماقة التحرش بالمدربة الشهيرة ذات الفستان الأزرق الملطخ بالخطيئة، وعندما جرت مساءلته لم يساءل عن الخطيئة ولكن عن الكذبة التي اعتبرت أخطر وأفدح وأسوأ تصرف يتصرفه رئيس دولة لا يقر مجتمعها الكذب ولا يحترم مواطنها الكذاب. دولة هذه قيمها كيف تسمح لمبعوثها الرئاسي جوناثان سكوت غريتشن أن يدعي أمرا ليس حقيقيا، بقوله إن الانتخابات الرئاسية والولائية والتشريعية في السودان بها قدر من النزاهة، ثم عاد ليعلن أنها مزورة وهم يعلمون أنها كذلك ولكن لمقتضى الغايات السامية والأهداف النبيلة باتمام عملية السلام حتى رمقها الأخير، ونبضها النهائي، تغاضى الأمريكيون الطرف عن التزوير وتبعاته وآثاره. صحيح يعلم الجميع أن الولاياتالمتحدة تتخذ من البراجماتية فلسفة في سياساتها الخارجية حيث لا معنى للعواطف والصداقات والمشاعر الإنسانية أو المبادئ المتحجرة، لأن « الأصل في التعامل هو المصلحة والمنفعة «.. ولذلك فالعقيدة المعمول بها في وزارة الخارجية وما يتبعها من مواقف وسياسات ورؤى ترى العبرة بالمنفعة وليس بأي معيار آخر أو قيمة أخرى. وشهادة السيد غريتشين لها قيمة كبرى على المستوى الدولي خاصة عندما قال حرص على الفصل بين الانتخابات والقبول بها والاعتراف بنتائجها، وقضية المحكمة الدولية التي تلاحق المتهمين في قضية الجرائم الإنسانية التي ارتكبت في حق مواطني دارفور. فقد فهم العالم ماذا تريد الولاياتالمتحدة وعرف السودانيون عامة ماذا تهدف واشنطن من تصرفاتها غير المستساغة لدى السودانيين، والأهم أن المؤتمر الوطني الحاكم يعلم علم اليقين لماذا قال غريتشن ما قال فهللوا له وكبروا مرارا، فرحا واغترارا، بأن الولاياتالمتحدة شهدت لصالحهم..فما استبانت الأمر إلا ضحى الغد عندما عاد المبعوث الأمريكي ليكشف عن سريرته ويكمل جملته « المفيدة « التي أغضبت الخارجية السودانية إيما غضب ودفعت مندوب السودان الدائم إلى الاحتجاج على تلك التصريحات « غير المسؤولة». رغم ما يدعيه القادة والمسؤولون في المؤتمر الوطني بالنباهة والحصافة والذكاء، فقد غاب عنهم المصيدة التي اعدها لهم غريتشن بارسال إشارات مغرية تطمئن قلوب المزورين للانتخابات بأن واشنطن لا يهمها كيف تجري الانتخابات إنما يهمها نتائج الانتخابات كمحطة مهمة في الطريق نحو إجراء استفتاء حق تقرير المصير لجنوب السودان.. إشارات غريتشن اسقطت عن قلب المؤتمر الوطني هما ثقيلا، إذ باركت النتائج قبل إجراء الانتخابات وهو الأمر المطلوب في هذه المرحلة، أما ما بعدها فهذا شأن آخر إذ لكل مقام مقال. وبتصرفه المربك هذا نبش غريتشن في ذاكرتنا وذاكرة التاريخ تفاصيل الجلسة التاريخية الشهيرة بين الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وسفيرة الولاياتالمتحدة لدى بغداد عام 1990، السيدة ابريل غلاسبي والتي اشيع حينئذ أنها اغرت صدام عبر إشارات مشابهة ومبهمة لإشارات غريتشن بغزو الكويت. وقد كان فحوى الإشارة بأن واشنطن لا يهمها كثيرا ما يجري بين دولتين عربيتين ولا ما يجري في حدود العراق والكويت.. فهم صدام تلك الإشارة بأن واشنطن اتخذت موقف الحياد، وأن رد غلاسبي كان كافيا بمنحه الضوء الأخضر الأمريكي للاجتياح، غير مدرك أن فخاً قد نصب له وللعراق وللأمة العربية جمعاء..فبلع الرجل الطعم وهو مزهو بانتصاراته في الفاو على الجمهورية الإيرانية الإسلامية، التي اعتبرت مصدر خطر على دول الجوار. وبهذه الإشارة التي تخالف النصيحة، ارتكب صدام حماقته الكبرى، وفعل ما فعل، وحدث بعدها ما حدث من كوارث ونكبات ونكسات وهزائم واحتلالات وجرائم وفوضى. وتجلت تلك الحماقة التي اعيت من يداويها في عدم استدراك ما تخطط له الولاياتالمتحدة، بل تجلت في أن يطمع صدام بنيل جائزة امريكية متمثلة في قبول واشنطن باجتياحه الكويت للسيطرة على آبار نفطها، كمكافأة مقابل تصدي جيوشه المزهوة بالنصر على «الثورة الإسلامية « التي كانت في حالة هيجان وفوران وأحلام تتجاوز حدود إيران إلى بلدان العالم العربي.. كانت المكافأة هي المصيدة التي وقع فيها صدام حسين...وأشيع لسنوات طويلة أن غلاسبي هي التي اوحت للرجل، مجرد إيحاء ليس إلا، بالمكافأة وبصورة غامضة وجدت عقلا مستعدا لفهم الإيحاء وتفسيره حسب ما يرغب ويريد، دون التمعن في الكلمات والمفردات، بل حتى دون التفكير في التداعيات والعواقب، مقتنعا بأن غزو الكويت وضمه إلى العراق سيجعل الولاياتالمتحدة ودول الجوار ترضى ب « الأمر الواقع « والتعامل معه كحقيقة لا مناص في التعامل معها بروح رياضية وقبولا حسناً. ربما لم يكن صدام مدركا بأنه بلع الطعم الذي كانت تعده الولاياتالمتحدة للسيطرة على المنطقة بإيحاء من إسرائيل التي كانت تتخوف من القوة العراقية الناهضة..فشرعت في التخطيط لتفكيك قوة العراق بوضع استراتيجية لتفتيت الدولة والسيطرة على النفط وضرب المشروع النووي وتكسير القوة العسكرية التي اكتسبت خبرات قتالية هائلة خلال ثماني سنوات في حربها مع إيران. وهذا ما حدث فعلا بعد ذلك وتم للولايات المتحدة، ومن ورائها إسرائيل، ما ارادت.. فكان المخطط الذي تأكدت فصوله خلال الأعوام اللاحقة هو تفتيت الأمة العربية، بدءاً من الأطراف وصولاً إلى المركز وشل قدرته واستلاب طاقته وتضييع بوصلته. فالعراق خير مثال للحماقة التي اودت بوحدته وسلامة أرضه وسيادته وجعلت داخله متنازعا بين طوائف وأعراق ومذاهب وثقافات. وقبل أربعة عقود كان النابهون في تحري المخططات الإسرائيلية والأمريكية يحذرون من أن مشروع التفتيت والتمزيق سوف تتضاعف وتيرته خلال الثمانينيات والتسعينيات، وهو الأمر الذي حدث بعد حدس، ووقع بعد حذر، واكتمل بعد تهيأت ظروفه على أرض الواقع في العراق والسودان وفلسطين، والآن اليمن وغداً المغرب وفي الحبل على الجرار. والناظر بتمعن في أحوال كل الساحات المستهدفة بالتمزيق في العالم العربي أو في أفريقيا يكتشف اسلوبا يكاد يكون متطابقا في كل التجارب، صراعات ثقافية ومذهبية وعرقية تحرك الثوابت وتهز المحرمات لتصبح قضايا لا حل لها إلا الانفصال والتقسيم والتفتيت. وفي كل تلك الساحات كان المخططون يبحثون عن أداة هينة ولينة تتستر بالقوة والرهبة والحزم، فتقود الدول إلى المصيدة كالشاة إلى الذبح. ألا يرى النابهون كيف يتحول حزب يدعي القوة ويتحدث عن رباط الخيل والزود عن حياض الوطن، إلى عجينة تعركها الإغراءات بالسلطة والثروة لتتشكل في يد الأمريكيين لتصبح أيقونة الانفصال ورمز التفتيت، وأداة التقسيم. وهو ما حدث في السودان الذي يقوم فيه بهذه المهمة حزب حمل كل مظاهر الحماقة والاستعلاء بجانب ما يحمله في قلبه من تناقضات جوهرية مع الثوابت الوطنية السودانية، ومع التاريخ والجغرافيا ومع الهوية والانتماء. فالوطنية ليست شعارات تهتف بها المسيرات المليونية، ولا البيانات العسكرية، إنما هي وعي بالواجبات في البداية وتضحيات بالروح والدم في النهاية. وما بين الوعي بالواجبات والتضحية بالدم تتجسد قيم عظيمة في سلسلة طويلة من الأعمال والسياسات والممارسات والرؤى والأفكار، تقف في مقدمتها العدل والصدق والشجاعة ونكران الذات والنزاهة وعفة اللسان وطهر اليد. وهي قيم يفتقدها المؤتمر الوطني الحاكم حسب ما تشهد عليه التجربة والممارسة، بدءا بالانقلاب الذي قام به في 30 يونيو 1989 إلى الانتخابات التي أجراها في مارس 2010. فالشهادة على الاستئثار بالسلطة والثروة مكتوبة بخط « الطول والعرض» من حلفا إلى نيمولي ومن الفاشر إلى كسلا. فجر الإستئثار ب « الفتنتين « إلى حروب وصراعات ودمار. فتحقق الشرط الأول من شروط تهيئة السودان للولوج إلى الصراعات العرقية، بعد أن كان الصراع مجرد مظالم لا تخرج عن المطالبة بحكم ذاتي في أسوأ الفروض.. وبوجود « الجبهة الإسلامية « في السلطة تحول الصراع إلى صراع هويات، فتحقق الشرط الثاني في تهيئة السودان للتفتت. فكان وجود المؤتمر الوطني الذي عمل بقوة السلاح على قيام «دولة إسلامية» شرط لازم لانتقال الجبهة الجنوبية إلى جبهة مطالبة ب « دولة « غير عربية وغير إسلامية. وانتقلت العدوى بالتحريك والتخطيط إلى دارفور الذي جعل المظالم السياسية والاجتماعية الاقتصادية منبرا للدعوة إلى مماثلته بالجنوب، وكانت البدايات مجرد مطالب عادية تحولت إلى مطالب جمة دخلت في مبررات « الهوية « والصراعات العنصرية والعرقية وهذا ما مطلوب دولي لإيفاء شرط قيام دولة في دارفور.. ودارفور عصية على حكم المركز، ليس فقط لعدم إمكانية حل المشكلة عسكريا، إنما لأن دارفور خرجت من الطوع الوطني إلى الاغراء الدولي، فلم يعد في يد المركز مهما كانت قوته ووحشيته أن يطوع الإقليم إلا إذا تغيرت السياسات وتعدلت المواقف بما يغري أهل دارفور بالمشاركة وفق أسس مختلفة عما اعتمدته الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهو أمر يكاد يكون مستحيلا في ظل الظروف الراهنة التي زادتها نتائج الانتخابات سجما وسخما. تحت هذه الوطأة السياسية أو بالأحرى المأزق الخطير الذي يعيشه السودان، جاء الوقت ليسأل قادة المؤتمر اليوم، وليس غدا بعد فوات الأوان، انفسهم السؤال الذي بدأوا به انقلابهم هو هل يمكن إنقاذ السودان من التقسيم والتفتيت والتمزيق..؟ الآن بعد انتخابات مزورة ومزيفة، وبعد أن دانت لهم السلطة كاملة في كل مستوياتها واجهزتها ومؤسساته برضا غريتشن وإغراءاته المتعددة، وبموافقة سلفاكير وإقراره وبصمه بالعشرة، ماذا سيفعل المؤتمر الوطني بالسودان..؟ هل بقي وقت لإعادة الحسابات والمراجعات والتيقن بارتكاب الخطيئة الكبرى..أم يظلوا في غيهم وغيبتهم وغيبوبتهم والوطن يتفتت تحت بهارج الفرح باكتساح الانتخابات المزورة..؟ هل يتمعن قادة المؤتمر في مصير العراق وصدام وصحبه الذين فرحوا بدخول الكويت وبلعوا الطعم فوجدوا انفسهم ملاحقين من باب إلى باب، ومن قرية إلى قرية..؟ فقد زينت له حماقاته أنه بإنقلابه على النظام الديمقراطي سينقذ السودان.. وحتى الآن يتوهم قادة المؤتمر الوطني أنهم أنقذوا السودان، ولكن لم يقل أي من قادته حتى الآن: أنقذوه من من؟ هل كان السودان على شفا حفرة من التفتت والانقسامات والتجزؤ فجاءوا لتوحيده ..؟ فإذا كان الأمر كذلك فماذا يسمون ما يجري الآن بيدهم وتحت سلطتهم..؟ من سيحملون الجريمة إذا انفصل الجنوب بعد أقل من عشرة أشهر..؟ ودارفور بعد ثلاث سنوات..؟ اسئلة نطرحها دون أن نقصد بها المؤتمر الوطني في شخصه، فلم يعد له ضمير كي نخاطبه، ولم يعد له رؤى بعد ما ملأت إغراءات غريتشن كل جوانحه وجوارحه ولبه، فلم يعد يبصر إلا السلطة ولا يهوى إلا الثروة.. والعياذ بالله من شرهما.