: الدور الكبير الذي لعبه الشعر العربي السوداني إبان الدعوة المهدية لعب الشعر العربي السوداني دوراً بارزاً وكبيراً لا يقل عن السيف في مناصرة الدعوة المهدية، وذلك بما له من إلهاب جذوة الدعوة، وأن مهام القصائد الثورية أشد وقعاً وألماً في صدور أعداء الثورة من وقع الحسام المهند، ومن هنا تأتي أهمية القصائد الثورية. ومن أروع ما نظم في الشعر العربي السوداني الحماسي الذي بشَّر بتحرير الخرطوم قصيدتان رائعتان من ضمن مجموع قصائد كثيرة وهما رائعتا (محمد عمر البنا) و (الحسين إبراهيم زهرا). وكذلك إلى جانب هاتين الرائعين نجد قصيدتين ضافيتين صورتا معركة الخرطوم، وهما قصيدتا (الشيخ محمد أحمد هاشم) و (الشيخ محمد طاهر المجذوب)، وأعد القارئ بأني سأتناولها لاحقاً لإلقاء الضوء عليهما بإذن الله. رائعة الشاعر الكبير (محمد عمر البنا) وقبل أن نلج إلى رائعة الشاعر الكبير الشيخ الجليل (محمد عمر البنا) نشير إلى الكلمة المؤثرة التي ألقاها الراحل الأديب الصحافي السيد حسين شريف في تأبين الشاعر محمد عمر البنا، قائلاً عنه إنه كان قارئاً مجوداً للقرآن وقد حباه الله بصوت جميل، علاوة على ذلك كان أحد شعراء دولة المهدية.. كان يعبق بالسمو الروحي والوجداني، وكان يتفرد في قيم الفروسية والنجدة، وأصبح من الذين يُشار إليهم بالبنان في الارتقاء بهذا النوع إلى مراتب عليا، حتى أتته المنية في الثالث من فبراير 1919م. ولا شك أنها تعتبر مقدمة على القصائد الحماسية التي نظمها الشاعر بمناسبة تحرير الخرطوم. وقد قيل أن الشاعر نظمهما في مدينة الرهد قبل شهور من معركة تحرير الخرطوم، فكانت مقدمة وفاتحة خير بشرت بتحرير الخرطوم. وعندما أنشد الشاعر (البنا) رائعته هذه أمام الامام المهدي طرب الإمام لهذا المعنى وأبدى إعجابه بها، وأثنى عليه وتجاوب مع معانيها البليغة وما دلت عليه. وطرب الامام لهذا المعنى واستحسنه، وروى الاخياريون أن الامام كان يستمع إلى الشعر الداعي إلى الفضيلة والهداية والحكمة، وكان يطرب للمعنى الكريم فيه. وردد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل (إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا) عندما استمع لشعر الخنساء المكلومة على أخيها صخر. وكان الإمام المهدي كثيراً ما يستدل في بعض خطبه الحماسية بمطلع القصيدة: الحرب صبر واللقاء ثبات الموت في شأن الإله حياة والمتأمل في مطلع هذه القصيدة يجد أن عجز البيت جاء مكملاً لصدر البيت من ناحية البناء الشعري الفني، أما من ناحية المعاني فإن صدر البيت جاء مكملاً لعجز البيت. وهما يؤديان معنى كبيراً. وتراه استخدم في هذا البيت الصورة البلاغية والجمالية بإسناد الصبر إلى الحرب، ولا شك ان الصبر هو عمود الإسلام، وهو مفتاح النجاح لكل العبادات الأخرى، واسناد الثبات للقاء واسناد الحياة للموت في سبيل الله، ثم الموت في شأن الله، حيث يجد المؤمن المجاهد حياة جديدة أفضل من حياته الدنيوية، قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل الآية (169 170) من سورة آل عمران (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون(169) فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون(170). وكأنما اقتبس شاعرنا (البنا) هذا المعنى من الآية، وكيف لا يستقيم ذلك وصاحب الدعوة قال قولته: (انا عبد مأمور بإحياء الكتاب والسنة المقبورين حتى يستقيما). ولما كان الأمر كذلك فقد أحيا الامام المهدي فريضة الجهاد في سبيل الله وفي سبيل الوطن حمايةً للأرض والعرض. وقديماً قيل: (إن حب الأوطان من الايمان). إن الشاعر (البنا) في رائعته هذه يخاطب المجاهدين أصحاب الإمام المهدي ويحرضهم ويحثهم على الجهاد في سبيل الله، فالجبن عار والشجاعة مكرمة، والإنسان لا ينجو من الموت ولو كان في بروج مشيدة فعلامَ الخوف والتردد؟ الجبن عار والشجاعة هيبة للمرء ما اقترنت به العزمات والصبر عند البأس مكرمة ومقدام الرجال نهاية الوقفات والاقتحام على العدو مزية لا يستطيع لنيلها غايات والعمر في الدنيا له أجل متى يقضى فليس تزيده خشيات فعلام خوف المرء إن خشى الوغى نفس الكريم وحانت الأوقات والفخر كل الفخر بيع النفس لله العلي وأجرها الجنات وهنا يبدو ظاهراً البناء المتماسك للقصيدة، ونجد أن كل بيت له معنى كبير، وكل كلمة تفسر بعضها مثل الجبن عار والشجاعة هيبة باختيار جميل، وأيضاً الصبر مكرمة والاقتحام مزية، وتظهر آيات القرآن الكريم في بعض أبيات القصيدة مما ينم عن تعلق الشاعر بألفاظ القرآن، مجسداً قول الله سبحانه وتعالى: (إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستخرون). ونجد الشاعر يستخدم لفظ الحرب بالوغى متجنباً التكرار والاستفهام. وفي قوله علامَ يزيد المعنى قوة وتأثير، مؤكداً أيضاً تأثيره بالقرآن في قوله (بيع النفس)، مستنبطاً ذلك من قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة). ثم يخاطب شاعرنا الفذ: إن الجهاد فضيلة مرضية شهدت بمحكم أجرها الآيات قد حاز هذا الافتخار جميعه صحبة الإمام السادة القادات قوم إذا حمى الوطيس رأيتهم شم الجبال وللضعيف حماة ولبساهم سرد الحديد وبأسهم شهدت به يوم اللقاء القارات وخلوفهم صدأ الحديد وبأسهم قتل الأعادي عندهم عادات في السلم تلقاهم ركعاً سجداً أثر السجود عليهم سيمات وتخالهم يوم الجهاد ضراغماً أسد وأسل رماحهم غايات ومما يسترعي الانتباه استخدامه للجمع في الفاظ عدة.. صحبة.. سادة.. وحماة.. وركع.. سجد.. وأسد.. رماح.. مما يدل على تمكن الشاعر من اللغة واستخدام عبارة حمى الوطيس التي لم يستخدمها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين عندما قال (حمى الوطيس) أي اشتدت الحرب، وفي قوله أيضاً لباسهم سرد الحديد مستمد من قول حسان بن ثابت عندما مدح الأنصار، وانظر المعنى البلاغي الجميل في قوله قتل الأعادي عندهم عادات حسن تعليل جميل - حيث أوضح انهم يقتلون أعداء الله لتعودهم على ذلك. ولا ينسى الشاعر ان يصور المعركة تصويراً دقيقاً ورائعاً باستخدام التشبيه الجميل في قوله والخيل ترقص كأنها فتيات. وقد شاهت الوجوه بين ضحكات السيوف وصهيل الخيول، فقد عقدت اللجم واحتدم القتال، وروى النزيف البشري رمال الأرض، وها هي جثث الأعداء تغطي أرض المعركة حتى أصبحت طعاماً يشبع منه النسور فتنقض عليهم بمناقيرها لتسد جوعها. ركبوا الجياد وغادروا شلو العدا رزق النسور ولحمهم أقوات والخيل ترقص بالكمات كأنها تختال في ميدانها فتيات فأثرن نقع الموت في عرصاتهم واغرن صبحاً إذ علت أصوات وذباب أسياف المنية فوقها رعفت دماً وجلاؤها الهامات وأرض سالت بالدماء وما بها غير الجماجم والشعور نبات هكذا أحيا الإمام المهدي سنة الجهاد، وكذلك كان الأنصار أحباب الإمام، يتوقون إلى لقاء الله طلباً لشهادة ولا شيء أمامهم غير نصرة الدين. وكانوا يرددون الجلالات دائماً وشعارهم على الدوام (في شأن الله الدين منصور). هذه هي الثورة الحقيقية في مراحل غليانها، وهنا يقف التاريخ مشدوهاً ومشدوداً ومبهوراً أمام انتصارات الإمام المهدي، وكيف تحولت الدعوة إلى ثورة عارمة جارفة.. وكيف انتصر الضعيف على القوي؟ فأصبح الضعف قوة.. والقوة ضعفاً. وهنا تتجلى عظمة الدعوة المهدية. وهي من ضمن الكرامات التي لازمتها، وتجلت أيضاً عظمة الشعب السوداني والتفافه حول قائده، مسجلين بطولات وشجاعة لا مثيل لها تظل أبد الدهر مفخرة لهذا الشعب، وحق علينا أن نفخر بذلك بين الأمم. حتى قال عنهم (تشرشل) قولته المشهورة: (كانوا أشجع من يمشي على الأرض، مروا بالآلة ولم يقهروا، وتلك علامات الرجولة الصامدة). ويسجل شاعرنا (البنا) في رائعته هذه البطولات فيقول: يا أيها الأنصار إن صنيعكم شكر الإله له وتلك هبات أعليتموا دين الإله ما بكم إلا الثبات تزينه الوثبات وشرحتموا صدر الرسول محمد بالفتح وانكشفت بكم ظلمات والفخر فخركم وفخر سواكموا محض إدعاء ما له إثبات ثم ينتقل الشاعر (البنا) إلى المجاهدين أنصار الله وأحباب الإمام المهدي محرضاً لهم لتحرير الخرطوم من دنس المحتلين، مستأنساً بقول الشاعر العربي: (السيف أصدق إنباءً من الكتب) أنتم جهابذة كرام ما لكم في الصدق من شبه ولا شبهات وإذا العناية قارنت عزم الفتى نجحت مساعيه وهان ممات فإلى متى أنتم قعود تنظرون لوعدهم وهم الجميع خُزات السيف أصدق ناصح في حقهم والقتل فيهم حسنته أساة قوموا لهم وتأهبوا للقائهم ولتقصدنهم في الديار أمات أجلوهم من دورهم فلأنهم كتب الجلاء لهم وحق شتات ولك أن تتأمل الاستعارة الجميلة في قوله «إذا العناية قارنت عزم الفتى» وهنا يظهر التشخيص الجميل للعناية بأنها امتنان تقارن عزم الفتى، ولما فرغ شاعرنا (البنا) من رائعته من تعبئة الأنصار قام بتوجيه الخطاب إلى قائد المسيرة وحادي الركب الثائر محمد أحمد المهدي: يا سيد وسع الأنام بحلمه واستمطرتهم بالهدي والبركات فانهض إلى الخرطوم إن بسوحه أهل الغواية والمفاسد باتوا بطروا ولاهم ثم صدوا معشراً في الله لم تعرف لهم رغبات وتكبرو وعتوا عتواً فائقاً والله أكبر والسيوف هداة نبذوا الشريعة من وراء ظهورهم عن دينهم شغلتهم الشهوات الله أكبر أن يديم صنعهم هذا وأنتم للأنام رعاة خذ جيشك المنصور لا تحفل لهم ولتتقدمن أمامه الرايات الشاعر الفحل الحسين إبراهيم زهرا: هو من قرية أم عظام ضواحي المسلمية، وتلقى تعليمه في الأزهر الشريف وحصل على الشهادة العالمية. وبايع الإمام المهدي في الجزيرة أبا، وكان من حسن الصدف أن تقابلا هو والأمير عبد الرحمن النجومي في ذلك اليوم، وكان خامس قاضي قضاة السودان. وتوفى عام 1895م، أي قبل معركة كرري بثلاث سنوات. ومما لا شك فيه أن الشعر الحماسي الوطني هو وقود المقاومة الوطنية، وهو زاد المجاهدين الروحي المعنوي الذي يدفعهم إلى خوض المعارك، وقد سبق هذا الشعر معركة تحرير الخرطوم. وبالفعل قام الإمام المهدي بعقد مجلس الشورى الذي أوصى بالزحف نحو الخرطوم. ولما لم تجد الإنذارات والمواعظ فتيلاً كانت المعركة الفاصلة. وإذا كانت رائعة البنا قد بشَّرت بتحرير الخرطوم وسبقت كلماتها المعركة، فإن الشاعر الفحل (الحسين إبراهيم زهرا) قد شهدت عينه المعركة وشارك فيها، فصورها في رائعته الهمزية الضافية. وقد استهل شاعرنا الحسين رائعته بمدح الإمام المهدي حادي الركب وقائد الثورة: برح الخفا ما الحق فيه خفاء وتعالت الآيات والأنباء فالأمر جد والقلوب مريضة والداء داء والدواء دواء والحادثات مصاعق بمنابر بعظاتها تتوضع الأشياء والحق أظهر أن يرى بشواهد لمَ لا وقد قامت به الأسماء وبعد أن أصبحت الثورة في حكم المؤكد واعترف بواقعيتها وأنها أصبحت حقيقة ماثلة ولا مجال لإنكارها إلا على خفاش ينكر ظهور ضوء النهار، مدح الإمام المهدي قائلاً: مهدي رب العرش منتظر الورى وإلى الولاء والأكرمون وراء السابق ابن السابقين إلى الهدى من معشر نتجت بهم زهراء بشرى لنا بظهور مهدي الورى إيه ونعمى بعدها نعماء ثم يتجلى شاعرنا المبدع الحسين إبراهيم زهرا ويرسم بريشته صورة ذات ظلال وألوان عن نتائج معركة الخرطوم.. ويأسى على صور الخراب والدمار الذي أصاب العاصمة المأهولة بالسكان، إذ دخل الهلع والرعب في قلوب النساء والأطفال.. ولذلك كان الإمام المهدي حريصاً كل الحرص بأن تستسلم الخرطوم بلا قتال، الشيء الذي جعله يطيل في وقت الإنذارات والمواعظ. ولكن أمام تحديات (غردون) وحماقته وصلفه اضطر الؤمام لتنفيذ قرارات مجلس الشورى القاضية بالهجوم على الخرطوم لتحريرها من دنس الطغاة أعداء الله. وهي صورة بريشته تعبر عن جسامة الحدث الثوري: في ثاني أيام الدنية عُطلت بيض المها وجواهر ونساء والله دمر من طغى وأباده حتى توالى قتله الضعفاء ولقد تبدد جسمه برماحهم فكأنه من خلقه أشلاء خاتمة: مثل هذا الإبداع الرائع أما كان من الإنصاف أن يكون ضمن المناهج التربوية التعليمية؟ نأمل أن تنال هذه المناشدة اهتمام المختصين بالتربية والتعليم حتى يتمكن الطلاب من المعرفة والعلم بالدور الكبير الذي لعبه الشعر العربي الحماسي السوداني إبان الثورة المهدية.