صوروه قبل أسبوعين وهو جالس على كرسي ككرسي أصحاب الاحتياجات الخاصة، وتقف عليه إحدى حفيداته وفي يدها بشكير صغير أو منديل كبير تمسح به ما يسيل من لعابه، وقد حطت الأربع وتسعين سنة بكلاكلها على جسده المتهالك الشائخ.. هذا نفس مانديلا الذى كان فى شبابه يمارس هوايتي الملاكمة والجرى فتأمل!! هذه آخر صورة لنيلسون مانديلا البطل القومي لجنوب افريقيا، وأول رئيس لها أسود في الفترة من عام 1994 1999م، وأيقونة التحرر الإفريقي الذي نحت اسمه في سجل الخلود الإنساني لما وقف ضد سياسة الفصل العنصري الذي كان سائداً في بلاده، وناضل ضده نضالاً طويلاً كلفه حوالى ثلاثين سنة في الحبس. في يوم الأحد الماضي ارتفع رنين أجراس الكنائس في جنوب إفريقيا، وارتفع معه تضرع القساوسة والمصلين سائلين لأب الأمة الجنوب إفريقية الروحى عاجل الشفاء. واليوم «الجمعة» زار رئيس جنوب افريقيا الحالي جاكوب زوما الذي يحلو لأحد زملائنا أن يسميه «جاك أب دومة»... زار مدينة سويتو رمز نضال مانديلا وترحم على أرواح من مات من شهداء النضال هناك، في إشارة واضحة إلى أن البلاد تستعد لتوديع زعيم ذلك النضال وحامل لوائه نيلسون مانديلا.. والذي تقول كل التقارير إنه يرقد في «حالة حرجة لكن مستقرة» وأنت تعرف ماذا يقصد الأطباء إذا قالوا ذلك!! صحيح أن مانديلا توج كفاحه بالغاء الأبارثيد «الفصل العنصري» في دولة جنوب إفريقيا، ولكن كم حقق والعالم الآن يجرد له حسابه النهائي في ما يتعلق بالأفكار التي عاش لها من: «البان افريكانزم» «الجامعة الافريقانية» والعدالة الاجتماعية لسكان افريقيا، وما كان يطالب به هو وآباء النضال الأسود الآخرون من سيطرة الأفارقة على المواد الخام الكائنة في بلادهم والحكم الرشيد والإخوة والوحدة التي تشمل كل سكان القارة السمراء؟ بل وماذا عمل من أجل «الطبقة العاملة» التي تعمل صباح مساء في مناجم جنوب إفريقيا العميقة الرهيبة ويموت معظمهم إما ب «التيبي» أو رصاص البوليس، ويجبرون على عمل شاق ويدفعون لهم أجوراً زهيدة، وماذا عن المشردين والآلاف الذين ألجأهم الجوع وقسوة الحياة في المدن الكبرى وخاصة جوهانسبيرج إلى الجريمة بأنواعها؟ وهل تنبه نيلسون مانديلا إلى عدم عودة الاستعمار الغربي إلى إفريقيا بأي شكل من الأشكال، فقد كان هو وزملاء نضاله يحذرون دوماً من خروج الاستعمار من إفريقيا بالباب ورجوعه إليها بالشباك. وماذا فعل مانديلا حتى لجيرانه في زامبيا الذين كانوا يشكون حتى بعد حكمه لجنوب إفريقيا من أن الأراضي الزراعية الخصبة والمثمرة مازال يسيطر عليها البيض، وانهم لما حاولوا استردادها عوقبت زامبيا وعوقب كاوندا ومرغت سمعته بالتراب، ومارسوا عليه ضغوطاً شبيهة بتلك التي كانوا يمارسونها عند استعمارهم لتلك البلاد؟ وهل يا ترى كان مانديلا راضياً عما حققته منظمة الوحدة الإفريقية التي صارت فيما بعد الاتحاد الافريقي في ما يتعلق بأهداف النضال وأحلام المناضلين؟ وماذا يعني لمانديلا أن إفريقيا تخلصت من الاستعمار وحكمها من أبنائها حكام مستبدون فاسدون مازالت شعوبهم تعاني تحت وطأة حكمهم الظالم المتخلف من نفس الثالوث الذي كان مانديلا يعاني من أجل إسقاطه: الفقر والجهل والمرض؟ علاوة على التبعية العمياء للغرب وأن الغرب الآن لا يحكم افريقيا من أرضها، ولكن يحكمها بالريموت كنترول بل وبالدايراكت كنترول عن طريق الصفوة الإفريقية التي تعلمت وتشكلت على مزاجه وثقافته وأهدافه. باختصار هل مانديلا بطل حقيقي سيستحق الانفجار والضجة والبركان الإعلامي الرهيب الذي سيعقب موته الوشيك؟ أم أن الغربيين الذين سجنوه لثلث عمره نجحوا في أن يجعلوا ثمرة نضاله الطويل الشاق العسير إما «لا شيء» أو « شيء» لا يستحق كل هذه الهالة من التبجيل والإجلال الذي حف به اسم ذلك المناضل الكبير؟! سؤال أخير: هل فكر أحد في أن يعرض الإسلام على نيلسون مانديلا؟! وهل أثرت مناظرات أحمد ديدات التي كانت تجري مع القساوسة في جوهانسبيرج وغيرها من عواصم العالم والتي كان محورها المقارنة بين الإسلام والنصرانية في تفكير مانديلا الديني بأي شكل من الأشكال، أم أن الرجل ظل مستمسكاً بعقيدته وأنه «سيموت على دينه»؟