٭ لمن قد يشكل عليهم فهم عبارة «ترب البنية»، نقول بعد أن نسمي الله، إن «ترب البنية» أو إن شئت «تيراب البنية» هو مصطلح تواضع غالب أهل السودان على اطلاقه على من يزعمون أنهم يعودون الى الحياة بعد موتهم ويسمونهم «البعاعيت» ومفردها «بعاتي»، وهم فئة من الناس حسبما تزعم الخرافات والاساطير ينحدرون من سلالة «البنية»، أما من هى هذه «البنية» الجدة الاولى والمصدر الاول للبعاعيت، فذلك ما لم تكشفه أى خرافة من الخرافات التي سادت وشاعت في أوساط السودانيين ردحاً من الزمان، ولكنها الآن بادت وأندثرت ولم يعد للبعاتي بصورته وهيئته القديمة أى أثر أو ذكر، فتلك حقبة من تاريخ البعاعيت انطوت بعد أن دونت قصصها في سجل الاساطير، ولكن يبدو أن «ترب البنية» قد دخلته جينات جديدة وخالطته دماء أخرى أنجبت بعاعيت تختلف شكلاً ومضموناً عن الاسلاف، بعاعيت موديل القرن الواحد والعشرين، مهندمين وأنيقين ومتعلمين، يحتلون مواقع مرموقة في وظائف الخدمة العامة، ينالون مقابلها المرتبات والعلاوات والبدلات التي يصرفونها آخر كل شهر، اضافة الى أى إمتيازات أخرى يحصلون عليها بحكم مخصصات الوظيفة، بل ويترقون الى الدرجات الاعلى ويسافرون في المأموريات الداخلية والخارجية، ومن بينهم شهداء كانوا قد قاتلوا في حرب الجنوب أو غيرها واستشهدوا في الحرب، ولا تعجبوا فهذه ليست أسطورة أكتبها من وحي الخيال، وإنما هى واقعة صحيحة ومعاشة كما سترون.... تقول المحررة الصحافية اللماحة سعاد الخضر في خبرها المنشور أمس بالغراء صحيفة الجريدة، أن جهاز المراجعة القومي بولاية الخرطوم، كشف عن تجاوزات بالولاية تمثلت في عدم رفع أسماء المنقولين والمفصولين والمعاشيين والمتوفين من كشف المرتبات، وهذا يعني ضمناً أن مرتبات كل هذه الفئات بمن فيهم المتوفين تستخرج لهم آخر كل شهر ويصرفها من يصرفها، ولا ندري هل هم بأنفسهم من يصرفونها أم من ينوب عنهم من أسرهم أم آخرين لا نعلمهم الله وحده يعلمهم، والمثير أكثر للدهشة والعجب أن هذه الممارسة الفاسدة ليست وليدة هذا الكشف الأخير، وإنما تمتد جذورها فيما علمنا الى العام (2002م) والله أعلم فربما كان تاريخها أقدم من هذا بكثير، ففي مرات سابقة كشف نائب المراجع العام عن أجور شهرية ومخصصات وامتيازات وظيفية ظلت تصرف بأسماء شهداء كانوا موظفين بالخدمة المدنية، ليس ذلك فحسب بل ويترقون الى الدرجات الاعلى، ويحصلون للعجب العجاب حتى على بدل الوجبة وبدل الترحيل ومكافآت أخرى نظير أعمال اضافية أدوها، هذا إضافة لمن لا يظهرون في مواقع العمل إلا مع ميقات صرف المرتبات، يضعونها في جيوبهم ويديرون ظهرهم لموقع العمل الذي لا يعودون له إلا عند «الصرفة» القادمة، وأيضاً أولئك الذين لم يغادروا الوظيفة وحدها بل غادروا البلد بأكملها، تجد أسماءهم حاضرة في كشف المرتبات رغم غيابهم، بل وأحياناً يتصدرون كشف التنقلات رغم أن هذا «المنقول» قد يكون في تلك الآونة يستمتع بأسعد اللحظات في واشنطون دي سي... والمفارقة الأعجب أن كل هذا الفساد المالي والإداري يحدث في ظل عطالة فاشية بين الشباب والخريجين الذين من يجد منهم ركشة يعمل سائقاً عليها يعتبر ذلك رزقاً ساقه الله اليه، بينما العديد من الوظائف يشغلها الموتى والمهاجرون ومن استمرأوا حياة العطالة المقنعة وهم الموظفون الذين لا يؤدون أى عمل ويصرفون المرتبات على عدم الأداء... وما أصدق على هذا الحال من قول تلك البعاتية مغنية التُم تُم التي ما إن عادت الى الحياة بعد دفنها، حتى إحتقبت دلوكتها وأصبحت تطوف ليلاً وهى تغني «دفنونا في الحجّار ونبلنا نبل الفار».